عند مدخل مقهى الشّام، الكائن في ساحة (الجابري)، قرب الفندق (السّياحي)، التقيت صديقي (لقمان) صدفة، فدخلنا المقهى، وطلبنا قهوة (الإكسبريس)، وجلسنا بعد أن طلبنا من النّادل، إحضار الشّطرنج، وبدأنا اللعب، بقصد التّسلية.
كان عليَّ أن أمضي ساعة، ريثما يجهّز لي، بائع القطع الكهربائيٍة، فاتورتي.
على الطّاولة المجاورة لنا، كان صديقنا الممثّل المسرحي (طراد خليل)، مع صديق له، لا أعرفه، يجلسان، ويلعبان (الشّطرنج) مثلنا.. فتبادلنا التّحية، بالإشارة والإبتسامة.
أصوات السّيارات العابرة بالمقهى، كانت تطغى على أصوات الرّواد الغارقين ، في الأغلب في اللعب بالشّطرنج.
من تحت الطّاولة، ضغط (لقمان) بقدمه على قدمي، نظرت إليه، أشار بعينيّه إلى طاولة (طراد).. نظرت وإذ بعناصر أمن يقفون عند طاولته، عرفتهم على الفور، من مسدّساتهم البارزة، على خصورهم، حتّى وإن كانوا في لباسهم المدنيّ، وكانوا طلبوا من (طراد) وجليسه، هويّاتهم الشّخصيّة، فأخذنا أنا و (لقمان) نراقب خلسة، ونحن نتظاهر، باستمرارنا، بلعبة الشّطرنج.
تفحّصوا الهويّات جيّداً، ثمّ طلبوا منهما مرافقتهم، وحين نهضا.. تطلّع إلينا، من كان يحتفظ بيده، بهويتي (طراد) ورفيقه.. ثمّ خطا نحونا، وألقَى التّحية، وقال:
– نحن.. فرع الأمن العسكري.
قلنا، وقلبانا يرتجفان:
– أهلاً وسهلاً.
سألنا، وهو يتفرّس بوجهينا:
– هل تعرفان هذين الشّابين؟.
نحن لا نستطيع أن نقول لا.. ماذا لو كانوا يراقبوننا من قبل، وقد شاهدونا نتبادل التّحيّة والإبتسام.. لذلك قلنا بصوت واحد، أنا و (لقمان):
– نعم.
وبكلّ تحضر ، قال:
– هل يمكن لكما، أن ترافقانا إلى الفرع، لنأخذ منكما، بعض المعلومات عنهما؟.
وهل نستطيع أن نعتذر، ونقول لا؟!.. من يجرؤ أن يرفض؟!.. أو يدّعي أنّه مشغول، ولا وقت لديه؟!.. قلنا له:
– نعم..
رغماً عنّا.. خوفاً.. رعباً.. إذعاناً.. كرهاً.. وافقنا أنا و (لقمان)، وقلنا نعم.
دفعنا للنادل، الذي حاسب من قبلنا (طراد).. وخرجنا، نهبط درج المقهى.. وكانت سيارتهم العسكرية هناك عند شارة المرور.
حملوا فيها (طراد) ورفيقه، أما أنا و (لقمان) ، فقد اقلونا سيّارة أجرة صفراء.
جلس، واحد منهم، من الأمام، إلى جانب السّائق، وجلس من الخلف، واحد آخر، معنا أنا و (لقمان)..كنت في رعب شديد، فأنا أحمل حقيبة يد، فيها ثمن البضاعة الكهربائيّة، وخرجيّتي القليلة، وهويّتي، وعلبة تبغ إحتياط، وقصائد لي منسوخة على الآلة الكاتبة.. والأهم، والأدهى، والأفظع، هي تلك الجريدة، التي نشرت قصيدتي، التي ألقيتها في المهرجان السّبعين، لذكرى الثّورة (البلشفيّة) في (الإتّحاد السّوفيتي).. وكانت مهداة لرّوح الشّهيد (فرج الله الحلو) الذي تم قتله، وتذويب جسده بالأسيد، زمن الوحدة.. نشرها لي صديقي (حسيب برّو) في جريدة ممنوعة، تابعة لجامعة (حلب).
ماذا لو قرؤوا قصيدتي؟!.. ماذا لو اكتشفوا الجريدة؟!.. مصيبة.. كارثة.. تذكّرت صديقي (مصباح) المعتقل، منذ أكثر من ستّة سنوات، بتهمة الإنتساب (لرابطة العمل الشّوعيّ) ، وتذكّرت جارنا (أبو محمد) المعتقل أيضاً، ومنذ بداية أحداث (الإخوان المسلمين)، بتهمة أنّه (بعثيّ يمينيّ).. وتذكّرت، وتذكّرت.. وأنا أرتجف بروحي و أنفاسي.. و (لقمان) الصّامت جنبي، ناولني سيجارة، وكان وجهه شديد الشّحوب.. لا أعرف كيف، وبماذا يفكّر الآن؟!.
التفتَ إلينا، من كان يجلس أمامنا، جانب السّائق، وقال:
– إذا سمحتم، أعطوني هويّاتكم.
فتحتُ حقيبتي.. وناولته هويّتي، وكذلك فعل (لقمان).. وأخيراً سألت نفسي:
– لماذا هذا الخوف يا جبان؟!.. إنّه مجرّد سؤال لا أكثر.. وأنا أعرف (طراد) معرفة سطحيّة، وصديقه لا يهمّني، لأنّي أراه لأوّل مرّة.. ثمْ أنّ (طراد)، موظف لدى (نقابة الفنّانين)، ولا أظنّ أنّ عليه شيئاً مخيفاً.. لذلك يجب أن أطمئنّ وألّا أخاف.. مجرّد دقائق وينتهي الأمر.
حين وصلت السّيارة إلى بوابة الفرع، وبدأنا بالنّزول، قال لنا من احتفظ بهويّاتنا عنده، بلهجة بدت جافّة وآمرة:
– إدفعا للسائق حسابه.
