لا أدري كيف اخترقتني كلمات تلك المرأة الأمية، تلك الياسمينة التي يعبق شذاها في بيتنا، تلك المرأة التي لا ننام إلا إذا التففنا حولها ، تلك الأنثى الأمية وحدها من صعقتني بكلماتها ، أشعرتني بضعفي وأنا الذي لم أكن أؤمن إلا بما أحسه وأراه ، كلمات قليلة، كلمات مختصرة ، ولكنها تحمل من الحب ما تعجز عن وصفه كل الكلمات .
كلمات اخترقت قلبي ، استقرت في وجداني ، هزت شيطاني وأربكته ، قريني الذي عجزت كل حيله عن طرد أو انتزاع تلك الكلمات وذلك الوجه بملامحه الملائكية من ذهني.
يا بني كفى من العمر ما مضى ، كفاك ما قضيته من عمرك طيشاً ولعباً وعبثاً بدنياك دون أن تغنم منها شيئا بل أنت الخاسر دوماً ، يا بني تعرف على من أحبك دون أن يحتاجك بل دوما أنت من يحتاجه ، تعرف على من هو دوماً كما تظنه، تعرف على من وسعت رحمته كل شيء، اقترب من النور، اقترب من الله جل في سماه، اقترب منه وستجد مخرجاً لكل أزماتك، وفرجاً لكل ضيق، تعرف عليه ورافقني لزيارته، وبعدها لك الخيار، أن تستمر في دربك ، أو أن تعود إلى من سوَّاك .
كانت تعزف على الوتر الذي تعرفه جيداً، كانت تضربني دوما على خاصرة العاطفة ،كانت كلماتها المتحدية تخترق ضعفي ، وتسقط آخر قلاعي ، كانت واثقة من هزيمتي أمامها كالعادة فهي دوماً من تنتصر، تتلعثم الحروف على لساني أخرجها عنوة وأسألها :
أين أزوره يا أمي ؟ أين يقيم ؟ وهل له مكان يتواجد فيه لتتم زيارته ؟
هو في كل مكان ، معك أينما كنت وفي كل وقت، هو من وسع كرسيه السماوات والأرض انظر لنفسك هل تملك من أمرك شيئاً، تأمل السماء ، واسأل من بناها بغير عمد ولتجب على نفسك بحيادية دون أن يكون للأفكار المسبقة أي وجود ، تمعن في الأرض وانظر كيف تتبدل وتغير جلدها في كل مرة فمن ربيع مزهر إلى أرض جرداء إذا ما حل الصيف ، وكيف تتعرى أشجارها عندما يحين وقت الخريف، إنه يراك دوماً وأنت لا تراه إلا في خلقه ومعجزاته .
حسنا يا سيدتي: سأرافقك ولكن لا تجبريني على شيء لا أود فعله، لك هذا.
أيام عديدة استمرت وأنا أفكر في كلماتها البسيطة وحوارها الهادئ، هناك شيء يتسرب إلى داخلي ولكني لا أعرف ما هو ، هناك فرح يغزوني ولا أعرف له سبباً، هناك مشاعر مختلطة تقتحمني ولكني لا أستطيع تفسيرها ، وأخيرا كان القرار الذي لا رجعة عنه وهو أن أكون رفيقا لأمي وشقيقتي التي تصغرني بعامين، قريني يحاول ولكن كلمات أمي كانت هي الأقوى، ونجحت في أن أُلحق معاملتي بمعاملاتهن وأنال تأشيرة الدخول لبيت الله معهن بالرغم من تأخري !
حان الموعد ، حملت حقيبتي وسرت معهن، خطواتي تسبقني ، لماذا ؟؟ هل لأنها المرة الأولى التي أغادر فيها ديرتي ؟ تبرير معقول لحالة الفرح المذهل الذي كنت أشعر به في تلك اللحظات، صعدنا إلى الحافلة كانت والدتي وشقيقتي تجلسان في نفس المقعد وأنا اتخذت من مقعد مساعد السائق مقعداً لي.
