***
علي يغرق في حب نبيلة.. لكنّ خطوبتهما التي طالت، وتجاوزت السنتين.. خلقت لهما الكثير من المشاكل.. حتى أن نبيلة كانت قد طلبت فسخ الخطوبة مرتين خلال هذه المدة.
اتفق مع نبيلة أن يعيشا في غرفة تجمعهما على الحب والسعادة.. غرفة ضمن بيت أهله، لكن مطالب والد نبيلة في استكمال شروط عقد الزواج من ذهب وحفلات، عقَّدت الأمور، لدرجة أنّ زواجهما تأخر.. يَنشُدان الوصال بلهفة، إلاّ أنّ المعيقات تتزايد.
ضغوطات والدها على العريس خلقت لهما أزمةً، ومحاولات والدة نبيلة لتسهيل الأمور، تصطدم بقرارات زوجها الصارمة في تنفيذ شروطه.
لم يكن أمام علي وسيلة أخرى إلّا أنْ يأخذ قرضاً منَ البنك لإتمام زواجه، لكنّ الترتيبات توقفت الآن، بسبب وفاة جاره ووالد صديقه صالح. ذهب إلى والد نبيلة، طلب منه تأجيل الزواج لشهر واحد فقط، وافق أبو محمود على ذلك، شريطة أنْ لا يتمَّ أيُّ تأخيرٍ آخر، وتـحت أيّ ظرفٍ كان.
في ذات المساء، ذهب عليٌّ لزيارة صديقه صالح.. أخبره بما حصل بينه وبين عمه.. حاول صالحٌ أن يثنيه عن قراره بتأجيل موعد الزواج، سامحاً له بأن يُتِمّ زواجه متى شاء، لكنّ علي رفض رفضاً شديداً، وقال: “شو يا زلمة”.. “هذا واجب.. إحنا إخوة.. أنت بدك تفضحني بين الناس؟ وين وجهي من العالم؟”.
– صالح: يا رجل.. الحيّ أبقى من الميت، وأنا أشكرك، لكن لا تُضيّع نبيلة من بين يديك.
– علي: لا تقلق.. نبيلة متفهمة للوضع.
– صالح: يا رجل يكفيك مشاكل.. وعمك “أبو نَكَدْ”.. أنت ترى كم هو متشدد.
– علي: “أحكيلك.. إذا مش عاجبه يبطل.. أنا ملّيت هالخطوبة بسببه”!
– صالح: يعني.. أنت أوصلت اللقمة إلى الفم.. وأصبحت تتدلل علينا.
– علي: الموضوع ليس كما تقول يا رجل، أنت تعلم بأنه عجَّزني، ورغم تفهّم عمتي ونبيلة، لكنّهما غير قادرتين على فعل أيّ شيء…
– صالح: إذن يا سيدي.. روّق وروّقنا.. واعمل ما بدا لك.
– علي: وحضرتك.. ماذا فعلتَ مع رشيدة؟
– صالح: الحمد لله، أنها متفهمة لما حصل معي.
– علي- آآآه؟.
– صالح: نعم.. وقبل قليل تكلمت معها.
– علي: وماذا حصل؟
– صالح: اتفقنا أن نلتقي غداً في المطعم لتناول طعام الغداء.
– علي: خيراً إن شاء الله، يبدو أنها ابنة حلالٍ.
– صالح: “آه والله”.. يبدو أنها ابنة أصلٍ وفصلٍ.
– علي: خيراً إن شاء الله، الآن سأعود إلى البيت، لدي عمل كثير، أراك غداً أثناء الدوام.
– صالح: أيّ دوام يا رجل! أيّ دوام هذا؟ ألم أخبرك بأنّ موعدي غداً مع رشيدة على الغداء؟ بعد غد سأداوم إن شاء الله تعالى، أمّا الآن.. دعني أتيه في رياض العشق والغرام، وأنام على أرائك الأحلام.
غادر عليٌّ منزلَ صديقه صالح على أمل اللقاء في يوم دوامه بالوزارة.. عاد صالح لتفكيره وشروده من جديد.. أسئلة كثيرة تداخلت في عقله.. سيطر موعد الغَدِ على تفكيره، فقد نسي كلّ شيء إلا هذا الموعد.. توجّه إلى الله بالسؤال والدّعاء بأن يُيَسّر الأمور لإتمام هذا اللقاء، الذي انتظره بفارغ الصبر.
يغفو ويصحو خلال نومه في تلك الليلة، تقلّب في فراشه كثيراً.. ينتظر بزوغ الشمس بفارغ الصبر، كم طال ذلك الليل عليه! طلع النهار.. وعاد التفكير بالموعد المنتظر.. ينظر إلى ساعته باستمرار.. أحسّ بأنّ الزّمن توقف.. يضرب بيده على ساعته ليتأكّد بأنّها صالحة.. يستحثُّها على التقدُّم والإسراع.. إلاّ أنّها لا تستجيب. عند الظّهيرة.. ذهب إلى الحلّاق وقام بقصّ شعره.. عاد إلى البيت. اغتسل ثمّ ارتدى أجمل الثياب، وزاد من رش العطر، وضع منديلاً مثلّثاً، أحمر اللون في جيب جاكيته.. أضاف دبّوساً مائلاً لربطة عنقه، وأزراراً ذهبيّة لأكمامه، بدا كعريسٍ في ليلة عرسه.
خرج صالح قبل الموعد بساعة، وصل هناك.. جلس منتظراً يرقُب مدخل المطعم، تسمَّر نظره على الباب، وبعد ربع ساعة ظهرت رشيدة بمشيتها الهادئة، أناقتها ومظهرها يُلفتان النّظر، تلبس أجمل الثياب.. دخلت وعينيها ترنو إلى تلك الطاولة.. طاولة الأحبّة.. ارتسمت على شفتيها ابتسامة لطيفة، فقد رأته يجلس هناك، وقف.. خطا بعض الخطوات للقائها واستقبالها.. أزاح لها الكرسي لتجلس.. أمْسَكَ به بلطف حُبّاً بمن ستجلس عليه.
– وقال: كم أنا سعيد يا رشيدة.. تفضلي واجلسي…
– رشيدة: وأنا أسعد.. فتلك الأيام التي مضت كانت شديدةٌ عليّ ومُرّة…
– صالح: بل شديدةٌ علينا..
احمرّت وجنتاها خجلاً، فزادها ذاك الاحمرار جمالاً فوق جمالها.. بدتْ كفراشة تلوّنتْ زينة وبهاءً.. بدت على مُحيّاها السّعادة باللقاء.. أسرَّ لها بإعجابه بجمالها وزينتها.. يُتأتآن في حديثهما خجلاً.. أخبرها بأنّ قلبه يرقص فرحاً لحضورها.. تبادلا كلمات رقيقة.. وبعد دقائق قليلة، نادى صالحٌ على النادل وطلب من رشيدة أنْ تُحدّد نوع الطعام الذي تفضله. لكنّها قالت له: “أطلب على ذوقك”. طلب غداءً يليق بحضورها.. تبادلا خلاله الحديث الجميل.. تكلّما عن نفسيهما كثيراً.. وجدا توافقاً بينهما.. قدّم لها معلومات كثيرة عن نفسه وأسرته.. أخبرها بأنّه قد بنى بيتاً متواضعاً فوق بيت أهله.. هو عشّ الزوجية المنتظر.. تحدّثا بصوتٍ خافتٍ يصل إلى حدّ الهمس، كُلٌ منهما ينتظر سماع الآخر.. حاولا أن يطيلا فترة غدائهما، ليكسبا مزيداً من الوقت والسعادة الغامرة، ولكن الوقت سرقهما، فقد كان يمضي سريعاً! وبعد حين اعتذرت منه وطلبت العودة إلى البيت.
اعتادا أن تكون لقاءاتهما قليلة، لتباعد سكنيهما.. هو يقطن العبدلي، أمّا هي فقد كانت تقطن عمان الشرقية.. هذا البعد يؤجّجُ مشاعرهما ويقويها يوماً بعد يوم ليزداد اشتياقهما وتولُّعهما ببعضهما. انقضت ثلاثة أسابيع، استطاع صالح خلالها، إقناع رشيدة بإكمال الدّبلوم إلى البكالوريوس، وافقته على رأيه ووعدته بأن تقوم بالتسجيل لدراستها الجامعية.
أما علي فقد أكمل استعداداته لحفل الزفاف.. بدأت نبيلة تُسارع في التجهيزات.. تحاول مساعدته ما أمكنها.. حدّدا موعداً للزفاف.. أقاما حفلاً عائلياً متواضعاً.. وتزوجا.
كلّما التقى صالح برشيدة يعطي وقتاً للغزل.. وآخر لمتابعة دراستها، كانا يرسمان لوحةً فنيةً لحبهما السعيد، فكلما تفارقا من لقاء، زاد شوقهما للقاء آخر.
أما عليٌّ فقد بدأت همومه تزداد.. ومشاكله كذلك، حتى أنّ نبيلة أصبحت عصبيّة المزاج، حادّة الطباع، سريعة الغضب.
لم يظهر خلال الأشهر الأولى من زواجهما أيّة بوادرٍ للحمل، وبنصائح من الأهل ، ذهبا إلى الطبيب، وبعد عدة زيارات واختبارات أفادت التقارير بأنّ نبيلة “عاقر” … كم حاول تصبيرها وملاطفتها ليخفّف عنها ما هي فيه، إلا أنها كانت تزداد عصبيةً يوماً بعد يوم، لاحظ الأهل كثرة مشاكلهما وكثرة غياب عليٍ عن المنزل، حاولوا التدخل ومعرفة الأسباب منهما، لكنهما كانا يتعذَّران بكثرة الديون ومشاكل الحياة التي أوصلتهما إلى ما هم فيه من مشاكل وصعوبات.