تبادلنا.. أنا و (لقمان) نظرات التّعجب، والدّهشة، والاستغراب.. دفع (لقمان) للسائق، ودخلنا باب الجحيم.
كم حاولت أن أرميّ الجريدة، في قلب السّيارة، لكنّي عجزت، بسبب من كان يجلس إلى جانبي، ويراقبني.. لو كنت أخذت مكان (لقمان) جانب النّافذة، كان ربّما استطعت، التّخلصَ والتّصرف.
في كلّ خطوة، نخطوها إلى الأمام، وندخل، كان قلبي يزداد انقباضاً، وتتضاعف دقاته في التّسارع والخفقان.
في بهو مسقوف بالرّهبة، والهيبة والصّمت المريع، وجدنا (طراد) ورفيقه، يقفان أمام أبواب، مكاتب عديدة مغلقة
، وقفنا قربهم، ونحن نتبادل النّظرات.
وخرج علينا.. من طلب منّا مرافقتهم، حين كنّا في المقهى، وزعق:
– استديروا إلى الحائط، يا حيوانات.
رباه!!!.. كيف انقلب علينا، هذا الكائن، الذي كان يتحدّث معنا، بلطف قبل قليل؟!.
استدرنا إلى الحائط بطلائه الرمادي.
صرخ بانفعال شديد:
– ارفعوا أياديكم عالياً.. يا (كلاب).
أردّت أن أستدير نحوه، وأذكّره، بأنّنا أنا
و(لقمان)، لا علاقة لنا، ولقد أتينا معهم، إلى هنا، لمجرّد أن نكون شهوداً لا أكثر.. ولكنّ يدا خفيفة، باغتّتني من الخلف، وخطفت الحقيبة من يدي، المرتفعة، والمستندة على الجدار.
– لا تلتفت.. ولا تحرّك رأسك، وإلّا دعسته لك.. يا قرد.
غابت الحركة والأصوات، دقائق ولم نسمع صوت الخطوات التي كانت تدور حولنا، تشجّعت وأنا أحاول أن أستدير برأسي قليلاً إلى (لقمان) وإلى (طراد) وصديقه.. وإذ بزعيق ينفجر من خلفي،
بحدّة ووحشيّة:
ألم أقل لك لا تحرّك رأسك يا (جحش)
؟!.
وانهال سوطه على ظهري.. لم أكن أتوقّعه، أو أنتظره، أو أتخيّله.. فتألّمت،
وتوّجعت، وتأوّهت، وصرخت:
– آ آ آ آ ه ه ه ه.
– بلا صوت.. يا خنزير.
خرستُ.. وابتلعتُ حرقة ظهري، وألم روحي، وبكاء دمي، ونشيج قلبي، وانهيار فضائي.
– يا الله!!.. أنا لا أحتمل الضّرب.. تذكّرت تاريخي الحافل و ما تعرّضت له، من عقوبات، وفلقات، أيّام طفولتي، من أبي، وعمّي،وأساتذتي، (وشيخي) في الكتّاب، وعند الأمن (الجنائي)، والشّرطة العسكريّة في (القابون)، وفي دورة (الأغرار)، في الجيش.
من أين جاءتني هذه المصيبة؟!.. ليتني لم أذهب إلى المقهى.. ليتني ظلّلت مثل كلّ مرّة، عند بائع الأدوات الكهربائية، أشرب الشّاي والقهوة، ريثما يجهّز لي طلبي.. ليتني ذهبت إلى (مقهى القصر)، أو إلى (مقهى الموعد)
.. أو إلى (الفندق السّياحي).. في كلّ هذه الأمكنةِ، قد أصادف أحداً من أصدقائي الأدباء.. اللعنة عليّ لحظة توجّهت إلى (مقهى الشّام).. ثمّ الآن سينشغل بال (أبو معتز) على غيابي، فقد أرسلني كالعادة، لأشتري للمحل الذي أعمل فيه، بضاعة.. الآن سيظنّ أنّني لطشتُ (العشرة آلاف ليرة)، واختفيتُ عن الأنظار.. ولم أرجع إلى المحلّ.. سيلوم نفسه لأنّه وثق بي،
ويحمّل صديقي (إبراهيم) السّبب، لأنّه عرّفني عليه..سيقول عنّي هذا شيوعيّ لا يمكن الوثوق به.. كان يأمل أن تتمّ هدايتي على يديه، وأن أعود إلى ديني الذي هجرته، وإذ به يقع فريستي.. أصدقائي جميعهم خدعوه بي، (زكريّا)، (وعليَّ)، و(محمد علاء الدّين)، أيضاً هم شركاء (إبراهيم)،في هذه الخديعة.
وسمعنا جلبة، وصوت خطوات تقترب،
فأصخنا السّمع، حتّى اقتربت منّا..وكان
هناك شخص يجرجرونه، على ما يبدو.. وهو يترّجّى، ويتوّسل، ويتأوْه، ويئنّ، ويتضرّع، ويبكي.. وبدأت تنهال عليه الضّربات، والرّفسات، واللطمات، والصّفعات، واللكمات، والصّيحات، والزّعيق، والصّرخات، والتّهديدات، والتّوعدات، والأوامر الغاضبة:
– استلق على الأرض يا حقير.. يا كلب.. يا منحط.. يا ساقط.. يا خنزير..
يا ابن الزّانية.. يا قوّاد.. يا ديّوث.. يا قليل الشّرف.. يا عديم الذّوق.. يا جبان
.. يا كافر.. يا ملحد.. يا من لا تخاف الله.. يا مشرك.. يا دجّال.. يا كاذب.. يا فاسق.. يا شيوعيّ.
– ضعوا رجليه بالفلق.. لا ترحموه.. ألعنوا أمّهِ على أبيه.. على طائفته.. على ملّته.. على مذهبه.. على دينه.
وانهالت السّياط عليه.. صوتها وهي تهوي، يصدر هواءاً، أزيزاً، صفيراً، فرقعة، دوياً، لسعاً، هديراً، جلداً.
