اللوحة الأولى :
الزّمن فجر كاذب …
والرّحب قفر …
والسماء رافلة في الضباب…
وريح عاتية تولول في أرض منبسطة كالهمّ…
وضوء مسفوك الأمنيات على الصخر …
وأنا المدجّج بذعري ، وحيرتي ، وحفنة أمنيات ، أسير في أرض تشبهني ، ولا عهد لي بها ، تحيط بجيدها المترهّل سلاسل من جبال عارية ، وصخور ، وطريق ملتوية كالأفعى تتهجّى دربها إلى قمم الجبال ، وبعض نبات يتيم يراقص السفوح في خفر ، وحجارة منتشرة كالوباء ، كأنها الإبر ، وأنا الغريب المتلّبس بصمته أسير في زحمة الأسئلة ، أخبط في القفر خبط عشواء ، يحيط بي عواء الطريق من كل أقطار بدني، ووجهي الحائر في البريّة يمشي في الرّحب بلا دليل .
توغّلت في الخلاء …
إنّه الفراغ ،وقد حلّ بكلّ شيء…
جلت بناظري في الأرجاء أتصفح الفضاء ، لعلّي أدرك نبع حياة ، أو ما يدّلني عليه ، ولكن لا شيء يبعث في العين شهوة الرحلة ومواصلتها .
مكان قاحل كجثة قديمة
وهدهد أعشى
وعاصفة زانية تهدهد هضابا هامدة
سرت في مناكب الخلاء ، وأنا المحمّل بخوفي، أسير في هذه البقعة ، لعلّي أدرك نارا تضيء ما حولي ،أو ماء يسقي عطشي ،أو نورا ينحر وحشتي ، ولكن، كلّما تقدّمت خطوة تاهت منّي الخطوات.
ضربت في الأرض زمنا لم أقدره، حتى أدركني التّعب ، فجلست فوق ربوة يتيمة وجدتها في الطريق .
ولما استعدت بعض سكينة، وحل بي الهدوء، حملني ذهني في غفلة مني إلى صورة أبي وزورقه، فعدت إلى أيّام الصّغر وبياضها ، وإلى حياة اللّهو الطفوليّ وعبثها ، وتذكٍّرت صوت أبي المدمدم يبعث في البحّارة طقوس السعي في عمق البحر ، وأنا على حافة زورقه أتابع حركته و سكونه.
كانت أياما جميلة، عرفت فيها معنى الحياة ولذّتها .
أبي بحاّر شهم، ورجل مقبل على الحياة ، يغازل الحوت في مصادره ، ويكدح في البحر كدح من نذر عمره للسعي،فعرفت بين يديه جمال الكون وكنهه ، وتعلمت بهاء الفعل ولذّته، وكبرت على صوته في الماء وعلى اليابسة ، وترعرعت بين يديه في البيت ناهلا من معارفه حتى اشتد عودي.
وذات فجر نهض أبي متوجّها إلى مرفأ القرية ليعدّ الشّباك والزورق في انتظار قدوم الصيادين ، فالطقس صحو ، والبحر هادئ ، وبينما هو منهمك في عمله على حافة الشاطئ إذ بزمرة من شباب قريتنا يشدونّ وثاقه ،وذبحوه من الوريد إلى الوريد ،وحملوه إلى وجهة مجهولة على متن زورقه، وألقوا به خارج أسوار القري . لقد أصبح أثرا بعد عين، وقد كان من قبل سيّد القرية، وقائدها ،ومنبع فخرها ،ومستودع أسرارها ، وعامل بقائها بين سائر القرى ، لكنهم تنكّروا له ، وكادوا له كيدا ، وطعنوه طعنة غادرة ،لا قيام بعدها.
هكذا أنا بعدك يا أبي…
ملاّح بلا سفن …
مدن بلا خرائط…
كون بلا فجر…
وطريق تعانق فوضاها
وها أني خرجت طلبا لوجهك في مشارق الأرض ، ومغاربها، وفي الخلاء ، وبين المرافئ ، وفي المدائن والقرى ، فينخفض بي درب ، ويرتفع بي آخر ، وأنا في مناكب الرحلة أكدح كدحا ، فربّما ألاقيك.وتداعب صورتك خيالاتي ، كما داعب موسى عصاه يوم الزينة ، فتلتهمني صروف الدهر حينا ، وتتلقّفني متاعبها أحيانا ، وأنتصر في ساحاتها طورا ، ويعفرني غبارها أطوارا ،فأعاند الريح ، وأركب موج الموت “كنوح الأمة “… هكذا أنا بعدك يا أبي …
أسرج على صوتك وجهي …
وأمتطي صهوة الماء …
وأركب الطريق…
وأطلق العنان لخرائطي المبعثرة …
وأسرح في شرايين الكون أسئلتي تتهجى الطريق إليك …
وبينما أنا على الحالة تلك من انهمار الأوجاع، والذكريات على الربوة ، إذ بصوت يطلّ عليّ بغنائه الطّروب اللّعوب من وراء الجبال ، فشعرت بفرح يقتحم علي وحدتي .
تطلّعت نحو الصخر…
لم أر في البرّ إنسيّا ، وفتّشت بعينين نهمتين عن صاحبة الصوت وقد بعثت فيّ أمنا بعد خوف ، وأملا بعد انهيار ، وبعد زمن استغرق لهفتي أدركت بعسر مصدر الصوت ومنبعه.
إنّها أنثى صقيلة الوجه، باذخة
المفاتن ، تبعث في الكون بهمسها المحبّب فتنة، تقف كما اليقين على الصّخر . دقيقة العود ، رافلة في شهوتها ، متدفّق تثنّيها من مرتفعات أنوثتها ، تراقص الريح ، وبيدها جذع نخلة تلوّح به في الفضاء ، وضحكاتها ترفرف فوق رؤوس الجبال ، وجداول من نور تجري من تحتها ، وشمس خرافيّة الجمال تنير وجنتيها .
جرفني نحوها سيل من الوله الطفوليّ ،ودفعتني الشهوة نحوها دفعا.
فأسرجت إليها حواسّي…
ووجّهت وجهي شطر صوتها…
تعثّرت في طريقي إليها ، وأدمى شوك الطّريق قدميّ ، فتحاملت على ألمي ، وانطلقت نحوها. سرت والجبال ، يصعد بي درب ، وينخفض بي آخر ، وهي المتربّعة بغنجها على رأس الصّخرة غائبة في ضحكها المتبرّج ، وجذع النخلة بيدها يضيء ما حولها.مشيت ، والرذاذ يعزف على وجه الصخر موسيقى جنائزية.
لا أمل يدفعني نحوها إلاّ بلوغ مجلسها …
ولا هدف يقدح فيّ شهوة السّير إلاّ ضحكتها …
والأرض من تحت قدمي لا تنبس بحرف ، والسّحاب في عليائه عليل الخطوات ، يراقبني بعين فارغة .
سرت متحسّسا دربي إليها زمنا لم أقدّره ، وأسئلتي بين جنبي نار تلظّى .
شعرت بتعب شديد ،وبرعدة حلت بكامل أقطار بدني ،كما أحسست بدوار عنيف في رأسي ،وبوخز الألم ،وقد أتى على كل مفاصلي ،فخلتها سكرات الموت وقد حانت،وحان حينها ،فثقلت قدماي،ولبس الوقت وجه سلحفاة ، فأصبح ثقيلا، بطيئا ،قاتلا.
ولمّا بلغت مجلسها بعد مشقّة ، سقطت على الأرض تحت قدميها جثة هامدة ، لا أكاد أشعر بشيء من حولي ، وغبت عن الوجود من شدة التّعب والجوع والبرد،ولم أشعر من بعد ذلك بشيء ،ومات في الإحساس بالزمان والمكان ،وفارقت روحي جسدي ،فلم أفقه من حالتي شيئا ،وحط الليل على أغصان عيني،وماتت في كل الحواس ،ولم تمت.
فرأيت حينها فيما يرى النائم عوالم لم أطأها من قبل ، ولم أر مثلها على امتداد سني عمري :
كنت في مكان فسيح مفردا ، أهيم في بساتين متاخمة لشاطئ ممتدّ ، وخيول كأنّها العهن تجري على رمله ، تسابق الريح ، لذة للناظرين ، ونار في رأس الجبل ، وقد ألقت بظلالها من بعيد على صفحة الماء ، وامرأة قادمة على مهل، تلبس فستانا ناصع البراءة يتهجّى الرّمل ، وأنا الجالس على حافة البحر أتابع بشغف تثنّيها من بعيد ، وقد أحاط بها سرب من الولدان ، يحملون بأيمانهم شموعا وفوانيس تضيء المكان ، وأصواتهم مرتفعة بأناشيد وتراتيل كأنّها القدّاس.
يحمل بعضهم على أكتافهم عرشا ، وقد تربّعت عليه نخلة ، وعيون ذئاب بالعشرات تراقبهم من وراء الجبال ،وفي الشعاب،ولمّا بلغوا مكانهم المنشود أنزلوا عرش النخلة برفق ، وطفقوا يحفرون حفرة تحت مطر من التهليل ، وسيدة الفستان الأبيض كالفراشة تحوم حولهم ، تبارك سعيهم ، كما يبارك الربّ عياله ، فتحثّ هذا ، وتدفع ذاك ، وهم بين يديها منهمكين في الحفر بعزم ، ولمّا أتمّوا عملهم ، توجّه بعضهم نحو العرش الجاثم على صمته وأنزلوا منه النخلة برفق برعاية صاحبة الفستان الأبيض ومباركتها ، وتوجّهوا بها إلى الحفرة ، ومن ورائهم سرب آخر، وقد أطلق العنان للأدعية والتراتيل ، وتقدّم الموكب في خشوع رويدا… رويدا نحو الحفرة لزرع النخلة ، وكانت الدّنيا من حولهم ساكنة وديعة ، والبحر على مقربة منهم يتابع قدّاسهم لاثما وجنتي الشاطئ في حياء ، وفجأة نزل قطيع من الذئاب من المرتفعات شاهرا أنيابه ومخالبه للفتك ، وحلّت الفوضى بالمكان ، وارتفعت الأصوات بالصياح ، والعويل ، وفرّ الولدان في كلّ درب ، وتحلّق الذّئاب حول النخلة الملقية على الرمل بجانب صاحبة الفستان الواقفة في وجه الذهول ، وزرعوا أنيابهم فيهما، ينهشون لحميهما حتّى ابتلّت منهم الأنياب باللّون الأحمر ، وسال الدمّ على الشاطئ أنهارا ، فانتفضت على بشاعة ذلك المشهد مذعورا، وعدت إلى الحياة بعد موت ،وإلى الوجود بعد غياب ، فوجدتني بين يدي رفيقتي على الصّخرة في ذلك القفر الذي دخلته منذ قليل ، وقد احتضنتني باكية ظنّا منها بأنّي غادرت الحياة ، وقد غاب عن عيني مشهد الدّم وصدى الجلبة والعويل والصياح ، ولم يبق منه إلاّ رعدة حلّت بجسمي من شدة الخوف. تطلّعت في وجه الجالسة قرب رأسي المثقل بعينين غائرتين، فاستقبلتني بوجه شاحب ، وقد أصابها الذبول من شدّة الهلع ، ولمّا التقت عيناي بعينيها أطلقت في الفضاء ضحكة مدويّة فرحا بعودتي.
أجلستني بجانبها …
والسؤال يحلّق فوق رأسينا…
والكلام في حنجرتها قارب في عرض الدهشة في يوم مطير…
لملمت بعض كلمات ، ونسيم الصباح من حولنا يداعب خصلات شعرها برفق ، ويدير كؤوس المطر على الصخر. تململت في مجلسها واستوت في جلستها لتبادرني بالقول :
من أيّ الدروب انحدرت ؟ ومن أيّ الصّحف تدفٌّقت ؟ أمن جنّ الأرض أنت ؟! أم من إنسها ؟!…لقد بعثت فيّ الرّعب ، وظننت أنّك فارقت الحياة ، فتملّكني الخوف واستأسدت حيرتي ، فمن أنت أيّها الغريب ؟….
بعث فيّ صوتها الشفيف سكينة فقدتها منذ دخلت هذا القفر . اعتدلت في جلستي ، متحاملا على تعبي ، وابتسمت في وجهها ، وانهمر الكلام من فمي :
سليل صهيل الريح أنا…
صيحة في معاجم اللّغات خطاي…
من رحم السؤال بعثت…
ركبت منّي إلى أبي المفقود :
همّي …
رحلتي …
سؤالي …
أبحرت في الأرض مفتّشا عنه ، وعن زورقه ، وعانقت في سفري وعر الدروب ، تسلّقت مرتفعات الجراح ، بحثت عنه في الحناجر ، في صفحات الوجود ، في صحف الأولين،وقليل من الآخرين ، سرت في مناكب الأرض لعلّي أدركه ، لكن خاب السعي ،وخاب الطّالب والمطلوب.
لقد خرجت مفتّشا عنه منذ سنين . طفت الشرق والغرب…
دخلت مدائن وقرى…
وتوقّفت سائلا عنه في عشرات المرافئ وعن زورقه ، ولكن في كل مرة أعود محمّلا بخيباتي وفشلي ، ورغم ذلك لم أبخل ، ولن أترك الرحلة والرحيل حتّى ألقاه .
دخلت هذا الخلاء فربما عثرت على أبي هنا ، فسألت عنه الجبال والهضاب وكثبان الرّمل ، وسألت عنه السّفوح والقمم والشّعاب بعدما فشلت في رحلة البحث عنه في البحر وعلى ضفاف مرافئ الدّنيا جميعها ، كنت أمنّي النّفس بالعثور على من يدلّني عليه ، أو يعرف طريقه ، أو أجد له أثرا ، فاستقبلني هذا الخلاء بسكونه المميت وعويل ريحه العاتية ، حتّى أدركتك أنت في هذا القفر على شاهق الصخر ، فركبت منك إليك في هواك العاديات لعلّي أجد فيك أبي المنذور للصّباحات ، أو أقف في حديثك على خبر يدلّني على الطريق إليه.
ووقفت بباب لحظك أرتّل تعويذة لك ، وله، حتّى لاح لي في يمّ عينيك راكبا زورقه كما عهدته ،يأمر وينهي ، وصبيانه على ظهر الزورق في حركة واضطراب يلقون بشباكهم في عرض البحر يتنسّمون رزقهم في مصادره ، فسرت نحوك لأتطلّع في وجه أبي لكي أستعيد أيّاما اندثرت .فرسمت ابتسامة شاحبة على شفتيها ، وطأطأت رأسها دون أن تنبس بحرف .
ولما أرهقني صمتها ، توجّهت إليها قائلا :
ها أنّك وقفت على سرّي وسيرتي، فمن أنت أيّتها الساكنة في شغاف الكون ؟!
فاستوت، ورفعت رأسها إلى السّماء بعد إطراق كمن يطلب وحيا، أو معونة من وراء حجاب قائلة :
قتلتنا أمانينا يا الغريب…
وألقت بنا قبائلنا على قارعة الحريق …
فنهضنا على إجهادنا من مرقدنا…
من زمن السكون …
من مدائن الغبار …
وحلّقنا من جديد …
نهشت أجنحتنا ريحهم العاتية…
وعبثت بنا مخالب الغياب والعباد…
فجثمت مراكبنا على رمل الوقت تستعيد خيبتها …
ورغم موت قوافلنا على الطريق…
نحاول صعود جبال الضوء…
ربماة عانقنا ذات فجر فجرا وليدا…
فتستعيد مدائننا بريقها…
ونستعيد الوجود وجودنا…
وتعود شمسنا إلى سمائنا…
ولمّا أتمّت حديثها ، كفكفت دمعتها ، ولملمت أوجاعها ،وأطرقت قليلا ، ثم توجّهت إلي مستدركة :
مثلي في الوجود، كمثل عروس من الغابرين ، نهشت الكلاب ترائبها ، ومزّقت أنياب الذئاب رحمها ، وشوّهت مخالب الخلق مباهج كونها .
لقد قطّعوا أمنياتي إربا إربا ، وركبوا في بحر دمي زورق الغدر ، وساروا في الأرض قتلا وتشريدا.
أطربني حديثها ،وشدتني إليها سيرتها ،فرقص قلبي على أديم روحي فرحا وعشقا ،وتعلق بها الفؤاد.
ثمّ أفصحت في القول مرّة أخرى:
أنا حيرتك في الآفاق منتصرا…
أغنّي للنّخل من كوّة الشكّ…
أطلبني في شرفات السؤال…
أجوب المكان …
و أتصفّح الزمان …
أطلب المستقرّ ، ولا قرار لي…
كبراق قدّ من جليل العبرات أنا…
يمخر عباب الفؤاد المتيّم بالصباح…
و ينثر في جراح السؤال تباشير الولادة …
ويبعث من القبور نخلا بعد قحط…
ويحثّ الماء في الماء…
تلك هي سيرتي مذ كانت السماء دخانا…
نذرت حياتي للنّخل أزرعه حياة في الآفاق.
انتشلني حديثها من مخالب الخيبة، ووجد هوى في نفسي كلامها ، ففرحت فرح من عثر على صنوه ، أو وجد صدى وجدانه ، وتحت شلاّل من الموسيقى وجدتني أسبح بجناحين من ماء ونور في سماء الوجود سمائها ، أتصفح في سريرتي بهاء الكون الواقف في شرفتها المشرعة على نسيم كالحرير يراقص أعمدة الضوء المنتشرة في الفضاء حولنا ، والسماء من فوقنا كأميرة الحكايات القديمة تسير على بساط ملكي تبارك لقاءنا . فأنستني بأحاديثها تلك ، تعبي ، ورحلتي ، ورحيلي ، بل زادتني بقولها ذاك إصرارا على الرّحلة والترحال بحثا عن أبي وزورقه.
ودون عميق تفكير أخذت بيمينها ، وانطلقنا نحو الآفاق لنواصل البحث معا عن الفجر لنزرع في الأرض نخلا بعد موت.
” ”
رواية مخطوطة
(نص جنين منقح – أكتوبر 2024)