حب في منتصف الطريق(ج٣)/بقلم؛لبنى القدسي

9
طلبت رؤى من الممرضة أن تعطيها الموبايل من الطاولة المجاورة، أخذته بيد ترتجف وجسم فاقد القوى، حاولت أن تلملم حروفها، وتنسج منها رسالتها الأخيرة :
“أحتاج لدعواتك يا يزن، دعوات أخ يدعو لأخته بظهر الغيب، ادعي لي بالرحمة والمغفرة ،لعل هذه رسالتي الأخيرة وطلبي الأخير”.
ارسلتها ودموعها تنهمر، وقلبها يكاد ينتزع من مكانه، فهو الحبيب ولا حبيب سواه، تساقطت قطرات من الدموع على شاشة الموبايل أزالتها بيدها، وهي تتأمل في صورته على البروفايل، ثم وضعت على جبينه قُبلة الوداع، تمنت رؤية حروفه لآخر لحظة، ولكن طال انتظارها.
أوصت شيماء أن تسلمه الصندوق الصغير الذي تحتفظ فيه بين مقتنياتها، إذا أخذ الله أمانته، وتخبره أنه كان معها حتى آخر لحظاتها.
تحاول شيماء الاتصال به بعد ان اخذت رقمه من موبايل رؤى من دون ان تنتبه،
قررت أن تستجديه كي يحضر لزيارتها لعلها تشفى، فحالتها تتدهور يومًا بعد يوم، وهي متأكدة أنها سوف تزهر من جديد إذا شاهدته، تحدث نفسها “لأجل رؤى سوف أتواصل معه، وإن كان لا يستحق الإتصال”.
يرن تلفونه:
– من معي؟
– أنا شيماء صديقة رؤى يا يزن.
يحاول أن يداري بالحديث، فهي بجواره، ويستعدان للسفر لقضاء شهر العسل.
– كنت حابب أحكي معك عشان رؤى.
لم يدعها تكمل حديثها، رد على استعجال:
– أوكي مفهوم هناك كتابات على المواقع، ممكن ترجعوا لها، مع السلامة.
صدمها رده البارد والمستعجل: “أووووف، واحد حقير ما كلف نفسه يسأل ماذا بها رؤى”.
هو يرد عليها على أساس أن أحد الباحثين يحتاج مساعدة، وحاول أن يكلمها بتلك الطريقة كي لا تسأله عروسته من المتصل.
عروسته: “يزن، هذه آخر مكالمة ترد عليها، لازم ننفذ اتفاقنا من الآن، ونبدأ بأول البنود إغلاق الجوالات، وما نفتح النت إلا بعد ما تنتهي إجازتنا، مسموح فقط عندما نصل أن نجري اتصالًا نطمئن الأهل، ومن تلفون أحدنا، اتفقنا؟”.
– “اتفقنا حياتي”.
تتحسر شيماء على رؤى ورجل لا يستحق أن تفعل بنفسها كل هذا لأجله، ما كلف نفسه يسأل ما هو الموضوع.
ترجع لغرفة رؤى، وتنظر لها بحب وندم أنها سمحت لنفسها بالتواصل مع يزن، وهي فعلت ذلك لأجلها لعلها تمدها بالأمل وبحياة جديدة.
تقترب منها: “رؤى حبيبتي صحتك أهم، انهضي، لا أحد يستحق”.
فقدت رؤى شهيتها، وصارت مقعدة على السرير، لا تريد أن تأكل ولا أن تشرب.
تحكي مع شيماء بصوت واهن ومتعب: “يزن نفسي أشوفه”.
تحبس شيماء دموعها غصبًا عنها، ولا تريد أن تجرحها أكثر، وأن يزن لم يكلف نفسه حتى أن يسأل عنها أو يسلم عليها.
تحاول أن ترفع من معنوياتها: “بتشوفي يزن يا رؤى، أنت فقط اهتمي بصحتك واخرجي من المشفى، وأكيد سوف يأتي لزيارتك، هو لا يمكن يستغني عنك”.