وكنت أرتعش، البلاط من تحتي يرتعد،
الحائط الذي أستندُ عليه، بلّلت دموعه يدايَ، الهواء تشقّق جلده، السّقف تقوّض حديده، والصّدى بحّت حنجرته،
وتورّم الضّوء.
جاؤوا لنا (بطمّاشات)، غطّوا عيوننا.. غاب الحائط من أمامنا، اندلق الظّلام فوقنا، واسودّت أنفاسَنا، وانتحر لعاب فمنا، وغادرنا دمنا، وتقصّفت سيقاننا.
وفجأة.. وضع أحدهم يده على قلبي،
وجده ساقطاً تحت قدميه، فصرخ:
– لماذا يدقّ قلبك بعنف؟!.. يا ابن الحرام؟!.. لم أنت خائف هكذا؟!.. ما الذي تخفيه عنّا؟!.
وجذبني من رقبتي، وأدارني نحوه، بقوّةٍ وعنف.
قلت بصوت ميت، لا نبض فيه:
– أنا يا سيّدي.. لست خائفاً، ولا أخفي عنكم شيئاً، أنا مجرّد شاهد هنا.. أتيت لتسألوني عن (طراد خليل)، قلتم لي مجرّد كم سؤال، وتعود أنت وصديقك.. وأنا لا أعرف شيئاً يا سيّدي، وأقسم لك.
صاح بي محقّق ثاني:
– من منكم ينتسب ، لأحزاب الجبهة التّقدميّة، يا (أوغاد)؟!.
لم يردّ عليه أحد منّا.. فعاد يسأل:
ـ طيّب.. من منكم منتسب لحزب البعث العربيٍ الإشتراكي؟!.
وأردت أن أنجو، أن أغامر، المهم أن يسمعوني، قبل أن يكتشفوا ما في داخل حقيبتي، فقلت:
– أنا.
وصاح.. وكرّر السّؤال:
– أنت بعثيّ؟.
– نعم.. سيّدي.
رفع عن عينيّ القماشة السّوداءُ، و سحبني من يدي، نحو مكتب قريب.. فتحه وأدخلني.. كان داخل المكتب، من يجلس خلف الطّاولة.. وحوله ثلاثة من العناصر، ومحفظتي في يده، يهمّ بفتحها وأفراغها، على طاولته الفخمة والكبيرة، والتي توجد عند مقدمتها، (يافطة مذهّبة) مكتوب عليها، وبأحرف كبيرة سوداء، وجميلة، الرّائد الرّكن، (فضل الله الأسعد).. رفع رأسه إلينا، ونظر إليّ، فقال، من أدخلني إليه:
– سيّدي.. هذا يقول، إنّه رفيق (بعثيّ).
توقّفت يده عن تفريغ المحفظة،وسأل، وكان له شوارب غليظة، وطويلة:
– من أيّ شعبة أنت؟!.
قلت بتلعثم وخوف:
– أنا يا سيّدي.. من شعبة (العمال الأوْلى)، كنت جالساً في المقهى، نلعب الشّطرنج أنا صديقي، سألونا عن شخص يريدون أخذه، قلنا نعم نعرفه، فطلبوا أن نرافقهم، ليأخذوا منّا بعض المعلومات، وحين صرنا هنا، يبدوا أنّهم نسوا لماذا أتينا، راحوا يعاملونا، كأنّنا مثله.. وأنا أقسم لك يا سيّدي، بأنّ معرفتي به سطحيّة ، مجرد سلام وتحيّة لا أكثر.
وضع سيادة الرائد حقيبتي من يده على الطّاولة، ودفعها من أمامه، وقال:
– سأسأل عنك في شعبتك.
كم فرحت، وسعدت، وشكرت الله لأنيّ
دخلت عنده في اللحظة المناسبة، وتركته لا يفتش حقيبتي، ويتركها من يده، إنَّها إعجوبة، معجزة، ضربة حظ عظيمة.
ثمّ أخرجوني من المكتب.. لم أجد أحداً من جماعتي.. كان البهو فارغاً. قادني من كان يصحيبي إلى غرفة أخرى، وطلب منّي أن أخلع كل ما عليّ من ثياب، وأن أبقى في السّروال، وأن أتركهم في الأمانات، ثمّ أتبعه.
كان الممر ضيقا وطويلا، على يمينه جدار، وعلى يساره، زنازين مفتوحة الأبواب، أمرني بالسّير لآخر الممرّ، كان عدد الزّنازين التي عبرت من أمامها، خمسة، مليئة بالموقوفين، عليهم آثار ضرب، وتعذيب.. وعند الزّنزانة الآخيرة، أمرني بالدّخول، وتركني.
دخلت حاملا أغراضي، ووجدت عدد من الموقوفين، والمتورّمي الوجوه، والأقدام، وكان بينهم (لقمان) و(طراد) وصديقه، فوسّعوا لي المكان، وقعدت قرب(لقمان).
صمت مطبق، لا أحد هنا يستطيع الكلام، فقط هي النّظرات المنكسرة، الدّامعة، المقهورة، الزّائغة، المرتابة، هي ما تحتلّ فضاء الزّنزانة المفتوحة الباب، الممنوع من الخروج منها، أو استراق النّظر.
وهناك نافذة يدخل منها الضّوء، خائفاً، متوجّساً، يخشى على نفسه، من الإعتقال، فهو قبل أن يسقط في هذه الزّنزانة، تعترضه شباك من حديد، متينة، وقويّة، وغليظة، وكثيفة.
من المؤكد أنّهم، زرعوا بيننا هنا، من يقوم بالتّجسّس علينا، لذلك لا تجد هنا من يكلّم غيره، الكلّ مشغول بكلامه، مع ذاته، ولكن بصمت شديد، وكتمان متين، وراحت عينايَ تجوسان في المكان، وتبحثان بين الوجوه المتورمة، والمرهقة، والمتعبة، والدّامية، عن ذاك المندسّ بيننا، ليراقب حركاتنا،وهمساتنا
.. ولكن من هو يا ترى؟!.. وأين هو الآن يجلس؟!.. إن جميع الذين هنا، تعرّضوا للضرب، واللتّعذيب.
