غادرتُ المسجدَ الحرام، عائدًا إلى البيت بعد صلاة الجمعة،
فسألتُ عن واسطةِ نقلٍ تنقُلُني إلى محلِ إقامتي في العزيزية.
أُشير عَلَيَّ أن أذهبَ إلى موقفِ سياراتٍ قربَ الحرمِ، وهنا بدأت المتاعب.
وسائطُ نقلٍ قليلةٌ، وأعدادٌ من الحجاجِ كثيرة.
بعدَ زمنٍ طويلٍ من الانتظار، جاءت حافلةٌ كبيرةٌ يقودُها سائقٌ أهوج!
يُسرِعُ وجمعٌ غفيرٌ وراءَهُ يركض، لا يَعْبأُ بأحدٍ، ثم توقَّفَ.
لم يفتح البابَ للدخولِ، على الرغم من صراخِ الناسِ يدعونَهُ لِفَتحِها.
كادت الجموعُ تكسرُ البابَ، حتى فتحَها مُجْبَرًا،
عندها تَدافعَ الحُجّاجُ بأسلوبٍ مهينٍ، يدفعُ أحدَهم الآخرَ دونَ مُبالاة.
لاحظْتُ سلوكًا عجيبًا لحُجّاجٍ، جاءوا وهم من مشارِبَ شتّى.
كان عدد الواقفينَ في الحافلة، يفوق ضعف الجالسين.
حُصِرَتْ ساقي بين أحدِ المقاعدِ وأَرضيَّتِهِ الحديدية،
وكادت تُكْسَرُ جَرّاءَ التَّزاحمِ والتًدافُع.
خَرجْتُ عن طوري، وبدأْتُ أَرفعُ صوتي للألمِ الذي أَلَمَّ بي.
لقد انْهارتْ دموعي،
وخشيتُ أَني جَرَحْتُ حَجّي الذي حَرَصْتُ أن يكون مُعافى،
لكنني أُجْبِرْتُ على ان أَغضبَ حينما اسْتُغْضِبْتُ لمشهدٍ لم أكن اتوقعُه.
رأتني اِحدى النساءِ، فقرأتُ على وجهِها علاماتِ التأثُّرِ،
بعدما أَخَذَ أحدُ الحجاج ممن هم أكبرُ مني سِنًّا،
يرفعُ صوتَه عليَّ بكلماتٍ غيرِ مفهومةٍ، أظنُّها كانت نابِيَةً،
فصاحتْ به وآخرين، هل انتم حُجّاج؟
أرادتْ تنبيهَهُم بأَن سلوكَهُم لا يليق زمانًا ولا مكانًا.
نزلتُ من الحافلةِ، وكانت علاماتُ التضجُّرِ ظاهرةً عليَّ،
فجاءني شيخٌ كبيرٌ، وأحسَبُه مغربيًّا من لهجته،
وبدأ يقولُ لي يا ولدي (سماحْ سماحْ)،
فأَجَبْتُهُ بما يعني السَّماح، قال: لا،
قل: (سماحْ سماحْ)
كان مُصِرًّا على ان أَتَلَفَّظَ بالذي قال،
وبدأ يبكي وعانقني فقلتُ (سماحْ سماحْ).
لم يكن هو من خاصمني، وأظُنُّهُ كان يصحبُ من خاصمني،
لا ادري ولا اريد ان ادري!
وأخيرًا وصلتُ شقتي مُنْهَكًا متأثرًا، فقلت اِنَّهُ الحجُّ،
ورجائي من اللهِ المغفرةَ لي وللآخرين.
في ليلةُ يومِ الترويةِ والذهاب إلى مِنى،
اتَّصَلَ بيَ مكتبُ المطوِّفِ للحجاج الفُرادى،
أُبْلِغْتُ بالحضور في مركز تجمُّعِ كُدَي للنقل، الساعةَ السادسة مساءً،
بُغْيةَ الذهابِ الى مِنى،
حيث ارتأى المكتبُ هذا، الذهابَ المبكرَ تفاديًا للازدحام المتوقَّع.
قبل الوقت المحدَّدِ، خرجتُ من البيت مُحْرِمًا،
فأَخذْتُ معي ما سهُلَ عليِّ حملُه مما أحتاج.
يَمَّمْتُ وجهي شطرَ شارعِ العزيزيةِ العام، وبعد انْتظارٍ،
تمكنْتُ من أن أستأجِرَ سيارةً تنقلني إلى موقف كُدَي.
رفضَ الكثيرُ من اصحاب السيارات الذهابَ الى هناك،
بحجة أنَّ المكانَ بعيدٌ، او انهم لا يعرفونه.
وصلتُ بعد حوالي نصف ساعة، ولم أكنْ لِأعرفَ الى اين اتجه!
الحافلات كثيرة، ومجاميعُ الحجاجِ اكثر،
منهم من ارْتبطَ بحملاتٍ محددةٍ، ومنهم من لم يرتبطْ.
تجوّلتُ محتارًا لا اعرفُ احدًا من الحجاج الفُرادى مثلي،
حتى رأيتُ أحدَ العاملين ينظمُ حركةَ الحافلات،
فأخبرتُهُ أني تابعٌ إلى مكتب (30)، وأُخْبِرْتُ بأن أقْدِمَ إلى هذا المكان،
ولكني لا أرى حافلةً تحمل هذا الرقمَ،
ولا أعرفُ أحدًا ممن سيأتي معي من الحجاج!
