– اللعنة… يتدخلون في ابسط تفاصيل حياتي ، يحشرون أنوفهم في كل شيء .قولي ماذا افعل ؟ إلى متى ؟
– لا تنفعلي عزيزتي ، حتى و لو قاموا بتأليب الدنيا عليك، اصبري،
– على أي صبر تتحدثين ؟ سأرحل و لن أعود لهذه الشقة مطلقا … تبا لهم جميعا
– و شقاء السنين يذهب سدى ، و أين تذهبين ؟ قد يكون المشكل نفسه في مكان آخر. منفعلة… متسرعة و حمقاء.
– إذن هي المواجهة ، لم الخوف، فليقع ما يقع !
تمسك شعرها المسدل على كتفيها ، ناعم ، براق تتخلله خصلات ذات لون قرمزي ، تحاول من شدة الحنق أن تنزع قبضة منه ؛ تحدث نفسها ، تهديء من نرفزتها برشفة ماء ، ثم تعود لتلطم على خديها . تولول ، تستغفر ، تمزق قميصا كانت تعشقه كثيرا و يذكرها بأيام كان لا يجرؤ الضجر الاقتراب من ساحتها؛ ترتديه فقط في المناسبات الغالية ، كانت أول و آخر هدية تلقتها بشغف و امتنان كبيرين حيث كانت مقرونة بأول قبلة رسمتها على خد صديقها . تحدث نفسها مرة أخرى بصوت عال ” ماذا أفعل حتى يتركوني لشأني ؟ حتى يبتعدوا عني؟ ” ، تقذف بما ملكت من قوة كأس ماء كان على مقربة منها ليرتطم على الجدار محدثا فرقعة قوية ، تتناثر شظاياه في كل الاتجاهات ” ماذا تريدون مني أيها المعتوهين ؟” .
شاءت أقدار سليمة أن يتم تعيينها للعمل بعد سنوات من المثابرة و الاعتصامات من اجل انتزاع حقها في الشغل بمدينة الدار البيضاء. استعانت بإحدى زميلاتها في المؤسسة قبل التحاق هذه الاخيرة بزوجها في مدينة سلا حيث تقاسمتا غرفة للكراء مع عائلة كانت تحتضنهما و تعطف عليهما ، و جعلت منهما طيلة أربع سنوات فردين منها. تقوم صاحبة البيت(أمي خدوج) كما كانتا تناديانها بجميع مستلزمات السكن طواعية بما في ذلك تهييء الطعام شفقة لحالهما من معاناة العمل لا سيما التنقل الذي كان يأخذ منهما ساعات طويلة. عندما يترجيانها بعدم الاهتمام بذلك ، تبتسم ” إن النبي أوصانا على سابع جار، كيف و أنتما ابنتي اللتين لم ارزق بهما ” . و اضطرت سليمة اقتناء شقة في عمارة بعد موت أمي خدوج ، و شجعها على ذلك زميلاتها في العمل و القرب من مؤسسة عملها. كانت سعادة تغمرها أنها أصبحت كما كانت تقول لنفسها ” من المُلاك ” ، تتبعها قهقهة في داخلها . إنها الآن يمكنها أن تعيش حياتها بحرية ، أن تنام و تنهض من فراشها متى تشاء، أن تنتقم من سنوات المراقبة الذاتية على نفسها و على تصرفاتها و حركاتها ،و أن تغني ، و أن ترقص ، و أن تأكل ما تشتهيه ،و أن ترتب شقتها كما يحلو لها ، و أن تستعمل الحمام دون انتظار دورها ،و أن تكتشف ذاتها و أن تستقبل صديقاتها .