– “اعطيه الأمانة يا شيماء، أخبريه أني لم أحب في حياتي أحدًا غيره ، هو كان الهواء الذي أتنفسه.
شيماء لا أوصيك على ياسر، هو إنسان أصيل وقف معي وقفة رجل شهم، لا أدري كيف أعبر له عن امتناني، هو ابن حلال، ويستحق امرأة تحبه وتعطيه كل المشاعر الجميلة التي يستحقها، قفي معه يا شيماء لأجلي يا صديقتي..”.
تتدهور حالة رؤى بشكل سريع لا يستجيب جسدها لأي علاج.
يخرج الطبيب وهو يحمل لوليد وشيماء وياسر أسوأ خبر في حياتهم.
أرسلت شيماء ليزن رسالة، وقلبها موجوع، ودموعها لا تنقطع، لكنها أرادت أن تحاول معه حتى النهاية، ليبقى ضميرها مرتاحًا:
“الصلاة على جثمان رؤى الله يرحمها غدًا مع صلاة الظهر”.
رحلت رؤى عن دنيتنا تحمل أوجاعها وآمالها وحبها النقي ، لتكن ضحية للحرب في بلدها وللحب في غربتها.
10
مرت ثلاثة أسابيع، ولا شيء يشغل بال يزن سوى ماذا كانت تريد شيماء أن تقول عن رؤى، ورغم أنه مع عروسته وحدهما في تلك المدينة الجميلة، ويحاول أن يظهر لها مقدار سعادته بها، إلا أن طيف رؤى لا يفارقه، ويشعر بأن هناك شيئًا ما، كل تفكيره عندها، لا يستطيع أن يتحمل أكثر، لذا قرر العودة ليقطع شهر العسل دون أي مبررات سوى أنه تذكر بحثًا لأحد طلابه، وعليه مراجعته قبل موعد مناقشته.
عاد ليجد اتصالات كثيرة من رقم شيماء، ووجد رسالتها، لم يستوعب محتواها، يعيد قراءتها مرة ومرتين وثلاثًا: “الصلاة على جثمان رؤى الله يرحمها…”.
لم يصدق ما قرأ، يفرك عينيه، يتأكد من الاسم رؤى غير معقول، لا، لا، هناك خطأ ما، ربما مقلب، لكن لا أحد يعمل مقالب في هذه المواضيع.
أسرع بقلب يكاد أن ينتزع من مكانه، وفتح “فيسبوك” يبحث عن اسم رؤى، يذهب لحسابها يجد إشارات كثيرة كلها تودعها وتنعاها، يصيح: مستحيل، مستحيل أنها رحلت، يدق بيده على الطاولة: رؤى لم تمت، رؤى أنت في قلبي يا حبيبتي.
غرق في دموع الحسرة والندم، العبرات تخنقه يكاد يجن، فتح الماسنجر لتكون صدمته الحقيقية.
رسالتها الأخيرة كان يقبل حروفها، يقبلها بحرارة، ويبكي من أعماقه، وماذا ينفع الندم والدموع الآن، يشتم نفسه: “أنت حقير يا يزن حقير”.
رفع كفه يدعو لها بالرحمة والمغفرة، وهو يعجز أن ينطق اسمها، لا يستوعب أن الدعاء للميت هو لرؤى، “يا رب ارحمها فإنها حبيبتي، إنها روحي، إنها سر سعادتي، يا رب وحدك من يعلم بمكانتها في قلبي”.
جمع قواه وتماسك، واتصل على شيماء، وقبل أن ينطق بكلمة جاءه ردها :
– يا أخي أنت أحقر مخلوق على هذه الأرض، أنت إنسان بلا رحمة، إنسان بلا ضمير، لا أدري لماذا ضحت رؤى بحياتها لأجل واحد مثلك. عمومًا الكلام معك خسارة، ولن أطيل، فقط تركت لك رؤى أمانة عندي، شوف أي طريقة تناسبك كي أسلمك أمانتك.
