رحلة الى الله (2) / بقلم: محمد صوالحة

من هنا خرجت الجيوش التي طهرت الأرض من عسكر روما ، هنا توحدت قبائل المنطقة في نظام شامل ، هنا ولد الحارث الأول والثاني والثالث والرابع ، إلى هنا لجأت ابنة الفرعون لتحتمي من خوفها وأُسس لها قصر ما زال يسمى باسمها “قصر البنت ” هنا كان مستودع الذهب والفضة لكل الدول المجاورة إذا هنا كان الأمان ، ومن هذه المنطقة مر رسول رسول الله حامل رسالته لهرقل عظيم الروم،  حيث كان لاعتراضه من قبل الغساسنة واستشهاده على أيديهم السبب في موقعة مؤتة الخالدة، حيث منها بزغ نور الدولة الأهم عبر القرون الآتية،  وهنا تأسست مملكتي الحديثة ، وهنا كانت تزرع بذرة الجيش العربي الذي أنا الآن أحد منتسبيه وأُفاخر الدنيا بانتسابي إليه، هنا التاريخ ومن هنا عاد الراعي ليؤسس دولة أعداء الإنسانية ، أعداء الله ورسله ، وفي ديرتي كانت العدالة وكان شعيب ، لماذا تنهال الذاكرة وينساب التاريخ بهذه السرعة في ذاكرتي؟ فقط لأنني وصلت معان ، معان حاضرة الصحراء وسيف يحمي خاصرة المدنية ، معان أم التاريخ حاضنة الثورة العربية التي لو قُدر لها أن ينجح هدفها لكانت أمتنا على غير ما هي عليه الآن ، معان تقترن برم والعقبة ، ترتبط بمدين والأغوار، معان وثيقة الصلة بالكرك ومؤتة والطفيلة ، مدين وسدوم وحشبونومادبا  وأورشليم، كلهن شقائق لمعان .

أحتسي فنجانا من الشاي وأشعل سيجارة لعلي أفر من ذاكرتي التي ازدحمت بالعناوين، عناوين كثيرة آخرها من هنا والطفيلة، من تجمع البادية ، بادية الغر الميامين، المُحلقين ببداوتهم إلى ذرى المجد ،  هنا صدر البيان الأول الذي رُفض به وعد بلفور ومن هنا كان ينطلق جيش الثوار لتحريرِ فلسطين، ومن هنا كانت تصدر الأسلحة والذخائر إلى المقاومة الفلسطينية , معان آه يا أم المدن وأم التاريخ ، يا أم الرجال الذين ما حنثوا عهدا ولا سكتوا على ضيم .

بقيتُ على هذه الحال شارد الذهن ، أبتسم حينا، وأسقط في فخ الدمعة حينا آخر ، حتى أخرجني أبو يونس من عالم التاريخ وأدخلني بوابة الواقع بقوله:  محمد نحن الآن في المدورة ، هيا نتمم معاملات الركاب وننجزها ، لنتابع مسيرنا نحو الديار المقدسة ، تركته  وكأني لم أسمعه وسرت باتجاه الشرق ، لا أدري عما أبحث ، كل ما أراه في الهزيع الأخير من الليل هو رمال أحسها تغوص في باطن قدمي لا بل تحتضن قدمي وكأني أعلم أنها تعرف أني من أبناء طينتها ولكني لا أعرفها لم أشعر ببرودة الرمل أو الصحراء كما تعلمنا ، ولكني كنت أحس والرمل يحتضن قدمي أن دفء العالم يلفني ، دفء العالم انطلق من هنا .

أحلام ورؤى تكثفت أمام ناظري  وسؤال فاجأني أين حكومتنا من هذه الأرض ؟ كيف نسيتها ؟ وبإمكانها أن تحولها إلى جنة غناء ، ولم يوقظني من أحلامي ومن جلد السؤال لنفسي إلا نداء أبي يونس وصراخ أمي التي تنادي وكأنها لن تراني بعد هذه اللحظة ، أقل من عشر دقائق حتى وصلت إليهم وفاجأني أبو يونس بكلمات لا أدري من أين أتى بها ، يا بني نحن في طريق طويل و لا يلزمنا مجانين لأنهم قد يعطلوننا عن مسيرنا ويقتلون الوقت بأشياء مجنونة ، نظرت إليه مبتسما وكان رد أمي  قد سبقني لأنها لا تحتاج إلى تحضير كلمات كما أحتاج ، لا تحتاج إلى قاموس تبحث فيه عن كلمة لترد بها وتوصل ما تريد قوله ، قالت : وهل لذة العيش إلا للمجانين ، ليتنا كلنا نحمل ما يحمل من جنون ، أبدا لا يضيع منه الوقت إلا في البحث والتأمل ومع ذلك فهو في مدرسته لا يصنف مع المتفوقين لا ولا يقترب منهم همه الحصول على علامة النجاح ليرضيني ويرضي أباه “هيك خلقه ربه شو نسوي إحنا “، وهنا حلت المشكلة الثانية ، حيث لم يُسمح لحافلتنا بالمغادرة إلا بعد أن يثبت على تأشيرات الدخول رقم الحافلة الجديدة ” يعني وقت طويل للمكوث في هذه الأرض، وقت لا يقل عن عشر ساعات ذهاباً وإياباً يعني الليل القادم سيكون وقت مغادرتنا هذه الرمال المجبولة بكل القيم الإنسانية التي خلق منها الإنسانالأردني ، عشر ساعات وقت ليس بالقصير أستطيع أن أسرق نصفه وأغرق في بحر من الأحلام التي قد أكتشف فيها ما لم أكتشفه في صحوي ، ذهبت إلى المسجد،  تمددت على أرضيته ، أشعلت سيجارة ما قبل النوم، فاحتج أحد الملتحين ، حرام عليك يا بني هذا مكان طاهر ، حرام أن تدنسه بالدخان ، نظرت إليه مبتسماً ، يا سيدي أي حرام هذا الذي تتحدثون عنه؟ إذا فوجود الرجال والنساء في مكان واحد أكبر إثماً من دخان سيجارتي أليس كذلك ؟!!  الاستماع والاستمتاع بضحكات الصبايا في المسجد أكثر حرمة مما أفعل !!! فلندع الحديث بهذا وليقض كل منا حاجته ، وسلمت عيوني لملك النوم 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!