في البدء… الإنسان:
“حضور الإنسان في مثل هذه المهرجانات هو الأساس، أمّا النصّ فسبب فقط للحضور”. هكذا قال أحد الشعراء المشاركين في مهرجان ساكب للثقافة والفنون، والحاضرون كانوا من رأيه.
غالبا ما ينسى المشاركون في المهرجانات الشّعريّة والثّقافيّة النّصوص الّتي شاركوا بها، ولكن تعلق بذاكرتهم لحظات إنسانيّة تظلّ نقشا في الرّوح تُذكَر إذا ذُكر المهرجان، وتتعمّق أكثر في الكيان في كلّ ذكر. مع أنّه، بالنصّ يطير المشاركون، أو يطير بهم، من مكان إلى مكان، فينبت لأجنحتهم ريش، ويرتفع بهم الجناح ليحلّقوا عاليا وبعيدا… يرتّلون في محراب الشّعر آيات الجمال. ويتأمّلون خلق الله في مدائن ربّما لم يكونوا ليزوروها لولا النصّ. ولذلك فإنّ المكان، في رحلاتهم مع كتاباتهم، مثل اللّحظات الإنسانيّة، يعلق بذاكرتهم. وكم يترك المكان من أثر طيّب في النّفس، وكم يفتّحها على فضاءات جديدة ليحيا الإنسان ملء الحياة.
لذا، الإنسان والمكان والنصّ ثلاثيّة تتكامل وتتناغم لترقى بالرّوح والفكر… ترقى بالإنسان.
*خارطة طريق:
رجف القلب واهتزّ الفؤاد شوقا إلى أرض الأردنّ وأنا أتلقّى الدّعوة إلى مهرجان ساكب الدّولي للثّقافة والفنون في نسخته الأولى. فهذه الرّحلة ستعوّضني عن تأجيل سفرتي إلى لبنان مع مجموعة سياحيّة. وكما نقول: “كلّ تأخيرة فيها خيرة”[1]، و”لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرا.”[2]
ساكب، اسم أثار اهتمامي، فلم أسمع بالاسم من قبل، ولذلك فتحت خارطة البلاد أسعى عبر القمر الصّناعيّ والبثّ العنكبوتيّ لأصل إلى المكان. لاحت الجبال والأشجار، ولم تفصح الخارطة بأكثر من أنّ ساكب في محافظة جرش. هذه فرصة لأزور جرش، إذْ جرش ككلّ موقع أثريّ صورة للإنسان في محاولة سعيه إلى الخلود من خلال معمار بقي إلى اليوم وشْما لا يمّحي من وجدان الشّعوب وذاكرتها. بالوصول إلى ساكب إذن، أصل إلى جرش، والمغنم مضاعف.
سألت الخارطة عن العقبة وعن البتراء وعن البحر الميت والمسافة من عمان إلى مواقع اخترتها لتؤسّس لسياحة تاريخيّة حضاريّة طبيعيّة، ولمَ لا دينيّة، فالأردنّ أرض الأنبياء والصّحابة. وما كنت أعلم أنّ حساباتي ستصعد قمم الجبال وتظلّ هناك تستشرف الأعلى والأبعد… صعودا، صعودا… لتصير معراجا لروحي.
ليس الأمر بهذه السّهولة. فصعود الجبال يتطلّب استعدادا نفسيّا قويّا لمن يريد التخلّص من رهاب الارتفاعات مثلي.
البحث عن الإقامة بساكب أو ما جاورها كان من باب الاحتياط لإقامة أطول أستمتع فيها بأمكنة تجاور ساكب، خاصّة أنّ صديقا لي أخبرني أن لا فنادق بالمكان. إذن عليّ البحث في المسافات، وبالتّالي حساب مصاريف المواصلات، وبدأت الفوضى. من أين أبدأ والأردن يغريني بأكثر من الأمكنة الّتي اخترتها في البداية، وحرارة الصّيف تذكّرني بأنّني أتحرّك ببطء السّلاحف في مثل هذا الطّقس، ولا يمكنني الحركة إلاّ بعد العصر ممّا يطيل أيّام الإقامة إن أردت تنفيذ زياراتي كلّها.
رتّبت ما تسنّى بالبحث عن وثائق توضّح لي المزيد عن المسلك السّياحي الّذي استقرّ عليه الرّأي والّذي بدأ يتّخذ حجم نقطتين واضحتين: جرش والبتراء. لا يمكن زيارة الأردن ولا أزور بعض آثار الرّومان، أو عجيبة من عجائب الدّنيا، أو أكثر المناطق انخفاضا في العالم، لذلك ما سيفيض من وقت، ولو لسويعات قليلة، سيكون للبحر الميت. وحين يجتمع الطبيعيّ بالحضاريّ والإنسانيّ والفنّي، فإنّ السّفر سيكون ممتعا ومفيدا. ابتسمت للفكرة، وأعدتُ كتابةَ أسماء الفنادق وحجزت على الافتراض وحسبت عدد الأيّام الّتي يمكن أن تكون لي في الأردن…
ارتحت لبرنامجي ودوّنت المسلك السّياحيّ الّذي اخترته. سأنفرد بنفسي من خلاله، وأستمتع بوحدتي في مكان لا أعرف فيه النّاس ولا يعرفونني. وهيّأت لسفري راضية.
*ساكب بيت الجميع… بيت كريم:
حين اتّصلت بالمسؤول عن المهرجان، بدا كريما فيما يخصّ الإقامة والمواصلات أثناء المهرجان وبعده. لم أتعوّد هذا الكرم فقد كنت دائما أعتمد على نفسي وأحتاط لكلّ شيء حتّى لا أفسد متعتي بالسّفر داخل البلاد فكيف وأنا خارجها.
برمجت: بعد المهرجان أخرج من ساكب إلى عمان، ومنها إلى البتراء، ومنها إلى عمان ثانية لأكون قريبة من المطار يوم عودتي.
ماذا لو بقيت يومين بعد المهرجان ضيفة بساكب؟ فعجلون قريبة، والجبال والمخيّمات مغرية في الصّيف، والأشجار عن بُعد بدأت تغري الطّفلة داخلي وتدغدغ فضولها… لا. لن أكون ثقيلة على أحد مهما كان كريما. سأعتمد على نفسي، وقد أجد رفقة من أصدقائي هناك إذا استطاعوا الخروج من عالم الافتراض إلى الواقع.
اتّصلت بمدير المهرجان ثانية، أكّد أنّه يمكنني البقاء ما شئت في الإقامة المخصّصة للمهرجان. بهذا الكرم أوفّر إقامة ليلتين في الفنادق ولن أدّخر نفقات المواصلات مهما كانت كلفتها. سأزور مناطق قريبة من ساكب وسأبتعد إلى أمكنة رسمتها في رأسي. ولكن، طبعي يأبى عليّ استغلال الموقف. فالقائمون على المهرجان سيكونون في حاجة إلى الرّاحة بعد الفعاليات. سأستقلّ ببرنامجي والفندق في عجلون سيتّسع لخطواتي على جبال الأردن. ثمّ إلى البتراء وفيها أبقى حتّى ليلة العودة. يبدو الأمر واضحا، والله الميسّر. توكّلت على الله
*بدأت رحلتي.
دخلتُ الأردن “غريبة”، مع رفيقات لا أعرف من بينهنّ غير “صاحبة” واحدة، شاعرة أعرفها ولي بها علاقة محتشمة، أحترمها وأحافظ على صورتها كما هي منذ عرفتها، رفيقتي الشّاعرة سيكون لها برنامجها الخاصّ بها بعد المهرجان ولها أصدقاء سيستضيفونها. لماذا لم أكن مثلها واثقة من استضافة أصدقائي؟ ببساطة لأنّني لا أصدقاء لي، وربّما لأنّني لا أدير مهرجانا؟ لا مشكلة. والأفضل أن لا يستضيفني أحد، سألتقي بمن يريد مقابلتي ممّن أعرفهم على الافتراض في مقهى ونشرب القهوة ويكفيني ذلك.
أحسست بالغربة قبل السّفر، وزادت غربتي وأنا في مطار تونس قرطاج. أسافر في مجموعة، ولكنّي وحيدة مع نفسي وبكلّ بساطتي، وبفرحتي البسيطة.
تَبِعْتُ الجماعة حين وصلنا الأردن، وتزايد إحساسي بالغربة، دمعت عيناي، وابتسمت. لا يمكن إلاّ أن أبتسم، وحدها الابتسامة ستخفّف مرارة الوحدة… في المطار كتبت أوّل رسالة: «وصلت.»
لم أكن أدري إلى أين وصلت. فصوت الطائرة ايءستمرّ يضجّ في رأسي، وقلبي لا يجد نبضه. وخفت أن أبحث عن أمل لا محلّ له. يجب أن أكون قويّة. قد ينتظرني صديق. من يدري؟ قد ينجم من اليأس أمل في أيّ لحظة… «عش يا فؤادي بالأمل…[3]» هكذا غنّيت بلا صوت، وبلا رجع.
لا أحد ينتظرني بشكل خاصّ، كلّ من كان معي وجد صديقا يعرفه، إلاّ أنا. لا أعرف أحدا ولا ينتظرني أحد. حذّرت نفسي من الوقوع في فكرة أنّ لي صديقا ينتظر قدومي ويمكن أن يرافقني. عدت إلى نفسي. واستهوتني فكرة أن أكون وحدي في عالم غريب. هذا ما أبحث عنه. وهذا يقوّيني ويثبّت خطوتي على الأرض.
مضت بنا السّيّارة إلى مكان الإقامة بساكب. جميل ليل المدائن يشتعل بالأضواء الكثيرة، تظهر الأضواء شلاّلا من النّور يغمر الطّريق، وأحيانا ينابيع من الوهج المتدفّق من الأرض نحو السّماء… وتدفّق من بين الأضواء صوت همس لروحي: «لي فيكَ يا أردنّ ما ليس لأحد سواي…»
أغنّي لنفسي كنت، وأنا أُمنّي العمر أن يرتاح من هاجرة تلهبه تحت ظلّ النّبض الوارف… تغنّي روحي وقد تحرّكت خطواتي المتردّدة ومضت واثقة… لا خوف، لا رهاب ارتفاع، ولا قلق… ملء الجناحين طرت من قارّة إلى قارّة أتهجّى تضاريس الرّوح وهي تحلّق فوق تضاريس البلاد، وخفقات القلب تقرأ سِفْرا جديدا من أسفار الحياة.
على جانب الطّريق… عرفتُ المكان، البَقعة. ودارَى القلب حزنه… الشّتات، قرأت عنه وسمعت… ما كنت أعرف حجمه… وَمَضَتْ الصّورة وعادت بي إلى شتات أعرفه… دعوت من قلبي لمفتاح جدّي الأندلسيّ الّذي خبّأه على أمل، والعين تترقرق بها قطرات من غيمة الرّوح ومن ذاكرة الأوطان المشرّدة… سألت لأتأكّد… نعم البَقعة. مسافة “الدّمع البارد”[4] من عمان إلى المخيّم… ارتسمت عمان الّتي لا أعرفها في بُقعة من خيالي، ورأيت في شارعها مقعدا تحت الأضواء، كما رأيت الظلّ يدخل مخيّم البَقعة وقد رسم خطى مشتّتة طالما انتظرتْ السّير على طريق العودة… وروحي لا تعود، ولا تستقرّ… وهي على بعد أنفاس من ريح قد توقد شعلة الأمل… خَفَقَ القلب. اختنقت. كيف أزفر في قيثارة الرّيح بلا روح؟ وكيف أبسط الجناحين بلا ريش؟
آوت روحي إلى ركن قَصيّ، وأنا أبتسم للجميع، أسأل، أتحدّث… مَرَحٌ ضروريّ أردّ به على حفاوة الاستقبال. واستعدت ذهني وأفكاري… مرارة الذّاكرة أزاحتها الكنافة. اكتشاف للطّعم الأصيل… طعم الكَرَمِ الممزوج بالحلوى…
بدأنا بالحلو مسيرنا على طريق جرش_ساكب… تغيّر قليلا طعم الخيبة في حلقي. وتنفّست هواءً شبيها بنسيم أعرفه. وتفتّحت شقوق الرّوح ليدخلها الهواء المنعش… نهضت من كبوتي، كان لا بدّ أن أستفيق على حلمِ جديد.
وصلنا إلى مكان الإقامة، بيت بدا لي منذ دخلته أنّني أعرفه، أعرف جدرانه، أثاثه، والوجوه الّتي دَخَلَتْهُ قبلي… وسريعا، اخترت مكاني… طابت نفسي. المهمّ هو أنّي شعرتُ بالأمان وقد وصلني هذا الإحساس قويّا، وبسيطا في نفس الوقت.
*سلاما ساكب:
فنجان الضّيف من يد المبتسم الكريم محمّد، ابن صاحب البيت، كان أفضل فنجان قهوة شربته منذ عرفت طعم القهوة… بهذا الفنجان وَجَدَتْ روحي ملامحها وبسرعة…
ارتسم المكان سريعا في روحي وتفتّحت ألوان الجدران بالفرح على فضاءِ نفسي لتكون فضاءً رحبا تمرح فيه مشاعري… انزاحت المرارة من روحي وتطلّعتُ من أعلى البيت إلى الأضواء… لوّحتْ لي من بعيد ومن قريب: «الأمان الأمان! فقرّي عينا وطيبي نفسا وانعمي بنسمات صيف جبليّة…»
في الصّباح صعدتُ إلى السّطح وأخذتُ صورةً للمكان. انتشر حينها ضوء النّهار وارتفعت الشّمس لتكشف عن جمال الطّبيعة… ساكب… الجبال والأشجار تحت سطوة شمس الصّيف تنضح بالخضرة… امتداد الخضرة يوحي بالسّلام… والهدوء. وعادت الصّور إلى خضرة الذّاكرة… إلى هضاب العالية وجبل حكيمة ودير الجبل وزغبة ودليمة… شيء ما هنا أعرفه… كأنّي عرفت الجبال والشّجر منذ الأزل…
منذ متى لم تعرف نفسي مثل هذا الهدوء؟!
وصلني صوت الجبال… «هيّا! هيّئي للرّوح بساطا وافترشيه لتجني زهر الأمنيات.»
*بيت السّلام… سلام عليك
على مائدة الإفطار اكتشفتُ كيف يمكن أن نتذوّق طعما جديدا بشراهة طفلة تتذوّق نوعا من الحلوى لأوّل مرّة. ما ألذّ طعم الاكتشاف… طعم حادّ لم أتعوّده. حامض، قويّ… ببساطة، طعم غريب وأنا ما تعوّدت إلاّ فنجان قهوة ينعش صباحي. الاستثناء جيّد وعَلَيّ أن أعيش اللّحظة بكلّ ما فيها، وأشرب الشّاي أيضا.
الطّعم الحقيقيّ لم يكن للطّعام الّذي أفطرناه بل هو طعم الدّفء الإنسانيّ… دفء يغسل الرّوح من كلّ أدرانها. إذ شعرت بأنّني أعرف البشر حولي كأنّي عشت معهم العمر.
دخلت المكان لا أعرف أحدا وها أنا أشعر بالأنس…
أخفيت شعوري فكيف أفسّر أنّني أعرف المكان وأهله؟ من سيصدّق أنّني زرت المكان قبل هذا الوقت؟! … من يؤمن بحجّ الرّوح وتخاطر الرّوح مع الأمكنة؟!
*مهرجان ساكب.
جئت المهرجان لأتابع الأنشطة وأوصيتُ نفسي بالهدوء. يسعدني كثيرا الاستماع إلى أصوات الشّعر المختلفة خاصّة وأنّ المشاركين من بلدان عربيّة كثيرة. استعددت لأعرّف ما استطعت بالأدب التونسيّ وحركة الشّعر بما يسمح به الحوار وأدبه. وفكّرت أن أظلّ صامتة وأكتسب صداقات أدبيّة توافق ذوقي. لم ألتزم الصّمت حين وجدت الفرصة للكلام. عالم الكتب يستهويني كثيرا ولا يمكنني تفويت فرصة عرض بعض الكتب، أو فرصة إبداء الرّأي في النّصوص.
انسقت مع الفعاليات وأنا لا أعرف شيئا عن البرنامج، تعمّدت ذلك، فالمتعة مضاعفة بالاكتشاف. فاستمتعت مثل طفلة لا تلقي بالا إلى مراقبة أمّها.
الافتتاح حضره عِلية القوم، وكان الحضور نوعيّا، وأثّر هذا في نفسي جدّا. الشّعراء الّذين أنشدوا في الافتتاح لفتوا الانتباه إليهم بجودة النّصوص، أحسنوا تمثيل بلدانهم، وقدّموا صورة لائقة للشّعر والشّعراء.
البدايات إذا نجحت دفعت إلى مزيد العطاء. ولهذا تواصل المهرجان بمزيد الحماس والتنوّع في أنشطته.
ما أجمل الشّعر حين يجتاز حدود الأمكنة المغلقة ويطير في فضاء بلا جدران… كلّ الأمكنة صارت ميدانا لإنشاد القصائد… فلا حديث إلاّ حديث الشّعر أو حديث عن الشّعر… فوق السّطح كما في ديوان العشيرة، في الملعب كما في مدارج جرش ومنصّة الجامعة… بل حتّى في المطعم وأثناء الغداء… صعودا بأنفاس الشّعر إلى عالم رحب شاسع… فصارت الأصوات أعلى وأوضح. وطار الشّعر فوق جبال ساكب وعجلون وجرش، واتّسع مداه وصداه إلى إربد وعمان.
نشر الشّعر ظلاله واستظلّ بفيئه السّامعون. وعلا النّشيد معلنا ميلاد مهرجان ساكب كبيرا، باسطا ذراعيه يحتضن الفرح، فسعت إلى ساكب ألوان قوس قزح ترسم لوحات الفنّ في المنتزه تحت الأشجار… وفراشات تحلّق حول الألوان، وحول النّور المشعّ من عيون الناظرين… ورتّلت أوراق الشّجر تسابيحها وصلاتها في محراب الجمال.
سمبوزيوم:
في منتزه محميّة الغزلان بدبّين، تحت الشّجر، انتشر الفنّانون التّشكيليون من مختلف الأعمار وأمامهم لوحاتهم، وعلى الشّجر تدلّت بعض اللّوحات نماذج لأعمالهم ومدارسهم التشكيليّة المختلفة، ثمار جهد وحبّ… بينهم المتمرّس، وبينهم المبتدئ… افترشوا الأرض أو وقفوا، لم تكن لهم من غاية سوى نشر الفرح والألوان وتشكيل ما يخالجهم على لوحاتهم… تصاوير أخذت خطوطها وألوانها تتوضّح كلّما مضى الوقت. وانتشر بينهم الشّعراء يقرأون آيات الفنّ والجمال ويتهجّون أبجديّات سحر المكان…
وبحثت عن حروف جديدة لنصّ يداعب روحي ويعالج أقفال لغتي… سكبت ساكب عطرها في روحي وعوض أن تفكّ أسر لساني خدّرتني بسحرها… ووقعتُ تحت تأثيرها. فآثرتُ الابتعاد عن الجميع ورحت أراقب الغزلان في الحديقة من خلف السياج.
رسمتُ لوحة في خيالي، جبال وأشجار وغزلان تمرح في كلّ مكان… وأنا أحرس قطيع الغزلان خوف أن يشرد، وغنّيت: “غزالي نفر…”[5] و “فراق غزالي…”[6] لأعود ثانية إلى هضاب العالية. ترى هل كان بها غزلان؟ وابتسمت للفكرة الّتي راودتني… بها غزلان وأيّ غزلان، هنّ حفيدات الأندلسيّات الأوائل بحسنهنّ ورشاقتهنّ، وفي واحدة منهنّ أنشد شاعرها “العربي النجّار”[7]فراق غزالي…
حضر الأردنّ بجماله في السمبوزيوم، والجمال بنات، غزالات، في لباس الأردنّ التّقليديّ. وحضر الشّباب ليطبخوا المنسف على طريقتهم… صار المكان مخيّما كشفيّا… كشف بساطة الحياة والحبّ في أرقى صوره، وكشف قدرة الإنسان على الاستمتاع بكلّ ما يمكن أن يَرِدَ على حواسّه من جمال الطّبيعة وجمال الفنّ وجمال روح الإنسان حين تُرسَل على سجيّتها.
*في مواكب الشّعر.
بعد الفنّ التّشكيليّ عاد الشّعر ليبسط جناح الكلمة في المنتزه، ثمّ في الملعب. ولأوّل مرّة رأيتُ ساحات اللّعب فضاءات لتلاوة الشّعر في خشوع الناسكين… صورة أخرى لن تمّحي من الذّاكرة. إذْ حوّل الشّعرُ الملعبَ إلى ساحة مقدّسة تجلّت فيها حوريّات الشّعر، وملائكة الرّحمان وقد حفّت بصلاة المغرب الّتي أقيمت في نفس المكان. لتقطع بوح الشّعر بخشوع الصّلاة والتّسبيح.
وفي الملعب خشع قلبي، فقد رأى، رؤيا لا ريب فيها، من جاء يحيّي ليُحيي بعضا من أنفاسٍ انقطعت في الصّدر… وتنفّستُ هواءً طلقا من جديد وأملا وإن لم يدم فقد أثار حولي غمامات السّلام فأنشدتْ أغنية الإياب وأمطرت فرحا بعد الجفاف. وردّدت الجبال رجع النّبض، حلما!!! وأيّ حلم!
توسّعت دائرة مهرجان ساكب لمواكبة أمسيات شعريّة أخرى في عجلون وفي إربد وفي عمان… وفي حرم الشّعر يتواصل الخشوع، وتتواصل العلاقات الإنسانيّة… عدد هائل من النّاس يحيّون ويضيّفون ويسمعون الشّعر ويبدون الرّأي ويسألون… يشعرونك بأنّهم عرفوك منذ سنوات وأنّك منهم وإليهم…
وفي مواكب الشّعر انطلقتُ بلا جناح أقطف أمنيات عِذاب…
*صعودا… صعودا… هنا قطاف الأماني:
صعودا صعودا والنّبض ينخفض ويكاد قلبي يهوي من فوق الجبل. أصمت وأبتسم، في كلّ مرّة تزيد طاقة احتمالي للمرتفعات ولكنّ ضغط دمي في شراييني يرفض الارتفاع ويتعطّل… صعب أن أتكلّم وأنا في حركة صعود… حين أصعد أنتبه إلى نبضي فقط وأنا أتابع المشهد المعلّق حولي. أتّخذ هيئة المتأمّل، أكون حينها في صلاة مع كلّ الكون…
معلّقة بنبضي الخفيض كنتُ، والطّريق ترتفع أعلى وأعلى… تعوّدت في مثل هذا الموقف، أن أتنفّس عميقا ثمّ أخفّض تنفّسي وسرعته فأحتمل أكثر دوران روحي في الفراغ… دوراني في فضاء الكون الأرحب، هو دوران أقرب إلى الطّواف…
كيف أحتمل؟ فالنّبض يضيع، ويتعثّر، ويظلّ معلّقا بين السّماء والأرض حتّى أسترخي فيعود تنفّسي ويتحسّن تدفّق دمي في شراييني.
يا الله! ما أشقاني! لو لم أتعلّم هذا التحكّم في نبضي الضّعيف لارتفعتُ مرّة واحدة ونزلت بعدها إلى حفرة الفناء.
أحدّث نفسي أنّ كلّ الأماني المخضرّة عناقيد معلّقة في السّماء. فتصعد روحي وتتشبّث بأذيال الأمنيات وهي على أطراف أصابعها تختلس النّظر إلى الأسفل… نعم نجحت… أنا معلّقة كالعنقود أتدلّى من كرم الحلم.
أبتسم للفراغ ويهوي قلبي، يتدحرج ويظلّ متدلّيا، متأرجحا، يعدّ الثّواني في طوافه صعودا ونزولا… ليت الحلم لا ينتهي… فثريّات الفكر تفتح في ظلمة الأفق معابر نور أقبس منها حفنة ضوء لأوقات معتمة تجتاحني في وحدتي.
صعودا، صعودا… إلى أيّ مكان في ساكب أو حولها…
صعودا…. حتّى ذبل نبضي، وقاومت الضّعف لأستمتع…
نزهة صباحيّة في الجبال، صعودا… حيث لا سدّ للنّسمات المنعشة، تستحقّ التّضحية والمقاومة، وإفطار جماعيّ تحت الأشجار لا بدّ من مباركته.
وكيف لا أقاوم انخفاض الضّغط وأنا أصعد إلى مخيّم الغزلان بدبّين، وإلى قلعة صلاح الدّين بعجلون، ومخيّم راسون… يا الله! لو أظهرت خوفي قليلا ما كنت لأتمتّع بخضرة المدى الرّحيب أمام عينيّ…
تمدّدت أمنياتي تحت الأشجار تنعم بخضرة الأحلام… أنفاسي استقرّت وزال كثير من رهاب الارتفاع… وامتدّ بصري يقطف من المدى البعيد ظلال جبال فلسطين. وعلى مسافة أنفاس منّي زفرات ناي تصبّ نغمها في روحي نهرا بلا ضفاف… وغنّيت للنّهر المقدّس أنشودة السّلام، وتعمّدت روحي بطهر أنفاس الشّجر… وعرجت إلى مستقرّ لها كما يليق بالحياة…
ليتني لا أفيق.
* أيّ المكانين أرى؟
ساكبُ… بدأت رحلتي فيك بخطوات المكتشفة وسارت في أفقك الرّحيب حلما طائرا إلى أبعد مدى…
فكيف أتلوها آيات جمالك وأنا في حرم الجمال والسّلام؟ وما كان لي إلاّ عاليتي قبلة شوقي ومرتع أحلامي، وحفنة من ضوء تسكبها الهضاب العالية في روحي…
لم أعد أعرف كيف أشكّل مفرداتي وأنا أتحدّث عن ساكب. فقد شعرت أنّي عشت فيها كلّ عمري… وما إن سرحت أحلامي تقتات من جمال المشاهد، حتّى تعثّرت لغتي في جلال المكان… مكان، تشبه كثيرٌ من تفاصيله تفاصيلَ مكان عرفته طيلة حياتي…
هي تفاصيل المكان حين يُظلّل واحات العمر فيمنحه الجمال والسّلام ويفتح للرّوح أبوابَ الفرح.
هي تفاصيل حياة الإنسان بكرمه وسماحة أخلاقه وقيمه النّبيلة حين يفتح أبواب القلب فيجعلك تكتشف نفسك والآخر، بل تجد نفسك وتعرف ذاتك في تجلّيات جديدة.
هي… تفاصيل مسارات الحياة على طبيعتها، ترسم معالم ثقافة مؤتلفة، مختلفة، تملأ الكيان وتوسّع الآفاق نحو رؤى أرقى وأبعد.
هي، تفاصيل ذكرى، وتفاصيل رؤى، في حرم الجمال الصّرف مكانا وإنسانا وثقافة… ونصّا رُسِمت حروفه من وجدان أهله بقيم أهله، ونموذج الحياة الّتي تمنح السّلام حين تتمرّد الرّوح في الطّبيعة تروم صعود الجبال…
المكان… أوزاليس الرّومان، العالية، حضن الأندلس الآمنُ… قبلة أشواقي وغرامي الأوّل…
والمكان ساكب… أغنية الجبال، أغنيات في البال، وألحان القلب إذْ باح خفقانه بالحياة وتعالت أنغامه كلّما سِرْتُ في مراقي الجبالِ صعودا، صعودا… معراجا إلى حرم الطّبيعة واخضرار الحلم… و “من لا يحبّ صعود الجبال”[8]…
كلّ التّفاصيل أعادت الطّفلة داخلي إلى الحياة في ربوع طفولتي، كنت، وأنا في ساكب، أتلعثم كلّما رأيت يديْ جدّي تمتدّ إليّ بخيرات الشّجر… وكلّما شممت الثّمار… ما أشهى تِينك وعنبك ساكب!
تُرى؟ ما كان سيحصل لو تواصل الحلم… لو جمعت تفّاحك! لو تذوّقتُ لوزك أخضر يبلّله ندى الفجر! لو تسلّقت شجرة توت…
ساكب، أيّ روح أسكنتِها في روحي؟… تعثّرت الرّؤى.
أرى فيك ترابي وتراب جدّي وأبي… أراني على السّفح الخفيض من جبل الحكمة… طفلة، على هضاب العالية…
ساكب: أغنية الجبال
يا أغنية الجبال تثرثر ألحانُها في فم الكون!
ردّدي معي أغنيتي واسكبي النّبضَ في نبضي…
ساكب! أيّ سرّ فيك؟!
لَيْلُك تسابيح الرّوح تلقي بسلامها على روحي…
ونهارك نغم ساحر شجيّ…
ساكب! فقدتْ بوصلتي الجهات فكيف أمضي بعيدا وأغنية الجبال تسكن مسمعي، وتشدّني؟!
أغرقتني ساكب في تفاصيل المكان، وفي ترانيم الشّجر، وفي تقاليد البشر…
كم سكبت في روحي الحنين إلى طفلة كُنتُها تحلم بجمع ندى الفجر في راحتيها!
ساكب… يا أغنية الجبال، مع طيور الفجر أوّبي، وارسمي درب الحياة تحت قدميّ… واسكبي لحن الحياة في نبضي…
سافر… تجد عوضا…
لمّا قلت: “أنا ساكبيّة”، لم يعدّل سامعوها النّسبة بل أعربوا عن فرحهم بنسبتي إليهم. ربّما أدرك أهل ساكب الشّبه بينها وبين العالية… العالية الّتي عرفتها طفلة بكرم أهلها وعطاء أرضها وشموخ جبالها وهضابها…
وها قد بنينا الجسور لنعبر إلى الضّوء… بالكثير من الإيمان بالفنّ، بالكثير من الحبّ… بالكثير من آيات الضّوء أسرجها الفنّان لتنسج من شعاعها دروبا… صعودا إلى القمّة حيث الإنسان “روحا مستمرّا” ينشد الخلود بجميل الأثر…
ولمّا خشعت روحي، صارت الإقامة في ساكب حلما سريعا ما انتهى وصرت على أبواب الرّحيل وفي قلبي قصيدة جديدة لم تكتمل وقصيدة قديمة تخنق ما تبقّى من أنفاسي.