– شيماء نعم أنا أنسان حقير، أنا لا أستحق حب رؤى، أنا أتعس مخلوق على وجه هذه الأرض، أنا لا شيء بعدها، أنا لا شيء. فقط احكي لي ماذا حصل، كيف ماتت نبض قلبي؟
– آسفة، لا أستطيع الحديث معك ياااا نبض قلبي -تنطقها شيماء بسخرية- الآن جاي تقولها، الأمر بالنسبة لي انتهى، رؤى رحلت، تعرف معنى رحلت؟ رحلت بقمة شبابها، راحت ضحية إنسان بلا ضمير، رؤى لم تحب أحدًا غيرك، وكنت لها الهواء الذي تتنفسه، وهذا آخر كلامها الذي طلبت مني أن أحمله لك، عمومًا ابعث عنوانك وكفى.
أغلقت التلفون في وجهه وهي موجوعة، تبكي بحرارة، تردد ماذا لو كانت رؤى سمعت هذا الصوت، ماذا لو كانت عرفت أنه بدونها لا شيء، ألن تزهر من جديد، ماذا لو كانت سمعته وهو يقول نبض قلبي، كانت الآن بيننا تنبض بقلبها الكبير.
رحمات ربي عليك يا رؤى، نامي بسلام، نامي بسلام يا صديقتي.
11
ذهب يزن وأخذ الأمانة، أسرع لأقرب مقهى، وجلس ليفتح الصندوق، تمتلئ رئتاه برائحتها المميزة، سلسلة مع تعليقة أهداها إياها، مكتوب فيها اسماهما، صوره التي احتفظت بها، ميدالية صممتها بنفسها على شكل هندسي منقوش فيها اسمه، وأجندة مذكراتها، أخذ يحتضن هذه الأغراض بعمق، وهو يذرف الدموع، ويتنهد. كان يبكي بصوت مرتفع، جذب انتباه الأشخاص الذين بجواره، أسرع البعض منهم لمواساته، وهو يخبرهم عن موت عزيز عليه، حاول أن يلملم شتاته، وأخذ يقرأ حروفها بشغف وحزن وأسى وشعور لا يستطيع مقاومته،” يا ليتها كانت هنا، كنت قبلت رأسها، حضنتها، كنت قبلت الأرض التي تمشي على ترابها”.
ما إن أكمل قراءة المذكرات صرخ بأعلى صوته: “عودي يا رؤى، عودي يا حبيبتي، إنني أحتاج إليك،
لا شيء يستحق العيش بدونك، لا شيء، أنت الحياة كلها يا رؤى، أنت حبي، أنت عمري وأجمل أيامي”.. دموعه تنهمر وصوت نحيبه يكاد يدمر العالم.
مرت أيام لا يغادر غرفته، يشعر أن روحه انطفئت، لا شيء سوى طيفها معه.
تركته زوجته عندما صارحها بحبه لرؤى وحزنه عليها، وطلبت الطلاق: “طلقني يا يزن، كان عليَّ أن أفهم مشاعرك من بدايتها، من إعلانك لمرور عام وبدء حياة جديدة معك، أنت كنت تهرب منها إلى ارتباطك بي، لم يكن ذاك إلا إعلانًا عن بعدك الجسدي عنها، لكن روحك معها، أنا لن أستطيع أن أكمل معك وأنت غارق في حبها، لا أريد جسد رجل دون قلبه وروحه”.
بالنسبة له لا يعنيه هذا الطلاق لينتهي كل شيء، فرحيل رؤى قضى عليه.
ستظل رؤى معه للأبد، وسوف يظل وفيًا لهذا الحب.
12
بعد مرور شهر أقنع والد رغد ابنته بأن ترجع لزوجها، بخاصة وأنها تحمل بين أحشائها قطعة منه، وأن تحتويه كزوج، وتحبه، وتعوضه عن أي مشاعر افتقدها مع رحيل رؤى.
