لمْ أنَمْ طيلة ليلة الموعد.. في صباح ذلك اليوم، نهضت من فراشي باكراً، رغم زقزقة العصافير، وصوت حفيف الأشجار الخفيف، والصباح الرومانسي النديّ، إلا أنّ الارباك كان يُسيطر علي، عندما التقيته، ضحكت لي الدنيا بكلّ ما فيها، كنت أحسّ بأنّ الكوْن يبتسم لي، وأنا أملكه، أرى نفسي فراشة تتنقل بين الأزهار، قلبي يرقص فرحاً، أسمع دقّاته بانتظام، تمنيت لو لم يأتِ الوقت الذي اضطررنا فيه إلى المغادرة. كانت الزهور الاولى التي زرعناها في حديقتنا. اليوم.. نحن نرشّها بعذب الندى، نسقيها على مهل، وهي تنمو وتكبُر. سنقطفها معاً، لنزرع وروداً في حديقتنا الكبرى، منذ ذلك اليوم والسعادة لا تفارقني.
كانت رشيدة منسجمة في سرد ذكرياتها الجميلة مع صالح، والفرح يلفُّها، واضعة يدها اليمنى على بطنها، تتحسّسه برفق.. هذا هو داء القلوب وعلاجها يا صديقتي.. هذا هو الحب.
– ياسمين: ههههه.. على رسلِكِ لقد ابتعدتِ كثيراً.
– رشيده: اذهبي يا ياسمين لا تترددي.. سيكون أجمل لقاء.. ولن تُنْسى ذكراه.. هذا ما أتوقعه.
– ياسمين: حسناً، وماذا سأقول لوالدي؟
– رشيده: أخبريه بأننا سنذهب للغداء معاً في مطعم قريب، وسأطلب من صالح أن نذهب معكم.
– ياسمين: لنفس المطعم! وستجلسون بعيداً عنّا طبعاً.
– رشيده: أكيد.. وهل نحن عواذل حتى نجلس معكم؟.
عادت ياسمين إلى بيتها.. جلست مع والدها وقالت: أبي.. أريد أن أذهب اليوم مع صديقتي رشيدة، لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم القريبة من هنا، ولن أتأخر عليك.. ها.. ما قولك؟.
سرح والدها بفكره، عائداً إلى سنوات خلت.. عاد بذاكرته إلى فلسطين.. طوى فكره سنواتٍ من عمره بثوان ٍ معدودة . استذكر يوم كان يعمل مقاولاً، وكيف أنّ حياته كانت سعيدة هانئة.. لم يكن يضنُّ على أسرته الصغيرة بشيء.. جاء الاحتلال، تدهورت حالته المادية، فقد انقطع عن العمل، هو من النّاس الذين هُجِّروا إلى عمان، لم يستطع التأقلم مع هذا الواقع الجديد، توقّف عن عمله، قام ببيع ممتلكاته من معدات و آليات.. بدأت الحياة تأكل مدخراته بنهم شديد.. قام بفتح بقاّلة متواضعة، لم تكنْ هذه البقّالة تحوي الكثير من المواد.
أعداد السكان قليلة، والبقالات كثيرة، فما يجنيه هو القليل جداً من المال.. نادراً ما كان يأتي أحدهم للشراء.. مدّخراته بدأت تتآكل وتتناقص، فأعباء الحياة كانت كما النار في الهشيم، حتى أصبح فقير الحال، تهاجمه الأمراض من كل حدْبٍ وصوب.. يستمر التراجع في وضعه المادّي والصحي.. يهبط مستوى معيشته، بات من الفقراء والمعوزين.
– نادته ياسمين قائله: أبي.. حبيبي.. إلى أين وصلت؟
– تنهد الأب تنهيدة عميقة ثم قال: هيييه.. حياة!
– ياسمين: ما بك يا أبي؟
– الأب: لا شيء يا ابنتي.. لا تـأخذي ببالك، لكن.. يا بنيتي .. أنتِ تعلمين بأنني لا أرفضُ لكِ طلباً.
– ياسمين: لا عليك يا والدي، صديقتي رشيدة هي التي قامت بدعوتي.. فهي من ستتكفل بالدفع.. أعي تماماً ظروفنا وما نعاني…
– الأب: إذن على بركة الله يا حبيبتي، اذهبي.. ولا تتأخري عليّ، فأخاف أن تُعاودَني الأزمة.
– ياسمين: تسلم لي يا أحلى وأطيب أب.. ومَنْ لي بالدنيا غيرك؟ لن أغيب طويلاً.. أشكرك يا والدي العزيز.