نصحني بأن انتظرَ، لأنه كان قد اتصل بالمكتب،
وأُخْبِرَ انهم سيُرسلون حافلاتٍ
لتنقل الحجاجَ الفرادى من امثالي الى منى، فكان ذلك لي مدعاةَ راحة.
بحثْتُ عن مكانٍ اجلسُ فيه،
إذ كانَ صعبًا عليَّ أن أتَنَقّلَ وأنا محرِمٌ أو هكذا اشعرُ،
فرأيتُ شخصاً عرفتُ انه من استراليا،
فأخبرني انه من مجموعة مكتب (30)،
وهو ينتظر الحافلةَ فارْتَحْتُ اكثر.
بعد طولِ انتظارٍ قَدِمَت الحافلةُ، فرُحْنا نتبعُها الى ان توقّفَت،
فتجمّعَ حجاجٌ آخرون تعرَّفْتُ على ثلاثةِ عراقيين منهم،
احدُهم كردي من النرويج، يتكلم لغةً عربيةً جيدةً،
واثْنان، رجلٌ وزوجتُه، من الامارات، صاحبوني مدةً طويلةً
في صعيدِ مِنى وعرفاتٍ ومزدلفة.
بدأْنا نتحدثُ ونحنُ ننتظرُ الحافلةَ،
واۤلَ الموقفُ أن اتكلَّمَ في حديثٍ نبويٍّ تناولتُ فهمي له،
واذا برجلٍ مصريٍّ تبدو عليه علاماتُ الوَقار ينضَمُّ الينا
عندما سمِعَ حديثي، ثم لَحقَ بعده آخرون،
أدركتُ حينها أَنهم متفاعلون في تفسيري للحديث، وما اسْتخلصْتُ منه.
انقطعَ الحديثُ إذ حانَ وقتُ ركوبِ الحافلةِ الى مِنى،
بعد أكثر من ثلاثِ ساعاتٍ من الانتظار.
وصلنا في ساعةٍ متأخرةٍ إلى خيمةٍ ضمّتْ حوالي 100 حاجٍّ.
صادفَ ان يكونَ بجانبي شابّان سوريّان من امريكا،
والرجل العراقي من الامارات.
استلقيت للراحة وإذا بالشخص المصري
يأتي قرب فراشي فيقول بصوت سمعه اخرون،
سأُزاحِمُكَ عند الصباح، لكي أسمعَ منك اكثر،
فلقد أُعْجِبْتُ بما تحدثت به عندما كنا ننتظرُ الحافلةَ.
قلت سامحك الله، ما أنا الا متعلِّمٌ،
وما تكلمت فيه لم يكن الا وليدَ فهميَ القاصر.
تبيَّنَ بعد حين أنّ الرجلَ هو استاذٌ مختصٌّ في علوم القرآن،
حيث تولّى إرشادَ حجاج الخيمة.
شمل نشاطُه مواعظَ تارةً، واجاباتٍ على الاسئلة تارةً اخرى،
واحيانًا قراءةَ الأدعيةِ المأثورةِ طيلةَ مكوثِنا في منى وعرفات ومزدلفة،
وتوطَّدَتْ صداقةٌ بيننا طيلة ذلك المكوث.
اذكر في إحدى محاضراته، قال وهو يشير اليِّ:
أن الدكتور عنده نظراتٌ علميةٌ لطيفةٌ فيما اتحدث فيه،
فما كان مني إلّا ان أطْرقْتُ رأسي وقلت في نفسي:
ثانيةً يا ابْن النيل، أما يكفي مشاكسةً لابْنِ الفرات؟
بتنا ليلةَ يومِ الترويةِ هنا في منى، فاستيقظْنا وصليْنا الفجر جماعةً،
وقضينا يومَ الترويةِ إلى اليومِ التاسع.
في منى التقيت بأخوةٍ من انحاءَ مختلفة ممن يتكلم العربية أو غيرها،
تبادلنا أحاديث في مواضيع مختلفة،
وأقمْنا علاقاتِ تواصلٍ لا زالت مستمرةً،
وتلك ثمرةٌ من ثمارِ هذا الركن العظيم،
فالمكانُ واحدٌ، والتوجهُ واحدٌ، والملبسُ واحدٌ، وما هو متوافرٌ لنا واحد.
اثناءَ مكوثِنا في منى، هبَّتْ علينا ريحٌ عاصفةٌ، كنا نسمعُ هجيجَها ونئيجَها،
كانت مخيفةً والجميعُ كان يخشى أن تقتلعَ تلك الرياحُ اوتادَ الخيامِ،
حتى أن أحدَهم جاء اليَّ وقالَ،
عليك أن تبتعدَ من مكانِك حيثُ كنتُ قريبًا من أعمدةِ الخيمةِ،
لكن رحمةَ الله كانت قريبًا منا، فلم يحدثْ شيئٌ في خيمتِنا أو الخيامِ المجاورة، ولكني سمعتُ أن أضرارًا حدثتْ في اماكنَ أخرى من مِنى.