الأرض البكر بتلالها وأوديتها ، حلم العارف ، تجسيد الرؤى ، اشتياق المغامر ، عناد الحجر الممعن بالانتظار ، حارة باير ، مربض قوافل الإبل في طرقات وادي السرحان ، ريح الصهباء في مضارب بني مرة ” أخت إرم ذات العماد ” وحارستها ، مستودع الذاكرة من ثمود إلى ضجعم ” نزهة المشتاق ” في اختراق آفاقها ، وجهتنا في رحلة الكشف عن النقش القديم.
سلسلة الشراة ، هي قصة الأرض المكللة بالغار ، والتي تماهت دما في شرايين فارسها العربي ، فكانت معشوقته التي طرزها قلائد شعر له ، وقدمها أنثاه الجميلة فصارت ندى لوادي رم ، وواجهات البتراء ، ونبراسا لدروب الحرير والبخور ، وهي العصية الجسورة بخيلها وفوارسها ، والسهم الذي شق عباب الغيم ، لحظة لامس جفنيه ريح الصبا ، فصارت حجارتها ونقوشها مستودع سرها وسيرتها ، وضمير أمتها ، حيث لم تستطع الإمبراطوريات العظيمة ، بجيوشها الجرارة ، أن تمحو سطرا واحدا من ملحمتها على حجر صلد أو ظاهر رجم في رأس النقب والحسمي والراجف والخزعلي .
معان وأنت أسيرها ، أسير ألقها وعنفوانها ، أسير لون الرمادي في تربتها المسكونة بالغار على قممها وسفوحها ، المضمخة بدم شهدائها وقد خبت خيولهم في ميادين مؤاب وباير وقاع الجفر ، وفي ركني معان الشامي والحجازي ، وقد عقدوا العزم أن تظل السيف الذي ما نبا ، والقناة التي لا تلين .
معان وقد تماهت في القريب البعيد ، وفي الحاضر الغائب ، في سويداء العين واختلاج الحنايا ، هي معان ، دون غيرها ، مواطن الأجداد مذ كانت ، على مفرق المجد ، كما الأمس والحاضر ، وقف ابنها فروة الجذامي ، وهو يقرأ على أهلها سورة الإباء ، وهو المهيب في حضرة المكان الذي أسكنه أهله قوة الروح وشريان الحياة .
مشكلة في ما بعد أعظم أسطورة بنتها تلك الأكف السمراء والأجساد النحيلة ، والكثير من الجوع والعطش ، الأمر الذي ساهم بأن ترفع دولة الأنباط العربية وتيرتها بقوة وتعمل على صون تلك المقومات لها حتى تملأ الأسماع وتغازل القلوب وتترك لنا حنينا لا ينضب للحارث الثالث ، علاوة على ما استطاعت هذه الدولة أن تحققه من دور ريادي بالإبقاء على حركة التجارة المارة عبر المنطقة ، ضمن مستوى عال من الأمن في كافة مناطق نفوذها ، والذي امتد في كل الأرجاء والفضاءات ، قلبها الأردن ، وأذرعتا في سيناء والحجاز وحوران وسواحل البحر المتوسط في فلسطين .
وتبقى معان مستودع الأسرار والبوح معا ، تشكلت فيها توليفة الحروف ، كوفية ، وحجازية ، وشامية هناك ، تتحدر الروح على بواباتها ، بأنسامها الندية ، وطغيان موسيقاها ، وقد داهمتك دهشة الحرف الثمودي التبوكي ستة قرون أفقيا ، رأسيا ، دائريا ، ليطبق عليك جهاتك الأربعة .
معان ، الأرض المسكونة بالوديان والشعاب ، شرايين الوادي الكبير وأوردته الممتدة على المدى من الحجاز حتى مشرق الشمس ومغربها ، في أودية شرقي الجفر ، ودي الغرة ، حدرج ، آبار بني مرة ، العاذرية ، وأم الظواين .
معان ، قبلة العاشق رغم يباب الأرض وشح المطر ، ورغم هروب المجرى وهو يركش إلى القاع، وإلي البعيد حيث اللامستقر .
معان ، مولد السهام الصوانية ، مناجل المزراعين الأوائل ، ميدان طراد الخيل ، مربض الضعائن ، فمنذ استقام عود البشر ، كانت واحة الجفر بكل كهولتها وهيبتها تشهد أولئك الذين جابوا المكان في العصور الحجرية .
وقد كرست النقوش العربية الشمالية والنبطية ، تاريخا طويلا لحركة دائبة في منطقتنا ، ووشت بالكثير الكثير من أسرارها لاستكناه مكوناتها الثرة والطافحة بمجد العصور الممتدة إلى ما قبل القرن الثاني قبل الميلاد ، مما يحتاج إلى بحث مستفيض ، ووقوف طويل لاحصاء ومحاكمة هذا الكم الهائل من النقوش والنصوص والأثر ، وبما تختزله حجارتها من عوالم ظلت صفحة مطوية الاف السنين لأجيالها الحاضرة ، ولتلك التي لم تأت بعد ، بتناغم مذهل لاتجاهاتها ،
معان ، إيقاع القلب المسكون بالرفعة والقوة والآفاق ، وهج الشمس ، حد السيف ، سنان الرماح ، اقتراب الجنة ” طيبة وبارد شرابها ” ، حدو عيس الأردنيين ، وقدح الموريات ، وصبح المغيرات .