ترى ماذا سيقال (للرائد الرّكن)؟!، حين يسأل الرّفاق في (شعبة الحزب) عنّي
؟!.. هل ما زالوا يعتبرونني رفيقاً لهم؟!، أم سيخبرونه بأنّني منقطع عن الحضور، منذ لحظة قبولهم لي؟!.. قدّم لي طلب الإنتساب سيادة الرّائد (خليل اسكندر)، المسؤول عن التّوجيه السّياسي، في قيادة اللواء، وأنا في دورة الأغرار، وقتها، حتّى يتمكّن، بعد إنتهاء الدّورة، من فرزي لعنده، ووافقت أنا بدافع الخوف، لا أكثر.. وهل كنت أجرؤ على الرّفض، في تلك الأيام؟!.. وانتهت الدّورة، وتمّ فرزي إلى مكان آخر،بسبب تأخّر وصول الموافقة، على إنضمامي إلى الحزب الحاكم، ومرّت الأيّام، وسرّحت من الخدمة الإلزامية، بعد ثلاثة سنوات وأربعة أشهر، وخمسة أيام.. ولم تصل الموافقة بعد.. ونسيت أنا الموضوع، وطلب الإنتساب الذي أرفضه، إلى أن توظّفت في مخبز (الحمدانية) الآلي، وبعد مضي أكثر من سنتين، وإذا بمدير المخبز، يرسل خلفي
، ليزفّ لي بشرى، قبولي نصيرا في الحزب، شعبة العمّال الأولى.. أيضاً تظاهرت بالفرحة، والقبول.
والتحقت بالشّعبة، وحضرت أوّل إجتماع، كان يترأسه الرّفيق (ماهر)، وهو مدير شركة، في القطاع العام، هامة، وحيويّة.. واعترضت على فكره، وحاولت مناقشته، وإحراجه، وحينَ وجدته، يشتم، ويسبّ (أمريكا)، وهو يدخّن سجائر فاخرة، من صناعتها، تضايق منّي، ومن يومها، لم أحضر غير هذا الإجتماع اليتيم.
وسرعان ما زجّ بي، في نوبة حرس للشعبة، التي تقع أمام، (نقابة الفنّانين)
.. ومنذ اللحظات الأولى، لوقوفي حارساً على (باب الشّعبة)، نظرتُ وشاهدت صديقي (خالد خليفة)، مقبلاً علينا، وهو يعرف ميولي، للشوعيّة، وأنا دخلت بيته كثيرا، بهذه الصّفة، و أيضاً أنا أحبه، وأحترمه، هو وأخوه، (مروان)، الذي أعتقل بتهمةِ انتمائه (لرابطة العمّال الشّوعيّ)، وهو صديق (لمصباح)، صديقي المعتقل منذ سنوات، وهو من عرّفني عليه.. فخجلت من نفسي، وقبل أن يراني، وينتبه لوجودي هنا، صعدّت إلى الأعلى، وسلّمت بندقيّتي، واعتذرت، وانسحبت، وما عدت أحضر عندهم، وكم أرسل خلفي، وإلى بيتي، الرّفيق (ماهر).. وما استجبتُ، ولا عدتُ.
خارج زنزانتنا الصّغيرة والضّيقة، وعلى الطّرف المقابل لها، وبعد متر أو أكثر بقليل، يوجد (المرحاض) الوحيد، لكلّ نزلاء الزّنازين، وهو بلا باب، وله حنفيّة ماء، مفتوحة بشكل دائم، تصدر صوت خرير قاتل، ومزعج، ويسبّب صداعاً حادّاً، وتحت الحنفيّة، توجد عبوة معدنيّة صغيرة، تستعمل (للتشطيف)، لا وجود لخرطوم إلى الحنفيّة، ولا وجود لمغسلة، أو صابون للتغسيل.. وكان علينا أن نشرب الماء من هنا، من هذا (المرحاض)، القذر، والكريه الرّائحة، والذي ندخله و(نفعلها) دون ستار، أو حجاب، أو مخبأُ!!.. شيء غير إنساني، وفظيع!!.
طبعاً كانت الزّنزانة بلا أي مقعد، أو سجادة، أو عازل للأرض، فكلنّا جالسون على البلاط، المتوهج من شدّة الحرّ.
السّيجارة هنا تساوي الكثير، الحرُّ وحش خرافي، ينقضّ على الزّنزانة، وعلى الجدران الإسمنتية السّوداء، يسيل منها العرق، بغزارة بالغة.. حيث يجد المرء نفسه، يغفو، ويسهو، دون مقاومة منه، بسبب الحرّ الخانق، والشّمس عَمِيْلَة المخابرات، كانت تتوّغل لنخاع موتنا باقتدار.
ماذا.. لو عرفت أمّي إني هنا موقوف؟!، أو علم أبي، أو أخوتي، أو أخواتي؟!.. أو خطيبتي، التي هي في مدينة الباب؟!.. آهِ كم هذا أمر مؤلم، وفظيع عليّ، وأنا لا أحتمله، ولا أطيقه.
وفتحَ باب الممرّ، سمعنا صوت حركة المفتاح، أحضروا إلى زنزانتنا، ثلاثة أشخاص، يلبسون السّراويل مثلنا، منهم رجل مسنٍ، ذو لحية خفيفة بيضاء ، وإثنان في سن الشّباب، واحد منهما على عنقه، آثار جرح قديم، يحمل بيده كيساً أسوداً، وممتلئاً.. وكان العنصر
الذي قام بصطحابهم، يتعامل معهم بمنتهى اللطف والوداعة!!، ويخاطب كبيرهم، باحترام وتقدير، يناديه بكلمة عمّي.
