حب في منتصف الطريق(ج٢)/بقلم:لبنى القدسي

4
في ذاك الصباح قرأت رسالتك التي صار فيها يومي أكثر إشراقًا.. مشرقة كنت ومبتهجة بوجودك معي يا يزن.
كان يومًا متعبًا في العمل، وكان الجو باردًا يملأه الغيم.. لكن مشاعرنا وحدها كانت كفيلة بتدفئة العالم…
انتهى الدوام، وأرسلت لك: “وحشتني يا يزن”.
كانت الساعات التي لم نتواصل بها كأنها طويلة وأشتاق لك فيها أكثر..
رددت بملصق (قبلة)، لم أكن أعلم أن هذا آخر ما تجود به عليَّ.. انتظرت الوقت المعتاد لنلتقي.. ذهبت إلى نفس المكان، انتظرتك بشوق ولهفة لم أعرفهما طيلة حياتي.
كنت أحدث نفسي ما هذا الشعور الذي يكاد ينتزع قلبي من بين ضلوعي..! لقد تأخر، لماذا الصمت؟ لم يأتِ.. لم يرد على رسائلي… انتظرت.. قلقت..
تفكيري لم يتوقف حينها يا يزن… ماذا حدث.. عدت إلى المنزل.. كان ليلًا كئيبًا.. كنت تشاهد رسائلي… لم أنم طوال الليل، في عقلي مصنع للتفكير..
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى عملي بدون رسالتك الصباحية التي اعتدت عليها.. اعتذرت من العمل، كنت مخنوقة أكاد أجن… خرجت.. مشيت في نفس الأماكن، رائحتك تملأ المكان.. أشعر بخطواتك، وهمسات حديثك، ولمسة يدك، كل شيء يذكرني بك، لكنك لم تكن هنا.. أرسلت لك، كأنني كنت أتحدث إلى صنم لا تحركه المشاعر.. تلفونك يرن، لا ترد على اتصالي، لا أدري ماذا حدث.. لم أملك سوى الدموع والدعاء إلى الله… أيام مرت أتحدث إلى نفسي، أعيش مع ألمي ووجعي وحدي..
كم هو موجع الحزن والألم يا يزن! كم هو موجع الخذلان والبعد غير المبرر! كنت أشعر أني أموت ببطء.
صدمة هزت قلبي من جديد… لقد كنا في قمة سعادتنا، ما الذي عكر صفو فرحنا؟
بحر من الحيرة والتساؤلات حاولت أن أنجو منها، أتخبط هنا وهناك، كيف لي أن أنجو وحدي، وأنت من وعدتني أن تمسك بيدي، وأن نبحر معًا، وعدتني أنك لن تتركني أبدًا، كيف خذلتني الآن؟ كيف تركت يدي لأغرق في هذا البحر وحدي؟
لا أستطيع أن أفضفض لأحد عن وجعي، فكنت أنت وحدك السبيل لراحتي.
كتبت لك كل ما أشعر به من وجع وقهر، وتساؤلات، رغم أنك كنت لا ترد على رسائلي.. لقد وجدت في الكتابة لك ما يخفف عني وطأة صدمتي، كنت أعرف أنك ستقرأ ما أكتب..
وأنا في حيرتي كانت المفاجأة، أرسل لي مراد من كنت أعتبره أخًا وسندًا.
“وحبيبك صار يزن؟ وماذا فيه أحسن مني؟”، كان يهدد ويتوعد ويتنمر عليَّ، وأنني إنسانة مريضة نفسيًا ومجنونة.
لم أستوعب الأمر.. لقد بدأت قصة القدر الأخرى..
لم أكن أعرف أن العالم صغير لهذا الحد.. لم أتواصل مع مراد منذ فترة..
لكن كيف عرف بذلك؟ هل هو صديقك؟ وإن كان كذلك، ماذا دار بينكما من حديث؟
أسئلة كثيرة لم أجد لها جوابًا.
لماذا هذا الشخص جاء ليفسد حبنا، ليفرق روحين امتزجتا معًا؟
عرفت السر وراء صمتك يا يزن… استسلمت للدموع وللقدر..
مرت الأيام، حاولت ألا أستسلم لكلمات كادت أن تدمرني…
أيام كانت مثقلة بالحزن وبالدموع.. لا أستطيع الإفصاح عما حل بي لأحد.
دعوت الله أن يجبرني جبرًا يليق بعظمته، وأن يهون عليَّ وجعي.
كان عليَّ احتواء الموقف، والتعامل معه بشكل صحيح، فأنا لست بالمراهقة، بل أنا العاقلة التي يقال عنها “تملك عقل يوزن بلد”.
آه لو يعلمون كيف صرت اليوم بلا عقل، وبلا تفكير، لو كان عندي عقل ما تورطت بهذا الحب، وأنا التي صدت باب قلبها كل هذه السنوات أمام الكل.
حذفت كل ما يتعلق بك، ومن ثم حظرتك، بالرغم من حبي الذي يكاد يدمرني.
كنت أشغل وقتي بالعمل وبالقرآن وقراءة الكتب والروايات، انعزلت الناس لفترة. وقطعت تواصلي مع كثير ممن أعرف.
كنت أمشي لساعات، لكن في طرق غير المعتادة، لعلي أتجاوز وجعي، وأسترد روحي..
كم كان شعورًا صعبًا أن أنتظر عودتك ولم تأتِ.. كم كانت وسائل التواصل مملة بدونك رغم حظري لك..
آه يا يزن من يسكن الروح كيف للقلب أن ينساه..!
كم تمنيت لو أن الأيام تأخذني لأيام البراءة، لتلك الأيام التي لم أكن أعرف فيها أحدًا، سوى لعبتي وحلواي وأسرتي التي تحبني وتخاف عليَّ من أي أذى..
أيام على عدد أصابع اليد حبًا، وأيام أكثر منها من الدموع كانت كفيلة بأن تصنع مني شخصًا آخر يا يزن، فالصدمات وحدها من تصنع الشخصيات.
والوجع وحده من يفتح مداركنا على أمور لم نكن نفهمها، آااه كم يزيدنا نضجًا وإدراكًا لواقعنا..
لقد تعلمت من هذه التجربة المريرة مر العلقم، دروسًا أخرى.. قلت لنفسي: لا شيء يكسرني، لا شيء يستحق أن أنطفئ لأجله. لا بد أن أتعلم القساوة..
فالقساوة لا تولد معنا، لكنها تولد من المواقف في حياتنا… لذا لا بد أن أتقنها… وأن أمارسها مع كل من حولي، لا أحد يستحق المعاملة بلطف.
ألم يقل شمس التبريزي يا يزن “إن في الحياة فترات انتقالية لا يمكن اجتيازها دون أن يموت شيء ما بداخلنا”؟ فكان عليَّ أن أشيع طيبتي وبساطتي لتحل محلها القساوة لا غيرها.
أصعب شعور هو الشعور بالخذلان، وممن؟ من كان أقرب إلينا من حبل الوريد.
أرأيت كيف كان قربك لي يا يزن؟ كنت ذاك السائل الذي يجري في أوردتي، وبه أعيش.. كيف طاوعك قلبك على أن تخذلني، أن تتسرب من بين شراييني بعيدًا بعيدًا، لتتركني كصحراء قاحلة لا شيء يرويها… كيف طاوعك قلبك لتترك روحي تنطفئ؟
قيل: “حين يغمرك الحزن تأمل قلبك من جديد، فسترى أنك في الحقيقة تبكي مما كان يومًا مصدر بهجتك”. وهذا حالي أنا يا يزن، كم هو موجع أن يبكيني مصدر بهجتي!
5
مازلت أتذكر كيف استجمعت قواي عندما قررت أن أبعث لك رسالتي الأخيرة، ولا يهمني بعدها كيف تنظر إلى رؤى،رفعت الحظر عنك وبعثت اخبرك” بإن مراد أرسل لي، وحكيت لك ما قاله ، وطلبت منك أن تمنحني قليلًا من الثقة والأمان”،
اقسمت لك” بأني أحببتك، وما كنت أرى في دنياي غيرك، وأن القدر هو من رسم موعد لقيانا. لم أكذب عليك، وكانت عفوية الكلام بيننا هي الممر الذي تسلل من خلاله ذاك الحب إلى قلبينا، لا يد لي بذلك”.
حدثتك “إن دموع القهر والحزن والوجع خلال هذه الفترة كانت كفيلة بأن تغيرني تمامًا، وأن تعريني أمام نفسي، وأن تجعلني أجلد ذاتي فوق ما يتحمله بشر، ولعل السبب في ذلك طيبة قلبي، وتعاملي البسيط مع الآخرين، واحترامهم فوق ما يستحقون”.
قلت لك” تعرضت لحملة من التنمر من مراد، لولا إيماني وثقتي بنفسي لما استطعت تحملها، ولما أكملت الحياة.
وأنني لم أبعث لك كي أعرف حقيقة ما حصل بينكما، فكل شيء صار واضح…ولا أريد منك أن ترجع، فكسر القلوب لا يجبر” كنت أكتب هذا وقلبي يتمزق من الوجع، فأنا التي أحببتك وتتمنى عودتك، لكنها لحظة كبرياء.
لم ترد، وكأن الأمر لا يعنيك..انتظرت يومين وأنا أمني نفسي لعل قلبه يرق فيأتي معتذراً ومشتاقاً، قتلني تجاهلك، فعاودت الحظر وكأنني بذلك استطيع نسيانك.
وعاهدت نفسي ألا أبعث لك أبدًا مهما كان اشتياقي وحبي، ومع هذا ظللت أراقبك بصمت، ومن بعيد.
نعم يا عزيزي، هناك الكثير من الأخطاء التي تحدث في حياتنا، لأننا مجرد بشر، ولا بد أن نتعلم الكثير من الدروس، وإذا كان لي نصيب من أخطاء هذه الحياة المحفوفة بالمخاطر والمغامرات، فأنا ممتنة لها، لأنها أعطتني دروسًا قاسية، جعلتني أكثر قوة وإرادة، وأكثر حزمًا في تعاملي مع الآخرين، الحياة أبدًا لم تكن عادلة معي..كان يتخيل لي أني قوية ولا شيء يكسرني لكنك كنت نقطة ضعفي..الم يقولوا “لكل جواد كبوة ولكل فارس غفوة”.
6
كان كل شيء يخنقني، يذكرني بك، لذا طلبت من صديقتي شيماء أن تساعدني في الانتقال إلى مكان آخر. وشيماء هي صديقتي المقربة بنت العراق الحبيبة التي كانت لي الأمان في هذا البلد، وكانت الوحيدة التي عرفت بقصة حبي البائسة، أتذكر أنك ذات يوم قلت أنا أشعر بالغيرة من شيماء، وسألتني من أحب أكثر أنت أو هي؟ لم تخيب ظني فيها، وكانت جديرة بحبي وثقتي، فالله يسخر لنا الناس الطيبين، ويضعهم في طريقنا.
على القطار تمنيت ألا يتوقف، ويظل يسير إلى ما لا نهاية. لم يكن شيء يرافقني سوى طيفك، وحديثك، لذا ما كنت أرغب في مقابلة أحد، ولا أن أبدأ أية حياة جديدة.. كم تمنيت أن تتوقف عقارب الساعة عن الدوران، لتبقيني عند ذكرى لقياك وكفى. إنه الجنون، نعم كنت مجنونة فيك، فقدت عقلي، بينما أنا هنت عليك، وهان عليك انطفاء روحي..
مرت الأيام وأنا أحاول جاهدة نسيانك، لكن كيف ذلك، فذكراك استوطنت عقلي وقلبي… وكان محالًا أن أنساك يا يزن.
وها أنا بعد عام في نفس المكان… جئت إليه متنكرة خشية أن ألقاك.. جئت لأقول لك، أتذكرك، ومازلت أنتظر كل صباح رسالتك.
ألم يقل الشاعر بلال راجح:
“ما بين قرار نسيانك عند الصباح
وبين تنازلي في المساء عن قراري
ضاع عمري”
لقد ضاع عمري وأنا أنتظر عودتك يا حبيبي.
مازلت أحكي لك وأحدثك عن كل شيء بحياتي..
أشعر بحبك يحيطني في كل وقت، أشعر بتشجيعك لي.
قسمًا لن يحتل مكانك أحد، سأظل أحبك للأبد، وسيظل طيفك يرافقني ما حييت…
كل يوم يمر أتذكرك أكثر، أحن لك أكثر وأكثر…
ها أنا أمشي وحيدة بين الأشجار الكثيفة، وأجلس على الكرسي ذاته، أتذكر ضحكاتنا وآمالنا.. أسمع فنانك المفضل يدندن:
“بيننا عمر مهما تنكره كان حافل
بالصفاء والنقاء أصله وفصله
والمقدر مقدر
والذي بيننا ما اعرف انساه”
تنهمر دموعي، تقتلني كلمات الفراق والرحيل يا يزن.
كنت كالحلم الجميل الذي يزور حزينًا ليبدد حزنه، ويملأ تجاويفه بالفرح والأمل، مغارات ذاكرتي ودهاليز قلبي ممتلئة بك وحدك يا حبيبي، بك وحدك أحيا يا يزن.
لم أنتبه للوقت وأنا أناجيك، كادت الشمس أن تغيب وأنا أتخيل وجودك معي، رن موبايلي ليعلن أنني كنت في حلم وصورتك تتلاشى من أمام عيني..
7
كان ياسر على الموبايل:
– أهلًا ياسر.
– ذهبتِ إليه؟ لنفسك عليك حق يا رؤى، إلى متى ستعيشين في هذا الوهم؟
– ياسر أرجوك لا تتعب نفسك.. لا يمكن أن أنساه، يزن وحده من يملأ قلبي بحبه.
– سأنتظر يا بنتي، ولن أستسلم، وسوف تجدينني السند لك في كل الأوقات، تأكدي أنني لن أتركك وحدك، وسأنتظر لحظة مجيئك يا صديقتي، فأنا أيضًا أحببتك.. فرفقًا بقلبي.
– تبًا لها شيماء هي من أخبرتك أين ذهبت، لا أحد يعرف غيرها.
– شيماء تحبك وتخاف أن تصلي لمرحلة الجنون، لذا هي تحاول مساعدتك.
– وأنا أحبها أيضًا، فلولا وقفتها معي لكنت انطفأت..
– كلنا نحبك يا رؤى، لا تأخذ بنت العراق حبك كله، أعطينا القليل منه.
– ياسر أنت عزيز وغالٍ عليَّ، لكن لن تصل لمرحلة يزن أبدًا.
– سأتركك للأيام، وهي كفيلة بنا يا ست الكل. على فكرة أنا وصهيب وشيماء نكاد نكون بالقرب منك.
أسمع ضحكة شيماء من جواري:
– شيماء أنتم تراقبونني.
– لا، بل لن نتركك وحدك، يزن أخذ منك الكثير، وحان الوقت لتقولي كفى. قررنا أن نعمل لك مفاجأة عندما قلت إنك تحبين أن تزوري هذا المكان، وكنا في القطار الثاني، وظللنا نراقبك من بعيد إلى أن شعرنا أنه حان وقت التحاقك بنا، لنبدأ رحلتنا الرباعية، لنا فترة ما أخذنا إجازة، وما أجملها من رحلة يا صديقتي.
– هنيئًا لك يا صهيب ، خطيبتك مجنونة ما في مثلها.
ياسر: رؤى إذا قلت لك أمرًا لا تزعلي مني وتقولي تجاوزتك.
– قل ما عندك يا ياسر، أنت مثل شيماء عنيد، الله ابتلاني بأصدقاء مثلكم”.
– إحم، إحم، أنا بصراحة تواصلت مع وليد وطرحت عليه الموضوع، وما تجرأت وأتيت اليوم مع شيماء إلا بعد أن كلمته، هو قال إنه ما عنده أي مانع، فقط الباقي كيف أقنعك، وكمان قال هو يعتمد عليَّ في الوقوف إلى جانبك، صح أنت كبيرة وعاقلة، واخترت طريقك بعد استشهاد أبيك وأمك وأختك، لكن هو مازال يوصي عليك، وتظلين أخته الصغيرة المدللة، واحتمال نهاية الأسبوع يزورنا.
– آه يا ياسر ذكرتني بوجعي ومأساتي، أنا بعدهم ودعت الحياة الجميلة، وكتب عليَّ الشقاء، وتشردنا أنا وأخي في بلاد الشتات، فكان يزن الذي وضعه الله في طريقي هو العوض الجميل، وانا متأكدة من ذلك…
8
تعرف يا يزن كانت الصدمة التي قضت عليَّ هي منشورك على “فيسبوك” مع صورة خاتم الخطوبة.
“بعد مرور عام أعترف
لم يملك قلبي سواها، أحببتها،
صورة صديقنا تقف حائلًا بيني وبينها،
مقدرٌ لحجم الغيرة التي ملأت قلبه،
لا هو أحبها كما ينبغي،
ولا أنا كرهتها كما أراد،
وقفنا جميعنا في منتصف الطريق،
هناك قدر فرض للأبد،
الليلة إعلان عن قدر جديد،
يبتدئ فيه مشوار حياتي القادم”.

بهذه الكلمات قضيت على كل أمل في حياتي..
فقد كنت وحدك الأمل، وكنت انتظر عودتك لنكمل الطريق معًا ..لا شيء يستحق العيش لأجله يا يزن.
تعرضت لإنتكاسة جديدة، ذبلت زهرتي،انطفئت روحي،
تدهورت صحتي، ولم يعد هناك شيئًا يعنيني، ولا ارغب بشيء سوى رؤيتك، فحبك وحده يملأ تجاويف قلبي.
تذكرني بخير يا حبيبي وهذا كل ما ارجوه منك،
وحدك يا يزن من وهبته كل مشاعري دون سواه،ولست نادمة على ذلك، فقد أحببتك حبًا صادقًا صاغت لحظاته تدابير القدر.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!