…
عُد أدراجَكَ يا ولدي فالحَربُ ليست لنا، اَستحلِفُك بالقديسينَ وبرفقا ومار شربل، إلا أن صوتَها ما زالَ ملوى الأرجاءِ، تَصرخُ الأمهاتُ الخائفاتُ، من الرامَةِ مع راحيل، والحكامُ نيامٌ لا يولونَ الإهتمامَ إلا الى المصالِحِ والخُوّات. هي الثاكلَةُ دوماً مَن حضنَتْ وربتْ على المثالية، تَحمِلُ سيفَ مريمَ المغروزِ بالقلبِ لؤماً وعيباً من الأيادي الآثمةِ التي تُخَرِّبُ الأوطـــان.
نعم ما زالَ دويُّ تلك الصَّرخَةِ من أمي منذ السنين القِدامْ، ومُنذُ قوافِلِ الرَّحيلِ من القِلاعِ والحصونِ، ومنذُ التَّهجيرِ، والهُجرةِ من البلادِ الى أصقاعِ العالمِ أجمع.
أيها القَومُ لماذا شرائِحُ القَهرِ والذُّلِ والنَّدامةِ لا يَفقهونَ إلا في المحاصصةِ والمالِ، إنّهُ وطُن الأرزِ يَحمِلُ الصليبَ، ومـا تأخر في مَسيرَتِهِ، يومَ نُصبتِ الصُلبان لأبنائــهِ.
نعم ما زالتِ الصَّرخةُ مُدويةً في الآذانِ، وطَرقُ الطُّبولِ المُهوّدَةِ نحو الحَربِ، ها هي عَثراتُ الزمانِ تَقفُ بالمرصادِ، والأنينُ يَعصفُ من تَحتِ الترابِ، ضاقتِ السُّبُلُ وأطلَّ الكُفرُ من النوافِذِ والساحاتِ، والكلُّ يُصوِّبُ نحو السماءِ لإبعاد مرارَةِ الكأسِ، وحدَها أبواقُ الملائِكةِ تُنبِّهُ سادومَ وعامورةَ، تَصرخُ بإبراهيمَ، تُنقِذُ لوطاً وبناتِهِ، والعَثراتُ هي هي، منذُ عَهدِ آحابِ الملكِ، وقياصرَةَ الرومانِ، وصولا الى جنكيزخان المَغولي، والى عَهدِنا الحديثِ، حيثُ تَتَرَبَّعُ أدواتُ التعذيبِ وأسلِحَةُ الدَّمارِ، وحَربُ الأقمارِ. فما شيء تغير بالعصورِ، ستبقى هيلانةُ تُفتشُ عن الحقيقةِ المَطمورَةِ تحتَ القِمَمِ والقلاعِ، وتَزورُ الأقبيةَ علَّها تَجدُ أحـداً حيَّـــاً.
أخطبوطُ الحقائقِ يُطمَرُ قبلَ أن يولَدَ، والشَّراهَةُ تَملأُ القِفارَ والأنواحَ، تَنحني السَّنابلُ في البَيادرِ ليَحصُدَها الموتُ الآثِمُ، وهي وقودٌ لغيرها، ومن أفضى بذلكَ، وحدهُ الجبارُ الأبــديُ السرمدي.
إلهي إنّي في بَحرِ الضَّياعِ، لا تَنضَبُ شَفةٌ تُنادي بالحقِ، لا يَكِلُّ لِسانٌ يَطلُبُ الحقيقةَ، لا يَفوعُ الضَوعُ إلا في رَحبَةِ المَساءِ، قوافِلٌ تُسلِّمُ قوافِلَ، أينَ السَّكنَةَ، أين الهَدأَةَ، أهو العَالمُ هكذا، أم أنت يا إلهي اِرتَأيت…
جو أبي