لا أدري ما سببُ ما كان يجولُ في ذهني،
حينما كنتُ صغيرًا،
كلَّما سمعتُ كلمةَ (أُحُد)!
أهو وقعُ مَبنى الكلمةِ على أُذني،
إذ يبدأُها ويتوسَّطُها حرفانِ مضمومانِ،
هما الهمزةُ والحاءُ،
أم أنَّ هناك شيئًا اخر،
يتعلَّقُ بالمعنى الذي خُصَّتْ به هذه الكلمة؟
ثم كبُرتُ فصارالوقعُ أشدَّ زخمًا،
والصورةُ اكثرَ وضوحًا.
(فأُحُدٌ) اسمٌ لجبلٍ مُتَوَحِّدٍ مُتَفَرِّدٍ
عن غيره من الجبال.
يقعُ شمالَ غربِ مدينةِ النورِ،
مدينةِ الرَّسول.
دارت عندهُ ثاني المعارِكِ في الاسلامِ
بعد بدرٍ،
بل كانت امْتِدادًا لها.
كان هدفُ المسلمينَ في (أُحُدٍ)،
اقامةَ حكمِ اللهِ الأَحَدِ المُتَوَحِّدِ الُمُتَفَرِّدِ،
بصفاتِ الكمالِ والجلالِ المطلقة،
تلك التي لا يُقيِّدُها زمانٌ أو مكان.
أما هدفُ المشركينَ،
فكان الثأر لخسائرِهِم في بدرٍ،
سياسيًّا واقتصاديًّا واحتماعيّا.
كان عدد المسلمين ألفًا،
انْسحبَ منهم ما يقرُبُ من الثلُثِ،
منتصفَ الطريق قبل أن يصلوا الى الجبل،
جرّاءَ النُّكوصِ المتوقَّعِ لكبيرِ المنافقينَ،
عبدِ الله بنِ أبُيِّ بنِ سلولٍ،
فلم يبقَ منهم إلّا سبعُمائةِ محاربٍ،
مقابلَ ثلاثةِ آلافٍ من المشركين.
حين وطِأتْ قدمايَ أرضَ المدينةِ،
كان قد عَلِقَ في ذهني الكثيرُ،
وكانت تحتويني رغبةُ جامحةٌ،
أن أتوقَّفَ عند آثارِها أثَرًا أثَرًا.
كنت أندمُ على ساعاتٍ
أُخلِدُ فيها إلى النَّوم،
لكنَّ عزاءي أني بشرٌ ضعيفٌ،
والضَّعفُ سِمَتي…..
حبُّ المدينةِ قد تمكَّنَ مني،
ولا حيلةَ لي يا ابْنَ عمي!
وجدتُ المدينة كما هي في ذهني،
إذا ما أزَلْتُ كلَّ ما جدَّ فيها من مظهرٍ،
وأبْقيْتُ منها الجوهر—
إنها المدينة.
إذن كيف لي لا أرى أُحُدًا وانا فيها،
على بعد ثلاثةِ أميالٍ منه،
وقد أنْهيتُ رشفتي الأولى
من معين المصطفى؟
نعم أنا قادمٌ إليكَ يا جبلْ
إني أحِبُّك أيُّها الجبلْ
أُحِبُّ من أحَبَّكَ قبلًا
أُحِبُّ من أحْبَبْتَهم،
أُحِبُّك قبلًا، أُحِبُّك بعدا.
إن انتَ أحببتني …… أرْضَيْتني
فأنا الذي رأى جبالًا وجبالْ
لكنَّك الأزكى تُرابًا
ضمَّ ساداتِ الرجالْ!
الآنَ ينبغي أنْ أعرفَ السبيلَ الى الجبلْ.
أحدُهم أشارعليَّ بحافلةِ النقلِ السياحيّةّ،
فهي تمرُّ بمواقع منها أُحُد.
اسْتجبتُ، ركبتُ الحافلةَ وكنت محظوظًا،
إذ هيَّأ اللهُ لي سائقًا من السودانِ،
لم أكنْ إلاِّ أنا معه،
وحين تبادلْنا الحديث،
بدأت وشائجُ الروح بيننا تعملُ،
وكأننا نعرفُ بعضَنا منذ زمنٍ بعيد.
واذا به يسرُدُ لي بانْشراحٍ،
كيف أزورُ الجبل،
وكيف أزورُ مواقعَ اخرى في المدينة.
