(مسمار – صدئ – مؤلم)
لم أكن أدرك سبب الضحك الذي كان ينتابني عند مجمل الفعاليات الثقافية المنسقة منها والارتجالية، فعقب فعالية شعرية، تختم بشهادات التقدير ال ..، يغادر بعض الحاضرين، ويجتمع آخرون مع الشعراء ذاتهم الذين كانوا على المنصة، فتقام أمسية على هامش أمسية، مم يتسبب بحالات من التجشؤ الكثير بسبب فرط تناول شعر الشاعر نفسه، نعم إنها تخمة الشعر!! والشعر في الحقيقة ليس يتخمنا، لأنه غذاء للروح، إنما التملق الذي يعقبه وتهافت الأشباه على القراءة وفرض الرداءة وتلويث الآذان بعدما استقر فيها الشيء الجميل وقت الأمسية الأصلية.. كما كانت تدار جلسات طرب وعود وألحان قد تخلو من الرقص وقد يرافق طبلَها الرقص والغناء، كنوع من التحلية بعد أمسية شعرية دسمة!!! أوليس الشعر فنا؟ أولسنا نرفه عن أرواحنا وعقولنا بتحرير الطاقات الضاغطة عن طريق الاسترخاء بالشعر، ذلك الكلام المنمق المموسق الذي لا يخضع إلا لميزان الوجدان والروح، ذلك الكلام الذي يفتح أبواب التأويل على مصراعيها.. إذن إما شعر وإما غناء وموسيقى!! فهذا فن وذاك فن آهر!!
لا عتب على المطبلين والراقصين، إنما العتب كله على الذي يختار الطبل رفيقا، وأدوات النفخ شريعة، والنعرات الكاذبة عقيدة في الحياة.
بعض المزاح مطلوب، وبعض الترفيه مرغوب، وبعض الجنون واجب، والإفراط في الشيء يؤدي إلى التفريط في جوهر الأشياء!!
أصبحت المنصات المختارة تلك التي تُقفى بالطبل والزمر واللغو واللغط، تلك التي لا تصبر على نقائها إثر فعالية هادفة، فتسارع إلى رش ختامها بالنفث الشيطاني، مضارَبَة أو مغالاة في الإفساد، كأنها تلقت من الشيطان عرابين أبدية. أو تنشئ فعاليات غنائية ناشزة، القصد من ورائها جذب المستثقف ومنعه من التوجه إلى ندوة قويمة أو محاضرة مفيدة، أو أمسية شعرية ماتعة.. فسياسة الهشك بشك هي الأبقى ومنها يتحقق مبدأ الجذب، وما أدراكم ما الجذب في هذه المواقف!!
المنصات النخرة مدعاة للحزن أكثرّ! للشفقة، يقتات عليها دود الخشب وذباب الفراغ!! لا شيء يصدر عنها غير أصداء غربان ناعقة، كانت في الأصل نبرات للحب والسلام والحرف الذهبي، لكن الذهب صُهِر، وغاض في أرض اليباب التي تطؤها الأقدام المرتعدة من برد الضياع، وجملة النفاق وأوتاد الحقد المغروسة في تلك النفوس المريضة التي تحرِّض على هجر منصة فلان وفلان وفلان: شو بدكم بهالأمسية، فلان بيحكي كتير وبينافق في التقديم…!!! فلان ممل!! وفي حقيقة الأمر لا أحد أكثر مللا منك يا من لم تجد علاجا لا على المنصات ولا في قلوب الحسان ولا في عيون مرتادي أماكن “الثقافة”..
للأسف، أصبح الفراغ يُرمَّم بـ “شلفقة” الأشياء، لا بصناعة الحرف الجميل والفكر السديد والفلسفة العميقة والترويج لها، وطرح الفوائد، وتحقيق الإمتاع، فالإمتاع لا يكون ببوق الشيطان، وإنْ تلك إلا مغالطة يبثها من كان لديه مصالح في تدمير صرحنا الثقافي، والدفع به إلى درك الانحدار..
ما زال بحوزتنا الكثير من الوقت، والمجال واسع جدا للتراجع عن الرداءة التي تمارَس من أجل إيهام الذات بأهميتها.. الأهمية الحقيقية والمجد الحقيقي يتبلوران عند معرفة كل منا قدره الحقيقي وقدرته الفعلية ويسارع إلى إصلاح ما يريد إصلاحه، والعمل على الارتقاء وتصويب ما لديه.
ماذا لو تعاضدنا متنافسين في إثراء الساحة الثقافية، دون حقد أو حساب: احضرلي وأحضرلك، ماذا لو جعلنا الفيصل هو الجودة والرقي، ماذا لو اعتبرنا المنصة واحدة متوزعة على أماكن مختلفة، ماذا لو توقفنا عن حشو المشهد الثقافي بأضغاث الأضغاث من الفشل والأشباه، ماذا لو اعتمدنا معيار الجودة بدل الكم، ماذا لو مثل كل منا دور الإنسان الحقيقي!! منافسة شريفة.. لا مضاربة سخيفة!!
ليس عيبا أن نخطئ لكن العيب في الإصرار بكل حقد وغرور على الخطأ…
الآن أدركت سبب الضحك على المشهد “الثقافي” (تجاوزا، لأنه لا يليق ببلدي ولا بجملة مثقفيها الحقيقيين المشهد الملفق القائم). سبب ضحكي ليس أكثر من سبب ضحكي على المهرج (البهلوان – الأراجوز) الذي يهرج في السيرك فيضحك الأطفال َبأصباغه الزائفة التي تغطي ألما عميقا وفشلا شديدا، وحماقة أشد تتمثل في إظهار ما هو عكس الباطن!!
مسمار آخر دق في نعش ثقافتنا، وإنه لمسمار صدئ.. فلنقتلعه قبل استفحال الغرغرينا.