حاول إقناعها بأن مشاعر الحب لا إرادة للإنسان بها، وكل شخص يعيش قصة حب، منهم من يفشل فيها، والبعض يستمر ويثمر حبه، وهذا حال الجميع، أما أنها تغار من إنسانة قد رحلت من الدنيا كلها، فهذا غير منطقي، وعليها أن تمنح زوجها الحب، ولا تحسسه بغيرتها من ماضيه حتى تكسب حبه وتستمر حياتهم وتكون سندًا له.
عادت رغد رغم جرحها الكبير، لتخبر يزن أنها حامل، وأنها لن تبعد عنه بعد اليوم، ولن تغار من حبه لرؤى التي غادرت الدنيا، وهي مقدرة ومتفهمة لمشاعره، فهي أيضًا أحبته، ولن تستطيع العيش بدونه، وهي وطفلها محتاجان لوجوده معهما.
13
رؤى نعمان أسطورة الحب الخالدة، هي تلك الفتاة الهادئة والجميلة التي كانت تحمل أدواتها الهندسية بحب لتسير على نهج أبيها، فكانت الأولى على دفعتها في كلية الهندسة، تخرجت وتعينت معيدة إضافة إلى عملها في مكتب والدها وشركائه للهندسة المعمارية، كانت شعلة من النشاط، الكل يحبها ويمدح في ذكائها وأخلاقها وعمق طموحاتها.
استهدفت نيران الحرب ذات نهار منزلهم، ليستشهد والدها ووالدتها وأختها الصغيرة. تلقت رؤى الخبر لتدخل بعده في صدمة نفسية عنيفة.
أخذها أخوها وليد إلى القاهرة، وخضعت لجلسات العلاج لفترة، حتى بدأت تستعيد توازنها النفسي، وتتقبل رحيل أعز الناس عندها، تعرف وليد على مراد، فربطت بينهما علاقة صداقة قوية، كان يزورهما في شقتهما، أو يخرجوا معًا، يجلس معهما، ويحاول أن يخفف عن رؤى أوجاعها، ويسمع منها، وهي تحكي عما حصل لهم، وعن تلك الحرب التي غيرت مسار حياتهم.
جاء اليوم الذي قررت فيه رؤى طلب اللجوء لدولة أوروبية، فهي لا ترى في العودة إلى الوطن إلا انتحارًا، فلا شيء يستحق البقاء فيه، أقنعت وليد بذلك، وطلبت منه أن يكون الأمر سرًا.
حان وقت السفر، لكن تم قبول طلبهما الى دولتين متجاورتين ، ورغم اعتراض وليد في البداية، وأنه لا يرغب في تركها وحدها، إلا أنها استطاعت أن تزيل مخاوفه، وطلبت منه أن يثق بها، فهي قادرة على تحمل مسؤوليتها، وأن تشق طريقها الخاص، فهي ليست بالطفلة ولا بالمراهقة، وأكيد سيكونان قريبين من بعض، ولن يتركها وحدها.
علم مراد بقرار سفرهما، فجن جنونه، وكيف هو آخر من يعلم، وراح يطلب يد رؤى من وليد، لكنها رفضت، وكان ردها بأنها لا تفكر بالزواج إطلاقًا، وأنها تعزه وتحترمه، وهو أخ وصديق، وهي بالتأكيد لن تنسى وقفته معهم في محنتهم وغربتهم .
ليكن هذا آخر عهد رؤى بمراد.
14
على قبر رؤى جلس يزن يناجيها، ويخبرها بأن روحها ترفرف حوله، وطيفها لا يفارقه، يتذكر كل لحظة كانا فيها معًا.
يتذكر ذاك النهار الملبد بالغيوم عندما خرج من عمله وكله اشتياق لها، عندما فتح موبايله ليقرأ ما كتبته حبيبته: “وحشتني يا يزن”.
وانه أرسل لها “قبلة” وهو يمشي على الممر، وعينه تبحث عن كرسي كي يقعد عليه ويراسلها، و قبل أن يجلس رن موبايله.
