رسالة سوداء / بقلم : أميمة راجح ( اليمن )

لصنعاء التي تحبني ولا أحبها، وأدين لها بالولاء عن بعد فأنا ابنة عصر التكنولوجيا.

**************

إنها المرة الأولى التي أستمع فيها لصوت مدينة،
ياللهول!
كان صوتا شاحبا مرتجفا لا يشبه وداعتها المتشكلة في المآذن ولافتات المحال التجارية الزاهية، والغمازات الضوئية الطافح بها الليل، وكان أقرب لحشرجة غاضبة، لقوة غريبة نادرة زعزعت روحي، وتفشت بأوردتي سما أزرقا اسمه صنعاء!

في البداية تسرب الضوء في خيوط صفراء باهتة خلسة من حرس النقاط وجامعوا الجبايات والضرائب، إلتف حول حدقتي المتعبتين بخبث عدو متربص، لم تلفتني تحرشاته وأنا المعتادة على كل هذا، وعلى حين غفلة مني سمح لطبقة ساطعة عزلي بصفاقة عن أمي وأبي لتستفرد بي معشوقة الأبدية صنعاء.

نفثت أنفاسها الحارة الغبراء في أذني -تلك اللحظة أيقنت أن للقلوب جذور تقتلعها القسوة وغصات كثيرة خنقت دموعي وصوتي وتدفق الدم بأطرافي- جملتها الأولى دوختني!
“باقية وأزلية كعادتي وأنتم الهالكون وليهلك وجعي والشروخ بوجنتيّ معكم”

‘المدينة الناقمة’
هكذا اسميتها حينها، الاسم الذي يتلقفها كلها دفعة واحدة دون أن يقطتع وجوه الأطفال المشوهة، البيوت المهدومة بالقنابل والمتفجرات، وصراخ الخائفين من أصوات الأباتشي.

وصنعاء الناقمة، لفت أصابعها المصبوغة بالدم حول عنقي بثت في وجهي كلماتها المكسوة بالشوك، لم أبكي، تحول البني في عيني لحمرة متفجرة، خالجني أمل ضئيل أن حنان المدينة الأولى سيرأف بي وخاب ظني وهي تقتلني ببطء، تنتقم من محبتي الخالصة، من جسدي المقتول بسوء التغذية، من قلبي المملوء حتى آخر خيوطة بهوائها الجاف والبارد، من وجهي المكسو بملامحها المريرة.

صرخت من أعماقي يا سفينة نوح أنقذيني من طوفان المدينة الممزوج بأرواحنا!
ما من أحد سمعني، ووخده جبل الجودي بكى!

تنبه أبي مؤخرا لغرق تجاعيد كفه بدموعي وسألني متعجبا: مايبكيك!

حينها مخالبها السوداء انتهكت الغصص المتكدسة حول حبالي الصوتية، وسرقت الموسيقى من كلماتي، وتعرت المدينة التي لم يخالط الشيب شعرها الفاحم متحديا الحرب وقوادوها هامسة:
لعنتي ستحل عليكم، كما حلت على الساسانيون من قبلكم.

لحظتها وددت صفعها بقوة، هطلت بداخلي كل الشتائم كقولي ياخائنة، كل الحروف اللاذعة ككلا لكن عتاباتي وقفت على أعتاب جنبيتها المنحنية، وانكسرت لساني الصدأه بصوت نحيبها المفجوع، المحمول على نعش القبيلة تارة، ولحى الزناديق تارة أخرى، واشتعل صدري عشقا لازورديا ككحل مقلتيها وعلى حين غفلة تجاوزت الضوء الساطع وأخرجت رأسي من نافذة التاكسي لتنتثر أنفاسي اللاهثة على الفجائع بشوارعها الصابرة، بمبانيها المهشمة أرواحها ولم يدم تأملي طويلا ولفت حول خاصرتي جعبة رصاصها الفارغة وسمعت صوتها مرة ثالثة وأخيرة قبل أن تتسرب مع الضوء:
مدينة مثلي جائعة على الدوام لن يسكت فراغها إلا الجثث.
توقفت السيارة لامست أقدامي شوارع صنعاء، ضمخني البرد وإلتف حول تنهيداتي شيء ما يشبه الخوف لكنه أعمق.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!