في المكتب.. طلبت قهوتي كالعادة.. احتسيها على مهلٍ.. أرتشف رشفة وأعود إلى شرودي.. يسألني صديقي علي عمّا كان يزعجني.. أخبرته بأنّ حلُماً مُرعباً يُؤرّقني وأراه في منامي.. أسرد عليه ما كنتُ أراه في الأعوام المنصرمة وما رأيته في ليلتي تلك، حيث كنتُ أرى كلباً أسوداُ.. أحمر العينين.. كبير الحجم.. يربض في منطقة بعيدة.. شاسعة وقاحلة.. ظلامها دامس كقعر بئر.. لست أدري ما الذي أتى بي إلى ذاك المكان اللعين! يتقدم مجموعة من الوحوش.. جميعها تُكشّرُ عن أنيابها.. تقترب مني تنبُح وتصيح بأصوات مختلفة.. جميعها تُصْدرُ أصواتاً عالية ومرعبة.. تقترب مني.. يبدأ ذلك الكلب بالنُباح بصوتٍ غريب.. يفغر فمَه حتّى أرى كلّ أضراسه الكبيرة.. يُشير برأسه إليّ وكأنّه زعيم لعصابة أشرار.. تُهاجمني تلك الوحوش من كلّ حدبٍ وصوب.. ما إنْ يُمْسك أولها في طرف كُمّي.. حتى يبدأ يجذبني إليه ويسحبني لأتوسّطها.. أصحو من نومي مذعوراً وأرتجف رعباً. قاطعني عليٌ طالباً منّي بسُخرية ومداعبة أنْ أريهِ آثار تلك العضّة على يدي…
يعود صالح لسرحانه وشروده.. تلك الفتاة تسيطر على تفكيره.. صورتها لا تغادر خياله.. يراها تبتسم وهي تجلس في فنجانه.. سَحَرهُ حُسنها وجمالها الأخّاذ.. تمنّى لَوْ أنّها رشفت من فنجانه ولو رشفة واحدة.. ليُقبّل ذلك الفنجان الذي قبّل فمها.. أو أن تكون قد لامست يد الفنجان فيلمس أثر أناملها.. فتصيبه قُشعريرة لمس آثار الحبيب فتستوطن قلبه وتتربع في حجراته.. أمّا ابتسامتها.. فقد أصبحت دليله في كلّ خطواته لتملأ قلبه بحبّ مفاجئ.
كان يحلم بأنّها خُلقَتْ لسعادته.. وأنّه خُلق لإسعادها.. هل هي نصفه الجميل الغائب؟ حتّى أنّه لا يعرف عنها شيئاً.. لمْ يكلّمها.. طأطأ رأسه وأمسكه بين يديه وشرد بتفكيره.
بينما هو على هذا الحال، وإذا بإضبارة تمتدّ بصمت وهدوء بين يديه، نظر إليها.. أمسكها.. نظر إليها برهة.. ثم أغلقها دون أنْ يرفع بصره لمنْ يقدّمها! لا يرى إلاّ صورة من سرقت قلبه وغابت.. تركته وحيداً يهيم بخيالاته إلى المجهول.. إلى ملاكٍ اقتنصت منه العقل والروح.. أعاد المعاملة لمقدّمها (دون أنْ يرفع رأسه)، قائلاً: لو سمحتَ يا أخي.. اذهب وأحضر الطّوابع.
امتدّت يدٌ تحمل بين أصابعها الطّوابع المطلوبة.. نظر إلى تلك اليد.. لقد كانت أصابعها رفيعة.. بياضها كبياض الثلج.. ناعمة وكأنّها يد لعبة.. تَزَيَّنَ أحد أصابعها بخاتم عليه خرزة زرقاء.. تتدلى منْ رسغِها سلسلة ذهبية ناعمة.. يدٌ يدلّ جمالها ورقّتها، على الجمال الفائق لصاحبتها.. رفع رأسه ببطء.. نظر إلى صاحبة الأظافر المطليّة.. صُعقَ ممّا رأى! نهض على قدميه فاتحاً فمه باستغراب.. قائلاً في سريرته: “يا إلهي! إنّها هي..”، تسمّرت عيناه واتّسعت حَدَقتاه وهو ينظر إليها، واضعاً يداه على مكتبه.. كانت يداه وقدماه ترتجفان.. ابتسمت الفتاة بوجهه.. وقالت: صباح الخير.
– صالح: ص.. ص.. صباح النور.
– الفتاة: لو سمحت، أريد إنجاز معاملتي، وقد تمّ تحويلها إليك.
– صالح: أهلا وسهلا بكِ…
بقي واقفاً مندهشاً، نظر إلى عينيها.. أبحر فيهما.. تساءل في نفسه: هل سيكون غرقي في بحر عينيها الساحرتين؟
انتبه صالح لنفسه، فقال لها : تفضلي.. اجلسي.