جلسوا في صدر الزّنزانة، بعد أن أمر عنصر الأمن، من كانوا يجلسون في هذا المكان، بالنّهوض، والابتعاد.، فابتعدوا، وأفسحوا المجال، للثلاثة الوافدين علينا.
علائم الخوف والرّعب، ليست بادية عليهم.. كانوا يتحدّثون، لم ينقطع كلامهم، منذ دخولهم علينا، حتّى كانوا يبتسمون.. بل فتح صاحب العنق المجروح، كيسه، وأخرج منه علب تبغ، أجنبيّة، وأشعلوا السّجائر، ونحن نتطلّع إليهم، بدهشة، وحسد.
لم نكن نجرؤ على الكلام، رغم أنْ البعض بدأ يتجرّأ، وبدأت الهمسات، تنتشر في الزّنزانة، واقترب منّي (لقمان)، وهمس:
– الله يسترنا يا صديقي!.
أردت أن أجيبه.. بكلام لا معنى له.. لكنّ (طراد) مال عليه، وأخذ يكلّمه بصوت خافت، لم أستطع تميزه.. وكان لقمان يهزّ برأسه.. وأحياناً يهمس:
– فهمت عليك.. أطمئن.. لا عليك.
وعرفنا من يكون هؤلاء الثّلاثة، المتميّزون عنّا، فهم أب وابنيه، يعملان في تهريب الأسلحة.. ولقد تمّ ضبط السّلاح المهرّبِ، في سيّارتهم، التي هربوا منها، وتركوها وسط الطّريق.. والآن يرفضون الإعتراف، بأن هذا السّلاح، الذي ضبط داخل سيّارتهم، يخصّهم، أو لهم علاقة به.. وهم يدّعون
أنّ سيّارتهم قد تمّ سرقتها، من قبل ناس مجهولين، وقام السّارقون، باستغلال سيّارتهم.. ليهرّبوا بها السّلاح
.. وهناك من يعمل على مساعدتهم، وتخليصهم من هذه الورطة.
ودخل العنصر، الذي تركنا قبل قليل، يحمل بيديه الأكياس، كانت رائحة الفروج المشوي، تفوح من الأكياس بقوّة، حرّكت عندنا مغارات الجوع، فبدأت أمعاؤنا تتلوّى، وتقرقر، وتنهش بنا بضراوة وتوحّش.
ناولهم الأكياس، شكروه وانصرف.. ثمّ
وضعوها على أرض الزّنزانة، وفتحوها،
وضعوا فروجتين لهم، وأعطونا نحن جميع، من في الزّنزانة، فروجتين ، و بلغ عددنا دونهم، أحد عشر شخصاً.. فرحنا وشكرناهم، واقتربنا، رغم الأقدام المتورّمة، والمّمدودة.. وهناك من تطوّع لتقسيم حصص، لكل واحد منا، تقريبا بالتّساوي، وبطريقة عادلة.
وصبّوا لكلّ واحد منّا، نصف كأس (بلاستيكي) من (الكولا) الباردة.. فأغدقنا عليهم شكرنا.. ودعونا لهم بالإفراج السّريع.. مع أنّي كنت أكذب.. فما أقوله بداخلي، هو غير الذي قلته لهم، فهم مهربو أسلحة، أولاد كلب، مدعومون، ومدلّلون عند رجال الأمن.
الماء البارد.. الذي أحضره لهم عنصر الأمن.. في عبوات نقيّة، ونظيفة.. لم يعطونا شربة واحدة منه.. كان على من يريد أن يشرب منّا، أن يشرب من ماء، دورة المياه.. من الحنفيّة التي لا يتوقف صوتها البشع.
لكنّ المهرّب.. الأب (الحجي)، لم ينتهي كرمه بعد.. فبعد أن انتهينا من الطّعام،
وقمنا بتنظيف المكان، ووضع المخلّفات
في ذات الأكياس، وثمّ حملها، إلى سلّة الزّبالة في دورة المياه.. قام هذا الرجل الورع، بتضييف كل واحد منّا،بسيجارة
بعد الطعام.. وقال لنا:
– لا أحد يطلب منّي، سيجارة ثانية، فقد أخذ عليّ وعداً، سيادة الرّائد (فضل الله)، أن لا أعطي لأحد، نفثة واحدة من الدّخان..وأنا أعطيكم الآن على مسؤوليتي.
أشعلنا السّجائر بشغف عارم، وأقدمنا عليها، كمن يُقدِم، على عناق حبيبته، الفاتنة.. لكن.. وقبل أن ينتهي (طراد)، من تدخين سيجارته، دخلا علينا إثنان،
من عناصر الفرع، واقتاداه معهم، بعد أن وضعا، القيد بيديه إلى الخلف، وثمّ عصبا له عينيه، بقماشة سوداء،
وسحباه، وانصرفوا.. وسط صمتُنا، وخوفنا، ورعبنا.
بدأ التّحقيق معنا.. هل سنتعرض للضرب؟!.. كما فعلوا مع ذاك، الذي عذّبوه، وضربوه، حين كنّا نرفع أيدينا على الجدار؟!.. آهِ ربي.. أنا لا أحتمل، لا أقوى، لا أستطيع، ولا أتخيّل أن يفعلوا
معي هكذا، مثلما فعلوه.. أموت..
ومستعدّ أن أعترف، بكلِّ ما يريدون.. آهٍ أنا خائف.. بل ميّت من رعبتي.
استرقت نظرة إلى وجه (لقمان).. كم بدأ شاحباً، ومصفراً، ومتيبّس الشّفتين
.. صديقي المدلّل (لقمان)، هنا لا يفهمون، ولا يراعون، أنك وحيد والديك، وأن بقيّة أولادهما، ستّة بنات.. وأنّك ابن نعمة، وعزّ، ومكانة وجاه.. وأنك رقيق المشاعر، لطيف وحساس، شاعر، وعازف (بزق) ماهر، وممثّل، وناقد، ولاعب كرة قدم.. وراقص (كزوربا).. أنت لا تستحق ما نحن فيه.. قل لي صديقي.. كيف سننجو من هذه الورطة، اللعينة؟!.. صديقي الرّائع.. صديقي النّبيل.. صديقي المبدع المحبوب.. نحن في ورطة كبيرة، بل في كارثة عظيمة.