أبو يونس أسر في أذني بأنه إن لم يجد من يشاركه السهر في هذا الطريق الطويل يخشى أن يسيطر عليه النوم وهو يقود الحافلة، فيكون السبب لوقوع كارثة لا قدر الله، فوعدته بعدم النوم حتى نصل إلى المكان الذي هاجر إليه حبيب الله ومنه تكونت إمبراطورية الإسلام، والتي انتشرت حتى ملكت الأرض كلها،( ولكنك لن تطيق مع أسئلتي صبرا).يااااه وهل سأرى حقيقة المكان الذي نصره وأن أرى قبره وأين كان أول مسكن له وأين عقد أول اجتماع لدولة دانت لها الأرض،كل هذه الأسئلة كانت تراودني وأنا أعجز حتى الآن عن وصف المشاعر التي غرقت بها وليتها استمرت أو ليتني قضيت نحبي وقتها .
سارت الحافلة من رغدان باتجاه وادي الرمم، كانت تسير الهوينا حتى تجاوزت مبنى الإذاعة والتلفزيون، وفجأة بدأت تلتهم الطريق، كانت الساعة تشارف على السادسة مساءً عندما وصلنا إلى إحدى الاستراحات في بلدة القطرانة ، وهناك بدأت أولى المشاكل حيث تعطلت الحافلة، وانتظرنا إلى ما بعد منتصف الليل حتى وصلتنا الحافلة الجديدة التي سنواصل بها رحلتنا إلى الله، كنت قد راهنت أبا يونس على أن ثلثي من كان معنا ليس متجها إلى الله، بل لغايات أخرى ،وبعضهم لن يكمل معنا الرحلة بل سيضربون لنا موعداً لكي نعيدهم معنا فاستجاب لرهاني، وما إن وصلت الحافلة الجديدة حتى بدأت و أبو يونس نوقظ من كان نائماً وننادي من ترك الموقع ونبحث عن آخرين، ساعة من الزمن أو ما يقارب ذلك حتى اجتمع الناس وصعد أبو يونس خلف مقود الحافلة وأنا لجانبه، كنت باستثناء شقيقتي أصغر من في الحافلة ، التي بدأت تلتهم الدرب بلا رحمة، يا الله ما أعظم ما وهبتنا ، وهبتنا العلم ولولاه لما كان هذا الاختراع الذي يختصر الوقت ويبتلع المسافات ، طلبت من السائق أن يفتح باب الحافلة لأنظر إلى السماء ، رفض بشدة وقال بلسانه الثقيل:” الدنيا ليل، والليل أسود .. شو بدك تشوف؟ قليل من الوقت ونصل الحدود وتشوف السماء مثل ما بدك، وتعد نجوم مثل ما بدك، وتتذكر حبيبك وتشوفه وين ما بدك ” التزمت الصمت وبررت رفضه ورحت أتأمل الرحلة منذ أن انطلقت حتى تلك اللحظة ، فقط أريد أن أصل إلى أرض الله، بيت الله ، أريد أن أتعرف إليه ، أريد أن أراه ، لم أر من الطريق شيئاً إلا ما كان يسمح لي به نور الحافلة .
معان ، نحن الآن في معان ، وهنا لا بد للذاكرة أن تقف لا بل أن تعود إلى الوراء كثيراً إلى تاريخ زاهر ما زالت ملامحه واضحة جلية تسقط كل الأقنعة عمن يدعون أن هذه الأرض ما كانت إلا مع تأسيس الأمارة ، كيف ؟ وهنا كانت الدولة الأقوى في تاريخ المنطقة ، هنا المكان الآمن لكل الخائفين منذ فجر التاريخ حتى يومنا ، هنا عاصمة الصحراء ، هنا تأسست وقامت دولة العرب الأولى ، هنا كان النظام الذي يسير عليه كل أفراد المجتمع هنا كانت دولة الأنباط التي أهدت العالم الفن الحقيقي والدائم
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية