في صبيحة اليوم التالي.. كان علي يفكر في حديث أمه، وخلال الدوام، تشاور مع صديقه صالح بالأمر.. لم يتردد صالح بالثناء على الفكرة.. لا بل شجعه عليها كثيراً .. فحياته بتراجع مستمر.. ومن سيء إلى أسوأ.. نظر علي إلى صالح بتمعّن، مفكراً فيما قاله وتطابقه مع أقوال أمه.. هزَّ رأسه.. وسأله: وأنت ما هي أخبارك مع رشيدة؟
ضحك صالح ضحكة عالية وضرب بيده على مكتبه، وقال متباهياً: يا رجل هذه البنت، لم يخلق الله منها سوى نسخةٌ واحدةٌ فقط.. هي رشيدة!
– علي: لأنك أنت أيضا نسخة واحدة. أليس كذلك؟
– صالح: أكيد يا رجل، كلّ يوم اكتشف فيها صفات أجمل من الذّهب، كما أنني وعدتُّها بعد إتمام السنة الأولى أن أقوم بخطبتها بشكل رسمي من أهلها، و ننتظر عاماً واحداً، ونتزوج إن شاء الله، سأبدأ فوراً بالتأثيث والتجهيز للبيت.
– علي: يا سيدي.. أتمنّى لكما التوفيق من كل قلبي.
مضت ثلاثة أيام، وأم علي تستحثُّه على الجواب، وفي اليوم الثالث كانت نبيلة قد طلبت من علي أن تقوم بزيارة والدتها المريضة، أذن لها.. وطلب منها المبيت عند والدتها حتى تساعدها في أعمال المنزل.
ذهبت نبيلة، وفي المساء جلس علي مع والده ووالدته. قال علي: في الحقيقة.. أنني فكرت كثيراً بالموضوع يا والدتي الحبيبة!
– الوالدة: ممتاز.. وما هو رأيك؟
– علي: أنا أرى أنه بقي لها في ذمتي أمر واحد.
– الوالد (مستغربا): وما هو؟
– علي: سأُخيّرها بين البقاء أو الطلاق، بعد أن نَرقيها.
خرج علي لأداء صلاة العصر، في الطّريق، التقى بالشّيخ “أبو حذيفة”، سلّم عليه، واستأذنه بالحديث بموضوع زوجته “نبيلة”، وطلب منه أن يقرأ عليها الرُّقيا.
– أبو حذيفة: بعد الصلاة بساعة، تقوم بإحضارها إلى البيت عند خالتك أم حذيفة، وسنرى ما هو حالها.
وصل علي ونبيلة في الموعد المحدد إلى دار الشيخ أبي حذيفة، وذلك بعد عودة زوجته من بيت أهلها.
رحب بهم الشيخ، وطلب من علي توضيح الأمر له، ليرى ما هو المناسب لها.. قام علي بالشرح عن معاناته مع زوجته شارحاً مواقفه منها وتحمّله لسوء عشرتها وسلوكها المتناقض، علّها تتغير وتتحسن، ولكن.. بلا جدوى.. لا بل إن الأمور تزداد سوءاً وهي تزداد شراسة.. وأكد له بأنه أخذها لطبيب نفسي، إلاّ أنَّ الطبيب أكدّ له سلامتها من أيّة أعراض نفسية.
هزّ الشيخ رأسه.. طلب منها الجلوس بقربه وإغماض عينيها لتُحسِن الإنصات لما يقرأ، والتّركيز على ما تسمعه من قرآن، وبعد الإنتهاء من الاستماع.. طلب الشيخ من نبيلة أن تذهب مع زوجته إلى الغرفة المجاورة، لأن له حديثاً مع علي.
– الشيخ أبو حذيفة: اسمع يا عمي يا علي- هذه المرأة، لا تعاني شيئا.. وحالتها أفضل من حالتي.. الآن ستأخذها وتعود بها إلى البيت.. لكنني أود أن أخبرك بشيء يا ولدي.. وافهمها كما تريد.
– علي: تفضل يا عمي.. أنا رهن إشارتك!
– الشيخ أبو حذيفة: “يا عمي هذا دلع نساء.. وما بربّي المرة إلّا مرة مثلها.. غادر الآن مصحوبا بالسلامة وسلم على أهلك”.
غادر علي وزوجته دار الشيخ.. أوصلها إلى المنزل.. عاد أدراجه إلى صديقه صالح.. جلس عنده شارد الذهن.. مشتت الأفكار.. لا يستطيع التركيز في حديثه، فهم صالح أنّ علياً يعاني من خطب ما. – صالح: ما بك يا علي؟ لدي إحساس بأن لديك ما تقوله.. كأنّك تحمل جبلاً على ظهرك.. هيّا تكلم وفضفض..
– علي: والله يا صالح، أنا أعيش في متاهة، ولست أدري ماذا أعمل.
– صالح: هات.. تكلم.. وفضّي بالك.. أنا أخوك ومش غريب عنك.. همّنا واحد.. وفرحنا واحد.. هيّا قل ما لديك، لعلّي أستطيع مساعدتك.. فضفض..
– علي: آآآآخ يا صالح.. ماذا أقول وماذا أحكي، الأمور ليست على ما يرام، والوضع يزداد سوءاً…
– صالح: حسناً.. وما هو رأيك بحلا؟
– علي: والله حلا لا يوجد فيها ما يُعيبها.. حتى أنني فهمت أنها مستعدة أن تتحمل كلُّ شيء من أجلي.
– صالح: (عليك بها يا غلام .. ولا تتأخر كثيرا)، عُد فوراً إلى البيت.. وقل لأبيك وأمك: أنّك موافق.
صالح ينعم بسعادة بالغة بتعرّفه على رشيدة.. لا يتركان فسحة من الزمن، إلا ويحاولان استغلالها في سعادتهما. اقتربت نهاية العام الدراسي الأول لرشيدة.. أعلمها بأنّه سيقوم بزيارة إلى والديها، هو ووالدته ليطلب يدها ولإعلان الخطوبة، وفعلاً لم يتردد “عمر” والد رشيدة بالموافقة على الطلب.. تمّ إعلان الخطوبة وعقد القران.. على أن يتم الزواج بعد عام من إعلان الخطوبة، كم كانت سعادتهما كبيرة بهذه الخطوبة.. فكانا كعصافير الحب.. حبيبان ليسا بالقفص.. لكنّهما سعيدان.. سعادتهما أضفت بهجة لحياتهما.. فكان كثيراً ما يتحدث صالح لصديقه علي عن خطيبته وسعادته بها.. كما أنّ الله أنعم عليه بفتاة لم يكن يحلم يوماً بأن تكون كرشيدة.
بدأ عليٌّ يُفكّر في أمر زواج صالح ورشيدة الذي اقترب ولم يعد يفصلهم عنه سوى أسبوعين. زواجه من حلا أسعده سعادة كبيرة، فقد بدأ هو الآخر يرى من حياته الوجه الجميل.. والسعادة الغامرة.. حتّى كاد أن ينسى بأن له زوجة أخرى اسمها نبيلة.
رتبّ صالح ورشيدة لحفل زواج بهيج، أمّا ما كان يسمّى بصندوق العروس، فقد كان من أهم ما تمّ توفيره قبل الزواج، كان يحتوي على أهمّ مقتنياتها، بداخله صندوق صغير يحتوي على مجوهراتها وصورتها التي كانت تحملها يوم النّكسة.
ذات يوم.. دخل علي إلى البيت مسروراً.. يكاد يطير من الفرح ليجد الجميع يجلسون في صالة بيت والده، البسمة ترتسم على شفاه الجميع منهم إلا نبيلة، فالكشرة لا تفارق محيّاها، وكما يقولون: (بوزها شبرين).
وقف علي.. نظر إلى الجميع .. ابتسم ابتسامة المنتصر وقال: اسمعوا ما كتبت عن حياتي وزوجاتي، فقد أنهيت اليوم قصيدتي هذه..