الدّقيقة أطول من ساعة هنا.. الزّمنِ هنا ميّت بلا حراك.. هنا مكان إقامة ملك الموت (عزرائيل).. هنا يصلب الأنبياء.. هنا تقطع ألسنةُ الشّعراء.. هنا تخصى الرّجال.. هنا تغتصب الإرادة.
أهلي حدّدوا لي يوم عرسي.. بعد أقلّ من إسبوع سأتزوج.. هكذا كنّا نأمل، ولكن الآن أسأل، هل سيتحقّق هذا الحلم؟.. سامحيني حبيبتي (رغداء)، يبدو أنّني سأفقدك.. بل سأفقد حرّيتي
وفرحتي، وأحلامي.. انسيني..من حقك
أن تتزوّجي من غيري، رغم أنّ (عمّتي)
أمّك، قد حملت بك لأجلي.. هي وعدتني قبل أن تحبل بك، بأنّها
ستنجب لي عروسة.. وأنا انتظرتك، وفرحت يوم ولادتك.. وكنت أراقب نموّك، وأنت تكبرين.. وتتفوّقين على أقرانك من الفتيات، في دراستك، وجمالك، وقوّة شخصيّتك.. كنت فرحاً
بك، وبحبّك لي.. ولكن، هنا تعدم الأحلام.. في هذا الفرع، يدفن الفرح،
وتقتل البهجة.
(مصباح) أخذوه قبلي.. منذ سنوات، أخفوه عن الحياة التي كانت تضجّ به، أبعدوه عن تفتُّح المستقبل، هو لم يشأ
أن يورّطني قبل أن أنضج.. كانت معرفتي ناقصة لم تكتمل بعد.. خاف عليَّ، وكان يصفني:
– أنت ثرثار.. متهوّر.. مندفع.. مغامر.. عصبيّ.. نزق.. بسيط.. متقلّب المزاج.. عاطفيّ.. تنخدع بكلِّ بساطة.
وأنا من بعد إعتقاله، سكنني الخوف، والجبن، والإرتباك، والضّياع، والحزن، والإنكسار.
بدأت تتناهى إلينا أصوات غائمة، مبهمة، أصخت السّمع، دقّقت أكثر، تعالت ضربات قلبي، انكمشت عنّي أنفاسي، وسرت موجة تيبس بداخلي.. إنّها صرخات (طراد)، أنينه، توسّلاته، تأتي مع أصوات غاضبة، حادّة، غليظةٍ،
لئيمة، ولا تعرف الرّحمة، ولا الشفقة.
كان صديق (طراد) الذي لا أعرفه.. يرتعشُ، جسده النّحيل بالكامل ينتفض
، ووجهه ذو الأنف المعوجّ قليلاً محتقن بالإنهيار.. و(لقمان)، تضاعف شحوب سمرته، تحول وجهه إلى سحابة قلق داكنة، وعيناه الكبيرتان غار فيهما الأسى، وإعصار الحيرة والإرتباك.
– سأعترف.. سأقول لكم كلّ ما تريدونه.. أقسم بالله لن أخفي عنكم شيئاً.
هذا ما كان يردده (طراد) قبل أن يختفي عنّا صوته.
قال أحد الموقوفين.. المتورّم القدمين، الغارقتين بالدّمِ المتجمّد:
– ومن يستطيع أن لا يعترف؟!.
قصيدتي نقطة ضعفي.. الجريدة تشكّل خطراً قاتلاً عليّ.. سيوجّهون إليّ تهمة إزدواجيّة الإنتساب للأحزاب.. (بعثي وشيوعيّ) بآن واحد!!.. وهناك قانون الإعدام.. لمن يرتكب هذا.
دخلوا.. علينا مرّة ثانية، طلبوا (لقمان)، انهارت نبضات قلبي، أخذوه بعد أن أوثقوه، و(طمّشوه).. ولم يعيدوا
(طراد) إلينا.
اقترب دوري.. حان وقتي.. أزفّت لحظة موتي.. ربّاه.. أمّاه.. أبي.. أنا الآن
أواجه الحقيقة.. حقيقة فظيعة ولئيمة..
ولكن اسمها الحقيقة.. بلا أدنى كذب.. بلا توريّة.. بلا مجاملة.. أو تجميل.. نعم
هذه الدّنيا ليست لنا.. نحن الجماهير أتيناها بالخطأِ.. اقتحمناها، وكنّا نجهل أنّنا غير مرحب بنا.. الطّببعة تحتقرنا.. وتزدرينا.. والغابة استكثرت علينا، أن نعيش بأمان، تحت ظلالها الوارفة.. الموت مصير الفقراء.. العبوديّة نصيبنا المحتوم.. كذب علينا الفلاسفة، وأصحاب الفكر.. ودعاة التّحرر.. من منّا
يستطيع أن يكسّر قيده؟!.. أن يتمرّد؟!، أن يحتجَّ؟!، أن يثور؟!.. وأن يقول لا للطغاة، والمستبدّين.. أنا لا أمل عندي..
لن ننتصر على الظّلام.. لآخر لحظة من عمر الكون، سيكون الظّلام أقوى، وأشدّ إتّساعاً.. آهِ (مصباح) غيّبوك مجاناً.
طال الوقت.. استبشرت خيراً.. وفرحت
، وأحسّست بالأمان.. نعم.. حتّى الآن لم نسمع صوتاً (للقمان).. وهذا يعني لم يتعرّض للضرب.. وأقصد أن هناك أمل.. فقد تمرّ هذه الأزمة، ونخرج من هذا الفرع على خير.. ليت هذا يحدث.. قسماً سأتوقّف عن ارتياد المقاهي.. سألتقي مع أصدقائي في البيوت.. الأماكن العامة خطيرة، ومغامرة أنا في غنى عنها للأبد.
وزعق بقلبي صوت، قويّ، جهور، شجاع
، وواضح النّبرة:
– لا تخف.. كن شجاعاً.. لا يقع في الفخّ، إلّا الجبان.. إنتبه لنفسك.
أمّي دائماّ تدعو لي، ذات الدّعاء، وفي كلّ مرّة، تكون فيها راضية منّي:
– الله يبعد عنك، الظّلّام، والحكّام، وأولاد الحرام.
يا رب استجب لأمّي.. فأنت تعرف كم هي طيّبة.. وخيّرة.. وبسيطة.. ورقيقة..
وضعيفة.. فلا تفجعها بي.. حتّى وإن كنت أنا حقيراً لا أستحقّ.. أعصاك حين أحسّ بالأمان..وأرجع إليك وقت الشّدّة
والخطر.
فتح الباب المقفل، سمعت أصوات أقدام في الممرّ، وها هو (لقمان) يدخل،
بلا قيود، أو طماشة على عينيه، ولا أثر لضرب، عليه أبداً.. لكنّ الحزن لم يرتحل، وعينيه ما زالتا هائمتان في الفراغ.. اتخذ مجلسه.. وذهب عنصر الأمن.. فهتفت بخفوت:
– طمّني.. ماذا صار معك؟!.
ظلّ مطرقاً رأسه بالأرض.. شعره الخرنوبي الطّويل كان مغسولاً من التعرّق.. في صمته وجع وألم.. تذكّرت ضحكته المجلجلةِ، ومزاحه الذي لا يتوقّف، وسخرياته العميقة والذكيّة..
ماذا فعلوا معك صديقي؟!. و(لقمان) ليس معنا في زنزانتنا، بل هو في زنزانة أبعد.. زنزانة صغيرة، ومظلمة، منفردة، لا تّتسع لدمعته، ولا لصمته.
عادوا وفتحوا الباب، تضرّعت إلى الله أن لا يكون الدور عليّ.. أن يكون على صديق طراد، الذي لا نعلم ماذا حلّ به، وإلى أين أخذوه؟!.. لكنّهم نادوا اسمي.. أنا سمعت إسمي منهم.. تلفّت علّ غيري يتبرّع ويردّ عنّي، ويذهب معهم بدلاً منّي.. ولكن هيهات هيهات.
انحنوا فوقي.. أنهضوني عن الأرض.. في تلك اللحظة لمحت بريقاً في عينيّ لقمان.. وفهمت منه قوله لي.. لا تخف.
دخلت مع قيدي.. ومع ظلمة تحيطني أنا فقط.. هم يرونني، وأنا لا أبصر سوى رعشتي بداخلي.. تعرّضتُ لضربة من عصى غليظةٍ، جاءت في خاصرتي.. كنت أسمع صوت طرقاتها،على الأرض..
وزعق بي صوت، كنت قد سمعته سابقاً:
– قلت لي أنّك (حزبيّ).. أليس كذلك؟!.
هبط قلبي إلى الدّرك الأسفل، من جحيم الخوف، والذّعر.. إذاً عرف الموضوع!.. كشف كذبتي.. الويل لي.. بماذا أجيب؟.
– نعم سيّدي.. أنا (حزبي).
– (حزبي)!!.. ولا تحضر إجتماعات؟!.. ولا تدفع إشتراكات شهريّة؟!.. ما شاء الله عليك يا (رفيق)!.
عادت روحي إليّ، استبشرت خيراً.. أطلّ الأمل على أفقي.. لقد بالغت في مخاوفي، أكثر مّما ينبغي.. الأمر أهون الآن، على ما أظن:
– سيّدي.. أنا الآن أعمل في القطّاع الخاص.. كنت سابقاً موّظفاً، (أمين مستودع) في (مخبز الحمدانيّة) ولهذا صعب عليّ الإلتزام، وحضور الإجتماعات، ولكنَّني سأدفع كلّ ما يترتب عليّ من إشتراكات سابقة.
– نعم صلّح وضعك عند( شعبة الحزب)
.. ولكن…
وجاءتني ضربة مباغتة، بالعصى، وأردف بسؤال:
– ماذا تعرف عن (طراد خليل)؟.
أحسّست براحة أكثر.. أجبت:
– سيّدي.. أنا أعرف (طراد خليل) بحكم صداقته مع صديقي (لقمان)..و(لقمان) شاعر، وأنا أكتب الشّعر.. و(طراد) ممثل في المسرح القوميّ، و (لقمان) ممثل في المسرح الجامعي.. وهكذا تعارفنا، ولكن معرفة سطحيّة.. وهذا الذي مع (طراد)، أنا لأوّل مرّة أراه.. ولا أعرفه أبداً.
وصلتني ضربة مؤلمة على فخذي، ثمّ تبعها سؤال:
– ما علاقتك.. (برابطة العمل الشّيوعيّ)؟.
– سيّدي.. أنا لي أصدقاء في جميع أحزاب (الجبهة الوطنيّة التّقدميّة).
صرخ.. وضربني بعصاه، على مؤخّرة رأسي:
– (أحزاب الجبهة)، لا علاقة لها بهذا التّنظيم، المعادي للدولة، وإلى الحكومة.
تظاهرت.. بالجهل، والغباء، وعدم المعرفة، وقلت:
– أنا.. لا علاقة لي بهذا التّنظيم،
المعادي، وأنا لأوّل مرْة أسمع به.
هذه المرّة أمسكني من أذني، وشدّها بعنف، ذكّرني يوم كان أستاذي (المعرّاوي)، يضع حصاة صغيرة، بين أصابعه، ويضغط بها على أذني، وهو يقوم بشدّها. قال:
– لكنّ صديقك (لقمان)،إعترف بتنظيمه في (رابطة العمل السّرّيّة)، واعترف عليك أيضاً، فأنت من مجموعته،
وتحضر معه الإجتماعات، وتدفع الإشتراكات، وتقومان بتوزيع المنشورات، على الكتّاب والأدباء.
تظاهرت بالدّهشة والإستغراب..
وبالضّيق، والإنزعاج.. وكنت أشاهد، من خلال (الطّماشة) السّوداء، التي تغطي عينايَ، أرض المكتب،وأقدامه المتحرّكة حولي.. وأتسأل عن الجدّوى، من تغطية عيني، طالما شاهدت الرّائد (فضل الله) وحفظت اسمه، عند دخولي مكتبه، في المرْة الأولى؟!.
وهتفتُ.. بندفاع، وكأنّه جاءني عفوياً:
– لا.. يا سيّدي.. (لقمان) يكذب.. لقد خدعكم.. وغشّكم.. فهو ليس من (الرّابطة).. وليس منتسباً إليها.. ولا أنا.
وصاح بي.. وكانت ضربة عصاه، على ظهري مؤلمة، وقويّة:
– قبل لحظات كان (لقمان) صديقك.. والآن تقول عنه كاذب.. أبهذه البساطة
تتخلّى عنه؟!.
– يا سيّدي.. أنا لا أتخلّى عنه.. لكنّ (لقمان) صغير بعد.. خاف منكم، فصار يقول لكم أيّ كلام.. ويعترف لكم بأنّه، منتسب لجهة معادية، وأنا شريكه.. نعم، هو خائف، ويكذب، فلا تصدّقوه.
شاهدت قدميّه تتحرّكان، حول طاولته
، ومن خلال الحركة، التي صدرت، عرفت أنّه جلس خلف الطّاولة.. وقال يسألني بتهكّم وسخرية:
– أنت شاعر، أليس كذلك؟.
– سيّدي.. كانوا يسمّونني في الجيش، شاعر الفرقة الخامسة، عند حدود الجبهة، مع العدو الإسرائيلي، إسألهم عنّي، هناك.
قال وبتهكّم زائد.. أنا أريدك أن تسمعني
من شعرك الآن.
– سيّدي.. أنا بهذه الحالة، لا أستطيع أن أسمعك، من شعري.. حالتي الآن لا تسمح لي.
وعاد إلى تهكّمه، وسخريته الباردة:
– وما بها حالتك؟!.. لتشكو منها؟!.. هل نحن أزعجناك؟!.. هل وضعناك على الدّولاب، أم نزعنا لك أظافرك؟!.. أم أطفأنا أعقابَ سجائرنا، بظهرك العاري؟!.
همست بانكسار:
– أنا متعب سيّدي.. أرجوك.
مرّت دقيقة صمت، خلتها دهراً.. وأنا أسأل بلاط المكتب، الظّاهر أمامي فقط، وهو يضحك بشدّة، من قدميَّ الحافيتين، والمتورّمتن من التّعب والإرهاق، إلى أن قال:
– إن كنت.. لا تريد أن تسمعني شعراً، فدعني أسمعك، أنا هذه القصيدة.
خفق قلبي بشدّة، وبضراوةٍ، وبقوّةٍ، وبجنون، أربكني، وأرعبني، يا الله!!.. كنت أظنّ، أنّ الأمور تسير نحو الخلاص.. لكنّها عادت لتتأزّم.. وتشتدّ،
وتعود كما كانت في السّابق.. نعم.. ها هو سيقرأ عليّ قصيدتي، المنشورة في الجريدة الممنوعة، والّتي أهديتها إلى روح الشّهيد (فرج الله الحلو)، أمين عام (الحزب الشّيوعيّ).. والذي قتلوه تحت التّعذيب، وثمّ أحرقوا جسده، وأذابوه (بالأسيد).
– اسمع هذه القصيدة، وأعطني رأيك بها، دون مجاملة، أومسايرة، بل بموضوعيّة تامّة.
– ما قولك؟!.. هل أنت جاهز؟.. هل أبدأ بالقرأة؟.
– تفضل سيّدي.. أنا أسمعك.
كنت على وشك الموت، وأنا أتظاهر باستعدادي للإستماع.
وقال:
– ( خراء حافظ الأسد، على مصطفى الحاج حسين).. ثمّ ضحك بقوّةٍ، وقال
ما رأيك بهذا الشّعر الحديث؟.. أليست جميلة؟.. أجمل من كلّ ما تكتبه؟.
عادت إليّ أنفاسي.. نعم.. لم يفتح حقيبتي.. ولم يقرأ قصيدتي، في الجريدة.. وهذا مدعاة للفرحة، وإلى السّرور، وإلى البهجةِ.. فليقل عنّي ما يشاء.. وليسخر من إسمي، ومن كتاباتي، المهم أن لا يقترب، من الحقيبة.. وهنا أحببت أن أجاريه، وأن أبعده عن التفكير، بفتح الحقيبة، قلت في نفسي، سوف أتظاهر بالمسكنة، وبالغباء:
– سيّدي.. عفواً.. هذا ليس شعراً.. إنْه كلام لا أكثر.
وهتف.. وهو غارق بضحكته:
اتّضح أنّك (جحش)، لا تفهم بالشّعر الحديث.
ستفرج يا الله.. ستفرج.. وسأخرج.. وأعود للحريّة، وسأتزوح بعد خمسة أيام.. ويبقى هذا اليوم ذكرى، أليمة وقاسية.
– سيّدي.. أنت هكذا تسيء إلى الشّعر، وإلى مفهوم الحداثة.
لم أتوقّع.. أن يقول لمن حوله، من عناصر، أرفعوا الغطاء عن عينيه، وفكّوا قيده، ودعوه يوقّع، ثم سلّموه أغراضه.
وخاطبني يقوله:
– أحذّرك.. من الذّهاب للمقهى، مرّة أخرى.
وخرجنا.. أنا و (لقمان).. وظلّ عندهم الممثّل المسرحي (طراد خليل)
وصديقه.