لم يكن أبي يفعل شيئاً فلماذا افتقدته الى هذا الحدّ ؟!
عندما كنت صغيرة بدا لي أن الأب مثل مصباح الثلاجة، لا أحد يعرف تماماً ماذا يفعل حين ينغلق بابها.
كان أبي يغادر البيت كل صباح وكان يبدو سعيدا برؤيتنا ثانية حين يعود مساءً.
كان يفتح سدادة قارورة المخللات على المائدة حين يعجز الجميع عن فتحها.
كان الوحيد في البيت لا يخشى النزول بمفرده الى القبو.
كان يجرح وجهه وهو يحلق ذقنه، لكن أحداً لم يتقدّم ليقبله أو يهتم بما حصل له.
حين يمرض أحدنا كان هو من يذهب بنا للطبيب ومن ثم الصيدلية لإحضار الدواء.
كان مشغولاً على الدوام.
كان يشذب أغصان الورد في ممر
منزلنا، حتى لا تجرح احدا منا.
كان هو من (يزيّت) عجلات مزلاجي كي تجري على نحو أسرع.
وحين حصلت على دراجتي الهوائية كان هو الذي يركض إلى جانبي، وربما قطع كيلومترات قبل أن أسيطر عليها وحدي واتعلم القيادة.
هو الذي كان يوقع بيانات علاماتي المدرسية.
وقد أخذ لي صوراً لا تحصى من دون أن يظهر هو في واحدة منها..
وهو الذي كان يشد لأمي حبال الغسيل المرتخية.
كنت أخاف من آباء كل أصحابي إلا أبي، لم اخف منه يوما.
ذات مرة أعددت له الشاي، وكان عبارة عن ماء فيه سكر بدون شاي ومع ذلك جلس في المقعد الصغير
وأخبرني أنه كان لذيذاً.
وبدا مرتاحاً جداً.
عندما كنت ألهو بلعبة البيت كنت أعطي (الدمية الأم) مهمات كثيرة، ولم أكن أعرف ماذا أوكل من الأعمال لـ (الدمية الأب)، لذلك كنت أجعله يقول:
أنني ذاهب للعمل الآن، ثم أقذف به تحت السرير.
وذات صباح عندما كنت في التاسعة من عمري لم ينهض أبي ليذهب الى العمل.
ذهب إلى المستشفى.
ثم وافته المنية في اليوم التالي.
ذهبت الى حجرتي وتلمست تحت السرير بحثاً عن (الدمية الأب)، وحين وجدته نفضت عنه الغبار ووضعته الى جانبي على الفراش.
لم أكن أتصور أن ذهابه سيؤلمني الى هذا الحد.
لكن ذهابه لايزال يؤلمني جدا حتى الآن وافتقده.