رحماك ربّي قد مللـتُ حياتي
حتى رجوتُ من الإلهِ مماتي
أفنيتُ عمري في هواكِ مذلةً
فلعنتُ عمري في هواكِ وذاتي
إنّـي سأحرقُ كلَّ ماضٍ ضمّنا
كي تنثريهِ.. فـفيهِ بعضُ رفاتي
فلَقَد شقيتُ بزوجةٍ تأبى الهنا
ما عدتُ أعرِفُ أن ألُـمَّ شّتاتي
دافَعتُ عنها بالهـوى إن أذنَبَت
فَجَعَلتُ من زلّاتها .. زلّاتــي
ونظرتُ للمـرآة .. ثمَّ كسرتُها
قد أنكَرَت وجهي .. أنا مرآتـي
هذي حلا.. والكلُّ يعرِفُ مَن حلا
أبهى من الأنـوار للنَّجــمــات
حَلَّت حلا فـي خافِقِـي فَحَصَّنتُها
فإذا بها الأمـلُ الجميلُ الآتـي
جاءَت حلا كالشّمس تملأُ ساحتي
فهـي المنى وحبـيبتـي وحياتـي
هيّا لنسرق من جمالِ زماننا
أمَلاً لأَدفِنَ عاصِـــفَ الآهــــاتِ
ودَعي زماناً قد حرِقتُ بجَمرِهِ
هيّـــا لِنَـحيــا للزَّمـــانِ الآتـــي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القصيدة للروائي توفيق جاد كاتب هذه الرواية.
وقفة علي تُشعرُهُ بنصر مبين، لأول مرة يساوره إحساس بأهميته في العائلة، الكل يُنصت باهتمام بالغ لما يقول، أحسّ بأنه الآن أصبح صاحب قرار، وهو يتّخذ قراره.
انتهى من قراءة قصيدته، والجميع ما زالوا يصغون باهتمام لما يقوله علي، أشاح ببصره عنهم.. استدار قليلاً.. وواجه نبيلة، ابتسم ابتسامة صفراء. هنا.. أصبح صمته يقتلهم، هو يستعدّ لحديث جديد، لكنّه لا ينطق ولو بكلمة، بعد لحظات قال لنبيلة: الآن قومي واذهبي إلى غرفة نومك، سألحق بكِ بعد لحظات، قامت نبيلة متثاقلة، وغادرت دون أن تنبُسَ ببنت شفة.
عاد علي للحديث فقال: اليوم يا والدي، وبعد قليل سأتخذ قراراً حاسماً ومهمًّا في حياتي وحياتكم، سأوافيكَ بتفاصيله بعد ساعة من الزمن.
ذهب إلى غرفة نبيلة، هناك.. وجدها تجلس أمام مرآتها تنظر إلى نفسها، وكأنها تحاول تحليل شخصيتها، كان كلّ ما يجول في خاطرها هو مجيء علي، تساءلت في قرارة نفسها: ماذا يريد علي؟ قصيدته آلمتني، فقد امتدح حلا كثيرا.. هل؟ وهل؟ وهل؟.
تساؤلات كثيرة أخذت تتردد على تفكيرها، قطع شرودها دخول علي.
– ليقول لها بكل رباطة جأش: نبيلة…
– نبيلة: ماذا تريد؟
– علي: أريد أن أخبرك بشيء!
– نبيلة: أكثر من الذي قلته؟
– علي: نعم..
– نبيلة: ماذا تريد؟ هيا تكلّم!
– علي: لقد اتخذتُ اليوم قراراً.. يكفينا ما نعيشه من نكدٍ وهمّ، لذلك أقول لكِ “أنتِ طالق”!
– نبيلة: ما الذي تقوله؟
– علي: قلت: “أنتِ طالق”.. أظنك تسمعينني جيداً، والآن اجمعي أغراضك وملابسك كي أقوم بإيصالك إلى بيت أهلك.
وَقعُ الخبر على نبيلة، جاء كالصاعقة.. لم تكن تتوقع أن تسمع خبر طلاقها.. لم يصدر عنها أيّة ردود أفعال، سوى أنَّ الدهشة عقدت لسانها.. لم تتوقع يوماً أن يكون قراره هو الطلاق فحبّه يوحي لها بأنّه لن يستطيع أن يتركها يوماً، صمتت دقائق قليلة.. نهضت.. وبدأت تقوم بجمع أغراضها والدموع تنهمر من عينيها بصمت، ذهب علي لينتظرها عند أهله، وهناك أبلغهم بقراره، سُرَّ الجميع بخروج نبيلة من حياته وحياتهم.