أوْقفَ حافلتَه بعد وقتٍ قصيرٍ،
وقال لي:
انظُرْ إلى ذلك الجبل،
وهو يشيرُ بإصْبَعِهِ،
إنَّهُ أُحُدٌ،
وما تراهُ من جبلٍ صغيرٍ بجانبِهِ،
إنَّما هو جبلُ الرُّماةِ،
ولا تنسَ مقبرةَ الشهداءْ.
شكرتُهُ … ودَّعْتهُ وأنا أردِّد:
جُزيتَ خيرا، جُزيتَ خيرَ الجزاءْ.
الآنَ أطْلَقْتُ العَنانَ لِما دارَ في فكري.
تسلَّقْتُ جبلَ الرُّماةِ أو (عينينَ).
لم يكنْ تسلٌّقُهُ صعبًا – وإن كان صخريًّا –
فهو اقلُّ ارْتفاعًا عمّا كان في الماضي،
وأقلُّ كذلكَ من أُحُدْ.
وقفتُ على قِمَّةِ ذلك الجبل،
وانا أُحَدِّق في أُحُد.
هدوءٌ رهيبٌ، وسكونٌ يلفُّ المنطقةَ.
قلَّبْتُ بصري في الجبلين،
أعدْتُ ذلكَ كرَّتين،
فتراءى امامي رسولُ اللهِ ينزلُ
عند عُدوة الوادي إلى الجبلْ!!!
سمعتُ قريعَ سيوفٍ،
وأصواتَ سنابكَ،
وصيحاتِ صحابةٍ قربَ (عينين).
رأيتُ كيف كان الاشتباكُ،
ورأيتُ كيف كان الارتباك!
وبكيتُ، حقًّا قد بكيتُ
عندما استشهدَ ذو السيفينِ حمزة.
كيف يا (وَحْشِيُّ) أسْقطْت الأسدْ؟
نعم وبكيتُ أكثرَ ثم اكثرْ،
وانا أرى سيلَ دماءٍ تَتَبَدَّدْ،
غطَّت ذلك الوجهَ المنيرْ،
عندما شَجّوا جبينَك يا مُحمَّدْ!
كنتُ أُكلِّمُ نفسي،
لماذا ترك الخمسونَ موقعَهم
فوق (عينينَ)،
عكسَ ما أوصى النبيُّ:
لا تبرَحوا أماكنَكم في الحالتين،
إن ربِحْنا أو خسِرْنا،
فثباتُكم أوْلى…..
لكي تحموا ظهورَ جندٍ آخرين.
لكنَّهم حين رَأَوْا بوادرَ النصرِ،
أوَّلَ الأمْرِ،
ظنوا أنَّها وضعت أوزارَها،
فانْدَفعوا نحو تجميع الغنائم،
وإذا بخالدٍ وجندِهِ قد التفّوا حولهم،
فكان ما كان سبعون شهيدًا.
حينها كان عبدُ الله بن جُبَيْرٍ،
يصرخُ في جمعِ الرُّماةِ:
(اللهم إني أبرأُ اليك
من هؤلاءِ وهؤلاء)
ويقصد المشركين لقتلهمُ الصحابة،
والرماةَ لنَقْضهم الوصيَّة.
دُفن الشهداءُ في مكانِ مصرَعِهم،
ليكونَ شاهدًا لهم.
وحين خُصِّصَتْ أرضٌ مجاورة،
لكي تكونَ مقبرة،
نقلوا رفاتَهمْ،
دون أن تُعْرَفَ أسماؤُهمْ.
حين زرتُ المقبرة،
رأيتُ ثلاثةً من القبورٍ بارزة،
قيل لي أوسطُها لِحمزةَ الأسد،
بينَ ابْنِ عُميْرٍ مصعبٍ،
وغسيلَ الملائكِ حنظلة،
على أصحِّ ما نُقِلْ.
جزاكم اللهُ عن الأمةِ
أيُّها الأخيارُ خيرا!
انكم، لا شكَّ، عندهُ احياء.
هكذا انتهت أُحُد،
هكذا جَرَتْ حكمةُ اللهِ الأحدْ،
بين نصرٍ وسواه.
والعبرةُ إعطاءُ الدروس،
ثمَّ تفعيلُ القواعِد،
ولْأقُل هل فيكموا من مُدَّكِر؟