– الفتاة: شكراً.
– صالح: عفوًا.. ألمْ نلتقِ بالأمس؟
– الفتاة: ربّما… أرجو أن تساعدني بإنجاز هذه المعاملة.
بدا عليه الإحراج، فقال : سيتمّ كلّ شيء حالاً.. لا تقلقي.. أعطني الطوابع.
لم يشأ أنْ يقوم بإلصاق الطّوابع، بل كان يفضّل النّظر إليها.. والنّظر فقط.
– صالح: عفواً أيّتها السّيدة…
– الفتاة: لطفاً.. آنسة.
– صالح: أعتقد بأننا التقينا بالأمس..
– الفتاة: لا…
– صالح: أتذكّر صورتك منذ الأمس…
– الفتاة: إممم… طأطأت رأسها باستحياء.
طلب لها فنجان قهوة، فشكرته.
تركها صالح تجلس في مكتبه.. السعادة والفرح ترتسمان على محيّاه.. أحسّ بأنه نسر يحلّق في السماء.. الفرحة لا تسعه.. تنقّلَ بين مكاتب زملائه مدندناً:
يا حلو صبّح يا حلو طلّ
يا حلو صبّح نهارنا فلّ
نظر في معاملتها.. أخذ ورقة عن مكتب أحد الزملاء.. وبدأ ينقل عنها ويكتب:
*الاسم: رشيدة العمر
* مكان وتاريخ الولادة: فلسطين1965م
*الحالة الاجتماعية: عزباء
*المهنة: معلمة في مدرسة سكينة بنت الحسين للإناث.
وقام بتدوين رقم هاتفها.
وضع الورقة في جيبه.. عاد إليها.. كانت تجلس تنظر إلى أشيائه على المكتب وكأنها تتفقدها.. جلس خلف طاولة مكتبه.. نظر إليها.. وبكلّ سعادة أخبرها بأن معاملتها قد تم إنجازها بالكامل.. شكرته.. مدت يدها لتأخذها.. لكنه سحبها للخلف وقال: آنسة رشيدة، ستتسلّمين معاملتك جاهزة غداً أو بعد غد.. راجعيني لتتسلميها حال تجهيزها.. فقط تبقّى توقيعها من المدير وهو غير موجود الآن.
– رشيدة: ومن أين لك اسمي!
– صالح: عذراً.. قرأت اسمك على المعاملة.. فهل هذا يزعجك؟
– رشيدة: لا..! (قالتها على استحياء).
– صالح: يسرني ويسعدني يا آنسة أن نلتقي اليوم على الغداء.
قالها وهو يشعر بقرارة نفسه بأنّه بدأ يتخبّط ولا يدري ما يقول.
– رشيدة: ولكن…
– صالح: أرجوكِ.. سأكون بمنتهى السعادة.. هما ساعتان ونلتقي.. – ما رأيك؟
– رشيدة: حسناً.. أين؟
– صالح: في المطعم الذي التقيتك به.
– رشيدة: ولكن…
– صالح: هذه دعوتي الأولى لكِ.. وأرجو أن تتقبليها.
أومأت بالقبول بعدما امتقع وجهها احمراراً من الخجل.
خرجت من عنده سعيدة فرحة.. تابعها بنظره حتى خرجت من مكتبه.. أخرج القُصاصة من جيبه.. حدّق بها. هل كان يعيد قراءتها؟ أم أنّه كان ينظر إليها بعينيه فقط؟ عقله ذهب مع صاحبتها.
عاد لشروده من جديد.. أخرجه عليٌّ من شروده هذا حين سأله عن تلك الفتاة، وهل أنّه وقع في حبّها؟ ابتسم علي بخبث وهو ينتظر الجواب.. أومأ له صالح برأسه موافقاً على ما قاله وابتسم ابتسامة لطيفة، وبينما هما على هذا الحال.. وإذا بهاتف المكتب يرن.. لم يجبه.. فقط أزاح بصره عن الأقصوصة ونظر إلى الهاتف.. عاد الهاتف للرنين من جديد.. رفع السماعة بهدوء وبطء شديدين.. لم يتكلم.. بل وضع السماعة على أذنه.. أتاه الصوت من الطرف الآخر مباشرة.. كان صوتاً مرعباً.. صارخاً:
“الحق يا صالح.. أبوي مات!”.
انتفض صالح واقفاً، وقال: “شو؟.. شو بتقول يا ماجد؟! “.. ولكن الخط أُقفِل..
ناداه علي.. لكنّه لم يلتفت إليه، تمتم وهو مندفع: لقد أصبحت وماجد لطيميْن.. أصبحنا لطيميْن يا علي…
ذهبت رشيدة إلى المطعم حسب الموعد المتفق عليه، لكن صالحاً لمْ يحضر، انتظرته ساعة.. تستنشق أنفاسها قلقاً.. تزفرها ألماً من الانتظار الذي طال، ولكنّه لم يأت.. كم أقلقها ذلك الانتظار.. كان مملّاً مزعجاً، ظلّت تجول ببصرها في أرجاء المكان.. تنظر إلى الداخل والخارج، ولكن.. دون جدوى. بدأ الشك يراودها.. أسرّتْ في نفسها: ما الّذي أخّره؟ بغضب، نادت على النادل.. دفعت ثمن الشّاي الذي طلبته وغادرت مُسْرعة.
اغتاظت كثيرًا.. أرادت أن تذهب إلى مبنى الوزارة لاستطلاع الأمر، ولكنّها تذكرت أنّ وقت الدوام قد انتهى. عادت إلى منزلها، والقلق بادٍ على محيّاها لا تدري ماذا ستفعل.
انشغل تفكيرها بما فعله صالح بها.. لقد أحبته .. فهل خدعها؟ هل هذا الذي يسمى حباًّ من أول نظرة؟ يبدو أنها كذبة جديدة.. أيكون صالح مِنْ هذا النوع مِنَ الرجال؟
خلال نومها في تلك الليلة.. تقلبت في فراشها كثيرًا.. لقد سيطر صالح على عقلها فاشتعل غضبها، حتى أنها لم تستطع النوم.. جميع أحاسيسها بدت مرتبكة.. نهضت من سريرها متثاقلة، أخرجت صورتها القديمة.. بدأت تُمعنُ النظر فيها وتبتسم.
في صبيحة اليوم التالي، ذهبت رشيدة إلى مبنى وزارة التربية والتعليم لاسترداد معاملتها وفضح سلوكه. دخلت مكتب صالح.. لم تجد في المكتب سوى صديقه علي، سألته عنه.. فأخبرها بأنّ والده كان قد فارق الحياة، بعد خروجها ذاك اليوم من الوزارة بدقائق معدودة، تأسفت.. وخرجت.
تأسفت لوفاة والده ، لكنها تشعر في قرارة نفسها بسرور كبير، لأن صالح لم يهملها.. سرّها ذلك كثيراً، رغم ألمها على مصابه.. تضاربت أحاسيسها، هل ستفرح أم ستحزن؟
تغلب الحزن عليها، فالحزن أقوى تأثيراً من الفرح في الإنسان، وصلت بيتها.. دخلت غرفتها.. واستلقت على سريرها، كانت متعبة.. أيام قليلة تعبر فضاء الحَيْرة، وصالح يُحلّق في عقلها وقلبها.. يتنقّل بين الاثنين.. لا يترك مجالاً لأحدهما أن ينفرد به، كعصفور الكناري ينتقل منْ غصن إلى غصن، على شجرة يانعة
الاخضرار، وبينما هي شاردة في تفكيرها.. رنّ هاتفها.. رفعت السماعة.. جاءها صوت حزين محشرج من الطرف الاخر: السلام عليكم.
– رشيدة: وعليكم السلام.
– هو: لطفاً.. هل لي بأن أكلّم الآنسة رشيدة؟
– رشيدة: تفضل.. أنا رشيدة.. من معي؟
– هو: أنا صالح الأحمد…
– رشيدة: أهلاً.. أهلاً.. البقيّة بحياتك لوفاة والدك.. (قالتها بارتباك واضح، وامتدت يدها إلى شعرها.. تنساب عليه تصففه وكأنّه يراها).
– صالح: هل توقعتِ بأن أكون أنا المتّصل؟
– رشيدة: أكيد، لا.. ولكن.. من أين لك رقم هاتفي؟
– صالح: أنسيت أنّني أخذت معلوماتك عن المعاملة؟
– رشيدة: آآآآه فعلاً.. يبدو أنني نسيت ذلك…
– صالح: لن أطيل عليكِ.. أتمنّى أن تقبلي دعوتي على الغداء غداً.
– رشيدة: وهل ستحضر هذه المرّة..؟ ( قالتها ساخرة.. تُداعبه )
ودَّعها على أمل أن يلتقيا في اليوم التالي.
انطلقت رشيدة مسرعة إلى خزانتها.. أخرجت الصورة التي كانت تحملها يوم ضياعها وبدأت بالنظر إليها والابتسام.. تلك الصورة التي كانت تنظر إليها حين تُسَرّ أو تنزعج، كانت مُؤنستها ورفيقتها وذكرى طفولتها التي لا تتذكّر منها إلا هذه الصورة.. تُحِسُّ بأنها رفيقة دربها، التي تأتمنُها على كلّ أسرارها.