هي أحلام على بساطتها كانت مؤجلة . الفرحة لم تدم سوى أيام حينما أحست الأعين تراقبها، تزدريها النظرات و تتفحصها أثناء دخول العمارة و الخروج منها، و في المصعد و في سلم العمارة . تهطل عليها كالمطارق نصائح جاراتها بعدم جواز بقاء امرأة في شقة لوحدها . يأتين بحجج ، و ينسجن حكايات و يختلقن أحاديثا ؛ مواعظ لا تنتهي إلا بغلق بابها و الارتماء في حضن أريكة تتوسط الشقة. تتأفف من كثرة اللغط ، و تنظر إلى الأعلى ” آه لو بقيت بجانبي و لم تتسرع ! هي مسألة أيام فقط… كم كنت عجولا ! ” . تتذكر القبلة المجنونة بعد الهدية، لم يكن القميص ثمين من (ماركات) عالمية ، لكنها استحسنت التفاتته اتجاهها حيث كانت من أجرة أول أسبوع عمل في ورش للبناء. و كيف ألح على طلب يدها من جدها. هي قبلة تبعتها قبلات دون هدايا. و تسرح في ملكوت الهوى و مقلتيها يغمرهما دمع حزين. كلام النسوة كان مقدورا عليه و كثيرا ما كانت تراوغهن و تفحمهن إن كان لهن خطيبا يطلب يدها فلن ترفضه و لن تتعبه فهي لا تعنيها المتطلبات المادية ” سأكون متفهمة ” . كلامها للسخرية، و للاستخفاف و للترويح عن النفس ، فقد أقسمت أن لا ترتبط أبدا بعد فقدان رفيق دربها غرقا في البحر تاركا وعدا اقسم أن يحققانه سويا بأوربا فور إنضاج ظروف تجمعهما.
فتحت سليمة باب شقتها ، خرجت ، يستر فستان ما تيسر من جسدها ،طرقت بعقب سكينة طويلة أبواب شقق العمارة واحدا تلو الآخر، حين خرج الجميع ، قالت بصوت جهوري واثقة ، يتطاير من أعينها شرر الغضب ،و الانكسار من الغبن ” أني هنا أمامكم ،فمن كان له حق علي فليأخذه أو يصمت إلى الأبد . انتن (العيالات) ” كل واحدة عليها الالتفات إلى أمورها ،تتلصصن السمع خلف بابي ،ترسلن أطفالكن لقرع جرس سكني لحرماني من النوم بعد عودتي من العمل . سئمت نصائحكن، أمقت إصرار بعضكن في بيع لحمي طريا متوارية خلف وعظي ، أعلنها صراحة ، لا أصلح أن أكون أمة، أو جارية ،أو عشيقة أو أثاث غيري” . “أما انتم- يا حسرة- الرجال” و تحملق في وجه كل واحد منهم رافعة الموسى مهددة ” أغلبكم متزوج ، لقد نكدتم علي حياتي في البداية بالهمس و الغمز ثم باللمز ،مراهقون تتوسلون القرب مني ؛ عند تمنعي، و كلما مررت بالقرب منكم تستعيذون بالله. إن أطلقت الموسيقى تأمرونني بخفضها، و تدقون بمنتهى الصَّلف سقفي، و تخبطون على حيطان بيتي و لا تُسألون عن ذلك ان فعلتم في بيوتكم. إن دخلت شقتي متأخرة أين كنتِ ؟ إن استقبلت صديقاتي لا تشوهين العمارة (مجمع الزوفريات)،لباس غير محتشم،و لباس تقليدي بكعب عالي أو متخفية وراء أو لباس (شرعي)! … هذا جسدي الذي بيني و بينكم، تمعنوا فيه جيدا ،فتشوه كما شئتم و ابحثوا فيه عن استهاماتكم لعلكم تشبعونها و تروون عطش كبتكم ، فقد جبلتم على أن المرأة مفاتنها، و متاع و جسد مشاع لفحولتكم الوهمية ،و دون ذلك خرافات. فاعلموا أني حين ولدت صرخت طويلا و لو زعموا انه من الألم، و ما أدراهم !، فلا ضير إن كان الآن مصحوبا بالغضب، و التمرد و الانعتاق من سطوة بطولاتكم المتخَيَّلة.