إنه مراد صديقه المقرب من أيام الجامعة، من فترة طويلة لم يتواصلا مع بعض بسبب انشغالاتهما المتعددة في بلاد الشتات:
– أهلين يا صديقي، اليوم خطرت على بالي، وحبيت أطمئن عليك.
يزن وهو يضحك: “أهلين بصديقي الجميل، الآن تأكد لي أنني في القلب”.
– أنت في القلب دائمًا، لكنها مشاغل الحياة، ولكن لماذا الآن بالذات تأكدت أنك في القلب، ما الذي دفعك لقول هذا يا صديقي؟
– أخوك أخيرًا وجد الإنسانة التي ملكت قلبه، ووجد سعادته معها، شبيهة الروح، والتي لطالما تمناها، لقد قررت أن أختار شريكة لحياتي، واليوم سوف أفتح الموضوع معها، فهي قدري الذي سيق إليّ، وحان الوقت لأن يتوج حبي بالزواج على كتاب الله وسنة رسوله.
يسأل مراد: “ومن هذه التي استطاعت أن تحرف بوصلة حياتك بهذه السرعة الجنونية، وتخطف قلبك الذي صد بابه أمام كل النساء؟”.
– إنها مهندسة يمنية لاجئة معنا اسمها رؤى نعمان.
لم يصدق مراد ما سمعه، كاد يجن من الغيرة، وفي قرارة نفسه” لا لن تكون رؤى لأحد غيري”.
– ماذا حل بك يا صديقي، لم تتكلم، ألم تصدق أنني قررت أن أعيش الحياة؟
بصوت فيه من المكر ما فيه:
– فعلًا قرارك هذا مفاجئ لي، لكن تأنَّ يا صديقي، هذه الأمور تحتاج إلى بحث وتقصٍّ.
– نحن اثنان ناضجان، وخلال هذه الأيام اكتشفنا كم نحن قريبان من بعض، وتعرفنا على بعض أكثر، فلا يوجد أي مانع للتأخير، وخير البر عاجله، هيا شجع أخاك على هذه الخطوة الجبارة، أكاد أطير من الفرح.
– لكن يا يزن أخاف تكون تلعب على مشاعرك كما لعبت على الذي من قبلك، بنات هذه الأيام لا ثقة لهن يا صديقي، كل يوم على علاقة بشاب.
– لا، لا يا مراد، رؤى غير كل البنات، أنا عرفتها وعرفت أخلاقها، بنت محترمة ومخلقة، وفاهمة الحياة، وما أعتقد هي من تلعب على مشاعر أحد، هي صادقة بمشاعرها معي.
– يزن يا صديقي لا تزعل إن قلت لك إنها كانت على علاقة معي في القاهرة، وكنت تقدمت لخطبتها، ورفضت بحجة أنها لا تفكر بالزواج، وأنها اتخذت قرار السفر واللجوء، ألم تخبرك بهذا؟ وعندما علمت بعلاقتها بآخرين بعدت ونسيتها تمامًا.
لم يستوعب يزن ما سمع، كيف لم تحكِ له رؤى عن هذا. يسأل مراد بوجع: “هل كانت بينكم مشاعر حب؟”.
– أكيد، وأسرارها كلها معي، وعلى فكرة هي مريضة، وعندها حالة نفسية وانفصام في الشخصية.
وجد يزن نفسه في موقف لا تحمد عقباه، ولم يجد كلامًا يرد فيه على مراد، شعر بحزن شديد وصدمة عنيفة.
ودع مراد متعذرًا بأن أحد الزملاء يطلب منه شيئًا ما، وأنهما سوف يعاودان التواصل مرة أخرى.
تسمر في مكانه وكأن ثعبانًا لدغه ليسري سمه في جسده، وأي سم بثه مراد في بدنه، رؤى تبعث له يتأمل بكلماتها وفي عقله عاصفة مدمرة، لم يستطع مواجهة رؤى ولا مقابلتها.