في مساء صيفيّ لطيف، ذهبت أم علي لزيارة جارتها أم حلا، أرادت أنْ تبثّ همّها، وتشكو لجارتها ما وصل إليه وضع ابنها علي، فأمّ حلا تحبّ عليّاً كثيراً، دائماً تقول أنّها هي التي ربَّته، وأنها لا تفرّقه عن ابنتها القريبة إلى قلبها حلا..
– أم حلا: والله عليٌ يحرق قلبي.. يا حسرة عليه..
– أم علي: لكنْ.. والله يا أم حلا.. المخفي أعظم..
– أم حلا: ها..! ماذا حصل؟ وهل هناك شيء جديد؟
– أم علي: آآآخ..! والله يا أختي، كلّ يوم هناك شيء جديد.. لكنْ، ماذا نصنع؟ فمنذ حوالي أربعة أيام أخذها إلى طبيب نفسي، وقال بأنّها ربّما تعاني من مشاكل نفسية..
– أم حلا: ماذا تعنين.. هل هي مجنونة؟
– أم علي: والله.. وَصَلتْ فيها الأمور أول أمس، عندما طلب منها زوجها كأساً من الشاي.. قامت.. أحضرت الشاي وسكبته على الأرض، صاح بها، فرمته بالكأس.
فجأة تدخل حلا على حوارهما وتقول ( بعصبيّة واضحة ) – “يطبش إيدها إن شاء الله”.
– أم علي: والله يا بنتي.. حتى عندما تُخطيء.. يحاول أن يضع اللوم على نفسه.. تخيّلي.. وعندما سأَلته: لماذا تعمل هكذا يا ولدي؟.
– قال: خليها على الله يا حجة.. اللي فيّ مكفيني.. لعل الله يهديها وتعقل.
– أم علي: الله يرضى عليكِ يا بنتي.. ويرزقك ابن الحلال اللي يحبك ويصونك ويحترمك.. آمين يا رب.
قامت حلا من المجلس.. ذهبت إلى المطبخ خجلة مهرولة.. قلبها انفطر على عليّ الذي كان يلاعبها ويسعدها في طفولتها..
أنهت أم علي زيارتها وغادرت. دخلت بيتها وعقلها يفسّر ردود أفعال حلا.. جالت بخاطرها فكرة لطيفة.. لماذا لا تقوم بخِطبة حلا لعليّ؟. قالت في نفسها: كأنّني أراها لأوّل مرة.. ويبدو عليها أنّها تحبه.. والجميع يعرف طبعها وسلوكها من جيرانها وأهل حارتها.. فهي مدبّرة في المنزل ومحترمة.. كما أنّها متعلّمة وبانتظار الوظيفة.. لقد أكملت دراستها من الكليّة العربيّة.. كما أنها جميلة.. بشوشة.. واجتماعية.
قررت أم علي مفاتحة ابنها بالموضوع.. فتبديل العتبات من أسباب الرزق.. لعل الله يغير الحال بأحسن منه.
دخلت أم علي بيتها لتجد شجاراً بين ابنها وزوجته نبيلة .. نادت على ابنها وطلبت منه مرافقتها إلى غرفتها.. دخلت وأغلقت الباب خلفهما.
– قائلة له: اجلس يا ولدي واسمعني!
– علي: أوامرك يا حجة؟
– أم علي: إلى متى سنبقى نحتمل هذه الحياة ومشاكلها؟
– علي. وما العمل يا أمي؟ الله يصبِّرني عليها بس..
أم علي- لا يا ولدي.. نحن صبرنا وتحملنا الكثير.
– علي: طيب…؟
– أم علي: وخلاصة هذا الصبر.. ماذا ستكون برايك؟
علي- الله أعلم .. هذه قسمتي ونصيبي يا أمّي الحبيبة..
– أم علي: إذن سأبلغك بأمرٍ هام.. ضاعت.. ولقيناها!
– علي: ما هي التي ضاعت.. وما هي التي لقيناها يا حجة ؟
– أم علي: الآن عدت من دار أم حلا.. وكنت أجلس مع حلا وأمها.
– علي: ها.. تفضلي يا أماه.. كلّي آذان صاغية.. ماذا بعد؟
– أم علي: لقد أخبرت أم حلا عن مشاكل زوجتك، والذي تصنعه معك.. وكانت حلا جالسة.. والله.. اهتزّت أوصالها من الذي يصيبك.. والخلاصة أن حلا على ما يبدو تحبك وتعزك.
– علي: طبيعي فهي جارتنا.. و تربّينا سويًّا!
– أم علي: الآن، جاءتني فكرة رائعة، أنت تعرف بأنّ حلا قد تربَّتْ بيننا، وأنت تعرفها تمام المعرفة، فلماذا لا نطلب يدها لك؟ زوجتك شجرة لا ثمر منها…
– علي: اتركي لي هذا الموضوع.. دعيني أفكر فيه قليلاً. “قالها وبعض السّعادة تغزو ملامحه “، ولمعان في عينيه ظهر بريقه.