ظل الأب مرآة الغياب والحياة/بقلم:نضال الخليل

في المدينة التي صارت جروحها بيوتًا كان خالد يمشي بين أطلال الأزقة كمن يسير على جسد ميت لم يهدأ بعد كل خطوة تصنع صدى يتقدم كظلٍ لا يعرف متى يهبط كأن الزمن نفسه توقف ليشاهد عبوره

لم يكن يعرف أين تنتهي جدران البيوت وأين يبدأ الصمت الذي يلتهم الهواء قبل أن يولد الكلام كل شيء حوله يتحرك وكأنه حي لكنه ميت: المنازل، الأزقة، الليل الذي يلتف حوله كثوب ثقيل يضغط على القلب حتى ينسى النبض.

خالد يعيش بين موتين:

الأول موت الأب الذي صار في ذاكرته ظلًا ضخمًا يحاصر الحلم يعيق الحركة يزرع خوفًا صامتًا في كل زاوية من جسده.

والثاني موت الأب الحاضر الذي يملأ المدينة بالحديد والقيود يترك في الجدران أثر كل صرخة مكتومة وكل جرح لم يلتئم.

بينهما رقصة بطيئة بين الغياب والحضور بين الصمت والكلام بين الرغبة في التمرد والخوف من العقاب المدينة نفسها تتحول إلى مرايا تعكس كل وجوه الغياب والذكريات المتفسخة.

في زاوية حجرية جلس خالد يكتب على ورق ممزق لا ليعرف شيئًا، ولا ليعلّم أحدًا بل ليشهد على أنه

ما زال موجودًا.

كل كلمة دم كل سطر مرثية بلا بداية ولا نهاية وكل نص يصبح نفقًا يقوده إلى ذاته الممزقة الورق قبور صغيرة والحبر دموع جافة على جدران العالم.

المدينة بالنسبة له جسد حي يتنفس بين الأنقاض كل حيطة فيها قلب خافق كل زقاق وريد يجرّ الدم الميت الأب أصبح ظلًا وجوديًا يطارد كل حركة كل نبضة كل كلمة والكتابة بالنسبة لخالد ليست مجرد تسجيل للحقيقة بل فعل نجاة طقس مقاومة وشهادة على أنه لم يمت بعد.

في الداخل الصمت يقتل والكلام يقتل أيضًا كل همسة قد تتحول إلى وشاية وكل صمت يصبح تواطؤًا  اللغة نفسها حبل ومطرقة تحكم على من يتكلم ومن يظل صامتًا كأن الكلمات نفسها ولدت مذنبة.

خارج المدينة حين ظن خالد أن الحرية ممكنة اكتشف أن الحرية وهم وأن الوطن حتى حين يغيب يظل يطارده كندبة مفتوحة في ذاكرته كظل لا يختفي كحلم لم يولد بعد لكنه يصر على المطاردة.

المنفى ليس مكانًا بل تجربة وجودية تتقاطع فيها الغربة عن الذات عن الأرض وعن الألم نفسه.

وفي المدينة نفسها هناك آخرون:

  • ليلى تكتب على جدران الشرفة أسئلة لا تجيب عليها سوى الريح وتحاور الظلال كل صباح كأنها تحاول أن تنقل للأفق ما لم يعد مسموحًا لها قوله بصوت عالٍ.
  • مازن يكتب على الحيطان كلمات تتفتت قبل أن تصل إلى الورق كأن الشاعر يمد جسده كله إلى لغة لا تفنى كل حرف فيه جسد نابض كل سطر محاولة لفهم الموت قبل أن يصبح حاضرًا.
  • سارة ترافق دموعها حروفًا تتطاير في الهواء قبل أن تصل إلى الصفحة كل دمعة مرآة للمدينة الممزقة لكل جرح قصة لا يُسمع صوتها إلا للذين يعيشون بين الغياب والحضور.

هؤلاء جميعًا أبناء موتين كل محاولة للتمرد تتحول إلى طاعة مؤجلة وكل فعل للحرية ينتهي بالعودة إلى القيد الرمزي.

المدينة تعلمهم أن كل فعل حرّية جزئي وأن كل محاولة مقاومة تصبح مرآة للخراب.

في الداخل الحوارات بلا صوت:

  • “لماذا أكتب؟”

يتساءل خالد  يرى ظل الأب الرمزي يحوم فوق كتفه.

  • “كل كلمة جرح وكل جرح شهادة إذا لم أكتب سأصبح شبحًا بلا أثر وسيلتهمني الموتان معًا”

الكتابة إذن ليست مقاومة فقط بل مرثية مستمرة احتفال بالجسد الذي لم يمت بعد شهادة على أن الزمن لم يبتلع كل شيء كل جرح في نصوصه كان مرآة لجراح الأرض وكل كلمة محاكة للانفجار الذي يمزق المجتمع-

العصاب الفردي ينسكب في العصاب الجماعي والكتابة تصبح مرآة الخراب.

كل خطوة نحو الحاضر اقتراب من الفناء وكل تطلع نحو المستقبل مواجهة للذاكرة التي لا تموت.

خالد  لم يكن يكتب لينتصر بل ليؤكد أن الغياب يمكن أن يوثق في اللغة وأن الحياة في أضعف صورها ما زالت ممكنة.

جلس في زاوية غرفته ينظر إلى المدينة الممزقة ويكتب:

– “أنا ابن موتين ابن الغياب والخوف لكنني أكتب لأن الكتابة آخر أشكال البقاء ومرآة الحياة نفسها”

في تمزقه وتردده ووعيه العميق أصبح خالد رمزًا للوجود نفسه يعيش بين موتين

يكتب ليؤكد أن كل غياب قابل للكتابة وأن كل جرح قابل للرؤية وأن الخراب نفسه يمكن أن يتحول إلى لغة وأن المدينة رغم كل ما حل بها ما زالت تحتفظ بأطياف الحياة في زوايا صامتة تنتظر من يكتب عنها ليحملها من الغياب إلى الوجود.

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!