فهو بعد الكلام الذي سمعه لا يمكن أن يتخذ أية خطوة، وعليه التراجع، وتحمل تبعات هذا القرار، فمراد يقف بينه وبين رؤى.
أيام وهو يفكر بكلام مراد، هل هو حقيقة أم افتراء؟ كل هواجسه تكذب ذلك، فرؤى التي أحبها لا يمكن تكون كذلك، لكن لماذا حكت معه عن كل شيء، ولم تحكِ له عن مراد؟!
لقد أثر عليه كلام مراد، وجعل من حبه بقايا حطام، بالأخير هو رجل شرقي، وكبرياؤه لا يسمح بأخذ فتاة كانت مع صديقه أو مع آخر.
ولقد كان لمراد غايته في تدمير هذا الحب.
15
أخذ ينثر الورود على قبرها ودموعه تتساقط، وهو يعترف لها بأنها كانت قاب قوسين أو أدني من أن تكون شريكة حياته، لكن صديقه دمر كل شيء، وأنه ندمان على صمته الذي لجأ إليه هاربًا من مواجهة الحقيقة، فهو وجد الصمت والهروب خير وسيلة لترك بعضهم رغم مرارة ذلك.
وبالرغم من الذي سمعه، إلا أنها ظلت في قلبه رؤى الطاهرة النقية الجميلة.
“أعترف لك يا رؤى أني أشعر بالندم والخيبة، ولكن بعد فوات الأوان..
ها هو القدر يرد لك اعتبارك يا حبيبتي، مراد على سرير المرض أرسل طالبًا مني المسامحة، فالسرطان نهش جسده، لقد اعترف أن غيرته هي التي دفعته لأن يشوه صورتك أمامي كي أتركك، ولا تكوني لأحد غيره، وأنك كنت خير النساء، وإلا ما ظل حبه لك كل هذه السنوات، ولم يستطع نسيانك، لقد اعترف أنه لم يكن بينكم أية علاقة حب، وأنك كنت تعتبرينه كوليد.
أخطأت في حقك يا حبيبتي، ولكن ماذا ينفع الندم وأنت بعيدة عني، أدعو الله أن يسامحني على كل ما سببته لك من وجع وحزن، نامي قريرة العين، فحبك في قلبي إلى الأبد”.

16
مرت السنوات، واستطاعت رغد أن تكسب مشاعر يزن، أحب وقفتها معه واحتواءها له، أحبها كزوجة وشريكة حياة، وبنت أصول، حيث تركت له مساحته الخاصة مع حبه لرؤى، ولم تغر من ذلك، وأضاف أمير وميرا لحياتهما بهجة وسعادة.
ارتبط ياسر بشيماء بعد أن انفصلت عن مصعب الذي عاد إلى بلاده، وتزوج من بنت عمه، تحت رغبة والده الذي أصر على ذلك، وعلى عدم عودته إلى الغربة، ليظل معه، ويساعده في إدارة عملهم.
وكانت ثمرة زواج ياسر وشيماء: رؤى الصغيرة التي ملأت حياتهما فرحًا.
في الحديقة حيث تلعب رؤى، تتأمل فيها شيماء بحب وسعادة، وهي تدعو الله أن تكون أيامها جميلة، لا وجع فيها ولا فراق، وأن تكون مهندسة قد الدنيا، لتكمل مسيرة صديقتها المهندسة رؤى نعمان،ولا شيء يكسرها.
بعد عشر سنوات من الحرب عاد يزن الى اليمن ليلتقي مع اسرته و طفلته التي صارت شابة، واتفقا مع والدتها على اخذها معه ..
وقبل مغادرته اليمن عمل على إنشاء مركز رؤى للدعم النفسي لمساعدة ضحايا الحرب ،وكأنه بذلك يكفر عن خطئه الذي ارتكبه في حق حبيبته، وسلم إدارته لفريق من الكوادر المتخصصة.
ليرحل مراد بعد أن أنهى بقية حياته بين جرعات الكيماوي وعذاب الضمير.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!