حضر الدكتور فالح إلى بيت صديقه صالح.. كانت هناك ياسمين تنتظر مع رشيدة وصالح.. اجتهدت أن تتميز في لباسها، لكنّه كان ينمُّ عن فقر واضح، حاولت رشيدة مساعدتها بتقديم بعض الإكسسوارات التجميلية لها.. تقبَّلت ذلك على استحياء.
في المطعم.. جلس كلّ اثنين على طاولة منفردة، كانت تفصلهم عن بعضهم مسافةُ مترين لا أكثر.. رشيدة تُلقي السّمع وتسترق النظر إلى ياسمين.. بدت علامات الفرح والسعادة على محيّاها.. سُّرَّت رشيدة كثيراً من تلك العلامات، كانت تهمس لصالح بابتسامة المنتصرة بأنّ الأحبّة الجدد توافقوا على ما يبدو.
حاولت ياسمين أن تُبدي عذرها عن تواضع لباسها وأناقتها، لكن د. فالح أبدى تفهمه لوضعها مبدياً إعجابه بها وبأناقتها.. أسرَّ إليها بسعادته بها محاولاً التقليل من شأن لباسها.
– قال لها: أنا يا حبيبتي أحببتك أنتِ، واللباس ما هو إلا قشور.. أنا سعيد بكِ، فجمالك يطغى على اللباس والزينة، إن ما تلبسينه تزيَّنَ بجمال شخصك ومحيّاك.
– ياسمين: أنت لا تعلم بأنّ والدي كان مقاولاً كبيراً.. لكن شتاتنا بعد عام 1967، هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه ، فأصبح حالنا كما ترى.
– د. فالح: السعادة ليست بالمال وحده.. ربما أنّها تكتمل به، لكنّ السعادة في حسن تبعُّل الزوجة واحترام الزوج لزوجته وحبّهما الذي يزيّن حياتهما مع أبنائهما.
مرَّ الوقت سريعاً، تبادلا خلاله التّعبير عنْ مشاعرهما.. أبدى كلّ طرف حبّه للآخر.. التقيا مرّات عدّة، ومع تعدّد الّلقاءات.. كانت بذرة الحبّ الّتي زرعاها تنمو وتكبر وأصبح كلٌّ منهما لا يُطيق بُعْداً عن الآخر، وذات لقاء في أحد المتنزّهات وبعد أن نفذ صبرُ د. فالح، صارحها بأنّه يودّ أن يتقدم لخطبتها قريباً، فأبدت تقبُّلها لهذا الأمر الذي أثلج صدرها ولم تستطع إخفاء فرحتها وابتهاجها بهذا الخبر. قدَّم لها بعض النقود، حاولت الرّفض.. لكنّه أصرَّ عليها،
– وقال مداعباً: أظنّ بأنّك الآن خطيبتي!
– ياسمين: لكنني لا أستطيع شراء أيّ شيء الآن.. عليَّ أنْ أوضّح لأهلي مصدر هذه النقود.
– د. فالح: معك حق.. احتفظي بها.. هي لك.. ربّما تحتاجينها في وقت لاحق!
– ياسمين: أنا شاكرة لك وسعيدة بأن الله تعالى رزقني بك…
– د. فالح: بل أنا الأسعد.. أعدك أنْ يكون مستقبلنا مشرق وجميل.. مليء بالسعادة والفرح، سأفرش كل طريق تسلكينه زهوراً ووروداً.. أعدك أن تعيشي الحياة كما تحلم بها كلّ فتاة.. وأن أكون لك كلّ الناس، وأن تكونين كل حياتي. طلبت منه المغادرة والعودة إلى البيت، متعلّلة بأنّ والدها مريض، ووالدتها لا تقوى على خدمته وحدها.
عادوا والسعادة تملأ قلوبهم جميعاً، تهادت سيارة الدكتور فالح في شوارع عمان، ولم لا؟ هي تنقل أحبّة وعشاقاُ.. هي تنقل من عرفوا العشق ويسعون لتتويجه، من جهة بزواج، ومن جهة اخرى بطفل منتظر لرشيدة وصالح.
مرّ أسبوع ثقيل على آخر لقاء بين ياسمين والدكتور فالح.. لقد انقلب حبّهما إلى عشق.. لمْ يعودا يحتملان البعد عن بعضهما.. لمْ يستطعْ الدكتور فالح صبراً، فتقدّم بصحبة والده ووالدته لطلب يدها، حين دخلوا وجلسوا، كانت ياسمين في غرفتها تسترق النظر والسمع من فُسْحة صغيرة بالباب، نهضت والدتها وذهبت إليها، طلبت منها أنْ تُحضر القهوة، بعد دقائق جاءت تحمل صينية القهوة وترتجف، حتى أنّ الفناجين كانت تصطكّ بالصحون، فيُسمع صوتها وكأنّها موسيقى نشاز، قدّمت القهوة إلى والد ووالدة د. فالح، انتقلت إليه، الاصطكاك يتزايد ليُسمع بشكل جليّ، وهي ما زالت ترتجف حتّى خَشي الحضور من انسكاب القهوة من بين يديها، كلّ العيون ترقُبُها، احمرّ وجهها خجلاً وقالت: تفضل… نظر في وجهها ويداه تمتدّان إلى الفنجان والصحن.. ازداد خجلها واحمرّت وجنتاها.. التقط فنجانه بهدوء وبطء شديديْن.. نظره لا يُفارق عينيها الذابلتين، وكأنّهما سهمان يخترقان قلبه.. استأذن والده بطلب يدها، كان متعجلاً لدرجة نسي فيها بأنّ عليه أن يصمت حتّى يتكلّم والده، حاول والد ياسمين التردّد بالموافقة في البداية، بحجّة أنّ الدكتور فالح كان من الأثرياء وياسمين من الفقراء، لكن.. مع إصرار الدكتور فالح وقطعه الوعود بإسعادها، وحبّه لها على وضعها الحالي، جعل والدها يبدي موافقته على أن يأخذ رأي ابنته وموافقتها. تمّ الاتفاق على الخطوبة خلال أسبوعين. قام الدكتور فالح بتقديم أجمل كسوة لحفل الخطوبة.. حجز لها في صالون للتجميل.. أقاما حفل الخطوبة في أحد الفنادق الرّاقية، كانت من أجمل حفلات الخطوبة التي تمّ خلالها عقد القران.
سعادتها ملأت الكون، بات الدكتور فالح دائم التواصل معها، كان كلّما التقاها أغدق عليها مالاً، حتى باتت تمتلك مدّخرات تُعدُّ كبيرة بالنسبة لها، ولكنّها لا توصلها إلى درجة الغنى… حاولت تحسين أوضاع أهلها، كلّ ذلك يتمُّ بإذنه وموافقته.. تدّخر ما زاد عن حاجاتهم ، حتّى أنها قامت بفتح حساب لها في البنك لتضع فيه تلك الأموال.
الحاج أبو فالح يُعْتبَرُ “شهبندر التجار” في منطقة عمان، تاجر أقمشةٍ بالجملة والمفرّق، يتمتع بثراء فاحش، ممتلكاته من الأراضي والعقارات كانت كثيرة، لم يضنّ الدكتور فالح بزيارة ياسمين، مقدما المال والهدايا لخطيبته وأهلها.. طلب من والدها أن يصطحب خطيبته إلى السوق للتزود ببعض الملابس الجديدة.. ذهب إلى معرض والده.. عرَّف مسؤول المعرض على خطيبته.. طلب منه أن تأخذ ياسمين ما تريد ومتى تريد.
هذا الإغداق في المال والهدايا على ياسمين وأهلها، أعطاه في قلوبهم محبة واحتراما.. يُسَرّون عند قدومه.. هو يمتاز بحسن الخلق والعشرة ، ناهيك عن كرمه اللامحدود.
بعد شهر من خطوبتهما، حضر الدكتور فالح إلى منزل والد ياسمين ليُخبرهم بسفره إلى ألمانيا، من أجل التعاقد على شراء بعض الأجهزة الطبية، لتجهيز عيادته الخاصة بالقرب من منزله، ياسمين لم تعترض على هذا الأمر، وسألته: كمْ مِنَ الزّمن ستستغرق هذه الرحلة؟
– د. فالح: لست أدري على وجه التحديد، فأنا أريد معاينة الأجهزة وشراءها، ثم القيام بشحنها إن شاء الله.
– ياسمين: وهل سيأخذ هذا منك وقتاً طويلاً؟
– د. فالح: من أسبوعين إلى شهر تقريباً.
– ياسمين: توكل على الله.. عين الله ترعاك وتحرسك.. ولا تنسَ أن تُديم التواصل معنا.
أعطاها مبلغاً من المال.. استكثرته وحاولت أنْ لا تأخذه كاملاً، لكنّه أصرَّ عليها، وطلب منها أنْ لا تبخل بشيء على والديها وعلاجهم، ثمّ استأذن وغادر المكان حاملاً في قلبه وعقله حُبّ ياسمين وصورتها الوضّاءة ليكونا رفيقيْه في سفره وترحاله.
صالح ورشيدة يعيشان أجمل أيام حياتهما.. سعادتهما كانت ترسم لهما صوراً جميلة لمستقبل واعد.. بدأ الحمل يتعِب رشيدة فهي اجتازت نصف مدة الحمل بقليل.. بدأت تظهر عليها علامات الحمل من بروز في البطن إلى انتفاخ في الوجه والجسم وبعضاً من بقع الكلف على وجهها.. تواصلت مع الدكتورة أمل، طبيبة النسائية والتوليد.
في آخر زيارة لرشيدة، طلبت منها الدكتورة أمل أنْ تكثّف مراجعاتها للعيادة، فالحمل يمرّ بظروف حرجة جداً ولا بدّ من الراحة والمتابعة الحثيثة للجنين.
مرّت الأيام ثقيلة في هذه الفترة على ياسمين ورشيدة، تأخرت عودة د. فالح من ألمانيا، واضطّر إلى متابعة سفره من هناك إلى بريطانيا، حيث أنّ بعض الأجهزة المتوفرة هناك أفضل وأحدث من تلك التي توجد في ألمانيا، وغيابه هذا أشغل فكرها وجعلها تعيش قلقاً طويلاً، أمّا صديقتها وحبيبتها رشيدة، فقد أتعبها الحمل، وأصبحت تعيش قلقة على استمراره وبقائه، إضافة إلى ظروف عملها وأعمال البيت الّتي كانت تزيدها رهقاً وتعباً
اعتاد صالح مساعدة زوجته في أعمال المنزل ما أمكنه، فهو لم يكن يُجهدها أو يطلب منها القيام بأي عمل يتعبها، حتى أنه تعاقد مع سيارة أجرة من أجل إيصالها إلى عملها في المدرسة والعودة منها، ومع ذلك فالقليل من العمل يُتْعبها، لا بل ويُرهقها.
في ساعة الفجر من يوم جمعة عاديّ، تصحو ياسمين على صوت والدتها تناديها أن تسرع لمشاهدة ما حلَّ بوالدها، نهضت من فراشها مسرعة، ذهبت لوالدها لتجد أنه يتنفس بصعوبة بالغة ومعاناة شديدة، أعطته حبة من دوائه.. وقامت بإعطائه البخّاخ، لكنّه لم يتحسّن.. خرجت من البيت مسرعة لطلب العون.. تُهرول على غير هدىً.. دقَّت باب جارهم أبو يونس، فجاءها صوت امرأة من الداخل: من هناك؟.
– ياسمين: أنا ياسمين.
– المرأة: يا ساتر يا الله.
– ياسمين: أريد عمّي أبو يونس حالاً، والدي مُتعبٌ جداً، ونريد نقله إلى المستشفى.
– المرأة: حالاً.. عودي لوالدك.. وسيلحق بك خلال دقائق قليلة.. اعتني بوالدك ريثما يحضر.
وصلوا إلى المستشفى، لكنَّ أمرُ الله كان قدْ نفذ.. حاول الأطباء تقديم المساعدة له، لكن.. تبيّن لهم بأنّ المريض كان قد قضى نحبه، فكان اليوم الأول من آب، هو بداية الطريق لحياة سِمَتُها
البؤس والشّقاء في حياة ياسمين، موت والدها كان بداية لرحلة العذاب والشّقاء.
أيّام صعبة ومليئة بالحزن والأسى أصبحت تسيطر على ياسمين.. غياب خطيبها أثقل عليها العبء، لكنّ جيرانها وأهل بلدها وأصدقائها، قدّموا لها كلّ مساعدة ممكنة. أحضروا الجثة من المستشفى، قاموا بتجهيز الجنازة والدفن وحتى بيت العزاء.
كانت رشيدة تحاول جاهدةً أنْ تقف إلى جانب صديقتها، لكنها كانت تذهب إليها لوقت قصير فقط، ثم تشعر بالإعياء، وتعود إلى البيت، جاراتها لم يكنّ يغادرنها إلا قليلاً خاصّة في بداية الأمر.
انتهى بيت العزاء.. لم تستطع رشيدة أن تعود إلى صديقتها بسبب الألم الشديد الذي بدأ يصيبها، فتمّ نقلها إلى المستشفى.. أفادت الدكتورة أمل بأنّها تعاني من آلام المخاض.. استغرب صالح من هذا الكلام، فحملها لم يكتمل بعد، أفادت الدكتورة أمل بأنّه أمر ٌطبيعي، أن تلد المرأة وهي في شهرها السابع.. هذا هو المولود الذي يسمى “سبيعي”.
مساء الخامس من آب، أزهرت الدنيا في عينيّ رشيدة وصالح، أشرق لهما صباح نديّ جميل، فلقد جاءهم مولود جميل بكامل صحته.. مكتمل البنية.. ملامحه ترمي كثيراً على والدته.. اتفقا على تسميته بعايدٍ، تيمّناً بعودتهم إلى وطنهم الأصلي “فلسطين”.