صديقي العزيزَ .. موعِدُنا الذي اتفقْنا عليهِ كما تعلمُ سيكونُ في كُلِّ الأوقاتِ إلَّا القليل مِن أزيزِ إبريقي ..
لن يُزعِجَكَ كثيرًا وأنتَ المَشغولُ بي ..
لن يَقطعَ حَبلَ صَمتِكَ، ولن يَتَلطَّخَ سُكوني إلَّا باهتزازِهِ الطَفيفِ فقط ..
لا تقلقْ يا عزيزي .. أحتاجُ حقًّا لِقَهوتي لأتمتَّعَ بصُحبَتِك ..
الكرسيُّ أمامي أصغرُ مِن اتِّساعكَ ولكِنَّه يفي بالغرضِ .. لن أقولَ تَفضَّلْ بالجُلوسِ عليهِ وأنت تَحتَلُّهُ مُنذُ بُرهةٍ بَعيدة.
رُبَّما أُربِكُكَ بانحيازي للأشياءِ الصغيرةِ مِن حَولي.. فإنَّ إنسانيَّتي جَماديةُ الهوى وتَحِنُّ للموادِ اللصيقةِ بي.
ما رأيُكَ أنْ لا أكتفي بمُراقبةِ الجِدارِ مِن خِلالِكَ، وأنْ أتَخيَّلَ أنَّ آنسةً ما حاولتْ أنْ تأخُذَني مِنكَ ..
لا تَجزَع ..
لن تَجرؤَ على ذلكَ إلَّا إذا كانتْ تَمتلكُ قُدرةً هائلةً على مجاراةِ شاعرٍ باردٍ يُجيدُ الاستماعَ وليسَ بكوميدي ..
ذلك الصِنفُ اختفى حَقًّا مُنذُ قرونٍ.. وحتى كافكا وهو المُغرِقُ في تفاصيلِ حديثهِ لم يَجعل ميلينا تَلتَفتُ له كَثيرًا .. هذا الذي يُشبِهُني في يأسِهِ جدًّا ..ما أشقاه !
ولكنْ تَخَيّلْ معي أنَّ فَتاةً.. ولا ندري لم غامرَتْ بِكُلِّ شيءٍ عقلانيٍّ وجَلَستْ معي لبُرهَةٍ يَسيرَةٍ ليسَ إلَّا ..
أعلمُ أنَّ إثارةَ الفكرةِ تَجعلُكَ تَتأنسَنُ مِثلي، وتَهتَزُّ لِمُجرَّدِ أنَّها تَخطُرُ على بالِكَ المُنعَدِمِ مِن الوجودِ أساسًا !
كيفَ تُراني أكسِرُ التكلُّساتِ في وجهي وأُزيلُ تِلكَ النَظرةَ البَلهاءَ التي ستَجعلُها تَظنُّ أنَّها هَبَطتْ مِنَ السماءِ عَلَيّ !
لُعبَةُ احتِساءِ القَهوةِ والانشغالِ بِها تَبدو جيدةً إلَّا أنَّها قَصيرةُ الأمد .. سأضطَرُّ إلى رَفعِ رأسي باتِجاهِها لتَتَسمَّرَ عينايَ أمامَ كوكبَيها العَسَليَّينِ . هل تَمنيتُها كذلك !
كيفَ سأبدأُ حَديثي مع زائرتي الخُرافيَّةِ تلك ؟
هل سأقولُ لها: مَرحبًا بكُلِّ ابتذِالٍ مُستَهلَكٍ ..ثُمَّ ماذا بعدَها ؟
قيلَ لي أنَّني ذَكيُّ جِدًّا كمُخطِّطٍ حربيٍّ ولكنَّ عَقليَ الآنَ في الرابعةِ مِن عُمرِهِ أمامَها ..
وكشاعرٍ يَمتلكُ ذَخيرتَهُ المُعجميَّةَ أُحاولُ تَعلُّمَ الأبجديةِ الأُمِّ والاستِنجادَ بكلماتٍ صَحيحةٍ لدى الأطفالِ في مَهدِهم .. ولا أنطِقُ أبدا !
لقد أُخِذتُ بَغتةً و على حِينِ غِرَّةٍ وتَمَّتِ الإطاحةُ بي تمامًا !
هذهِ المَعركةُ خَسرتُها قَبلَ أن أبدأَ أصلًا، ولكنَّني وبكبرياءِ مَلِكٍ جَريحٍ أحاولُ التَبريرَ وتَجميعَ فُلولِ المُنهزمينَ مِن جُرأتي المُصابةِ لجَولةٍ أخرى تَشِي بالمَقدرةِ على الصُمود ..
أرأيت ..
كِدتُ أنْ أغرقَ بِعَرَقي وأنا أتَخيَّلُها أمامي بل كِدتُ أنْ أهلكَ مِن انعدامِ الحيلة ..
لا بأس ..
سأعيدُ نظري للجدارِ مِن خِلالِكَ أخرى سارِحًا بمَلوكتي وحدي وأنتَ معي وسأطلبُ فِنجانًا آخرًا تَطيبُ جِراحي بِه !