عايشتُ جدّي مدة طويلة، ها أنت تراني أتجاوز الخامسة والثلاثين من عمري، وهو طريح الفراش وقد ناهزّ التسعين من عمره، وأنت تسمع بنفسك، ذاكرته لا تزالُ قوية!
ولجدّي صفتان لم أجدهما لدى فلاح آخر، من سكان قريتنا الصغيرة أو غيرها من القرى المجاورة؛ صفة حسنة، وأخرى غريبة، الحسنة أنه يتقن اللغة الفرنسية، والغريبة نفوره من طعام الولائم!…
إني أتذكر جيدا، فقد كنتُ أبلغ من العمر خمسة سنوات أو أقل، في أحد الأيام الربيعية، جلس ثلاثة معلمين، يدرسون في مدرسة القرية المتواضعة، تحت شجرة تين، على طرف الحقول الخضراء…
كان جدّي يحبُ إكرام المعلمين القادمين من المدن المجاورة، فيحملُ إليهم اللبن اللذّيذ وأرغفة الخبز الساخنة، ويتبسط معهم في الكلام…
لكن هذه المرة حمل معه كتابا صغيرا باللغة الفرنسية؛ كتاب عن تاريخ الجزائر القديم…
وبعد أن وضع طاس اللبن وسلة الأرغفة أمامهم ، ابتسم وقال لهم : ـــ اليوم ، أريد أن أختبركم !
ـــ تختبرنا! يا سي بوحركات …
ـــ نعم …أكتشف مستواكم في اللغة الفرنسية! وأعلم أي جيل تعتمدُ عليه بلادنا للنهوض والتقدم !
فتح الكتاب ، ثم قال : ـــ اختاروا ! إما أن أقرأ أنا وأنتم تترجمون، أو تتلون أنتم وأنا أترجم !…
فاختار معلم اللغة الفرنسية أن يقرأ هو، وجدي يترجم، وكم كانت دهشتم كبيرة، فجدّي يصحح له التهجّي، ويترجم إلى العربية الفصحى تارة، وتارة بالدارجة ! …
بالطبع كنتُ طفلا لا أفهم اللغة الفرنسية، وحتى اللغة العربية لكني لا زلت أحتفظ بصورة ملامح وجوههم المتحيرّة!…
والصفة الثانية، فكانت تثير الدهشة والاستغراب لجميع من عرف جدّي من أقارب، جيران أو أصدقاء، حتى أنا سألته أكثر من مرّة لكني لم أظفر بجواب مقنع!
كيف لإنسان متواضع، سهل وطيب مثله أن لا يحضر ولائم الجنائز؟ وإنما يعزّي ويفرُ عائدا إلى بيته! ولو كان المُتوفى أقرب الناس إليه!…
ومنذ سنوات قليلة ، في جنازة أخيه ، أغضب الإمام وطلبة القرآن الكريم لأنه لم يجلس ويتعشى معهم ، فالراحل أخاه!
وفي وليمة السبوع جلس بينهم ، لكن لم يتناول الكسكسى بالمرق واللحم وإنما اكتفى بسندوتش فريت اوملات اشتريته أنا له !…
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية