حين أفتقدك و تخلو منك تفاصيل يومي الذي لا يكتمل ألقاً دون وجودك البهي أستنجد بقلمي الذي لا يخذلني أبداً ، لطالما اتكأت عليه و أصبح عصا عجزي و جهاز ضبط كل خلل بأجهزتي الحيوية.
و أنا أدين لمواقفه التي تغير مجرى حياتي بما يسطره من جميل مشاعري ، فهو يعي تماماً ما يخطه يراعه و يترجم كل ما يعتمل بصدري من أحلام يحثني على تحقيقها و انفعالات يدعوني لاحتوائها و حسن استثمارها و توجيهها و ضغوط فيذيبها و يصيرها طاقة أضج بالحياة من خلالها، و لطالما ألبس أفكاري حللاً زاهية تفتح لها نوافذ الفكر و بوابات العقول ، و لم يساورني الشك أو يعتريني الندم على سطر كتبته أو عبارة أوجبت على قلبي حفظها بالتدوين فأنا أثق بمهاراتي في انتقاء عباراتي و حسن اختيار صياغة أفكاري، و أتقن تجسيدها فيما يصل الى ذائقة من يقرأني . ذلك أنتي أحاول تنقيح و تطوير كل كتاباتي و ان مضى على كتابتها احياناً فترة زمنية، كما في مذكرات طفولتي و خربشات مراهقتي التي لن ترى النور حتى تكون لائقة بعقول أحترم رقيها و قلوب لا أرجو أن أغادرها.
أشعر دوما بأنني بخير في كل صباح جديد و أحمد الله كثيرا طالما استطعت التنفس ثانية و كُتب لي يوماً جديداً أعيشه و أمكنني أن أحمل قلمي الذي يشاركني في كل أيامي كي تزدهي سعادتي بانتاجه فأنا أسعد خلق الله طالما أرى ضجيج خطوطه و هو يملأ صفحات كانت فارغة و أبدأ صباحي بنشوة غامرة حين أشعر بمقدرتي على مناجاة كل من حولي و إن كانوا أطيافاً هائمة في معترك الحياة ،إذ أنسج من قصصهم عالمي الذي أعشقه و أصوغ حوار مع كائنات تسكنني للأبد و إن طغى الفراق فغيبها لوقتٍ لا يعلمه سوى من كان بيده اللقاء و الفراق و من أباح عناق الأرواح كي يهزم فراق الأجساد .
و في علاقاتنا الإجتماعية ربما تحكم الظروف الحياتية لا سيما في زمن الجائحة أن نبتعد تبعاً للاحترازات الوقائية و حفاظاً على أرواحنا و أرواح الآخرين و لكن ثمة أشخاص لا يمكننا أن نغلق كل الأبواب تجاههم ، أولئك من يعرفهم القلب و القلم و القرطاس فيسجل لهم يوميات و كأنهم يعيشون معنا ، ذلك هو الغياب في أبهى حضوره، و تصبح مناجاتهم و الحوار معهم أشبه بممارسة الحياة الواقعية ، أحياناً يهزمنا الواقع بتلك الانكسارات التي تشعرنا بقسوة الحياة و خذلان الأصدقاء ممن عرفتنا بهم المواقف و علمتنا الصدمات بعد أن ألمتنا من سوء أفعالهم ، فنفزع لتلك النخبة التي اصطفيناها بعد طول عشرة و عناء ليكونوا تلك الكوة الصغيرة التي ينفذ منها الضوء لتنير زوايا أعماقنا المظلمة و تخفف من لوعة شهقات الصدمة فيمن داهمنا قبح نواياهم فتكشف عن تعثر اختيارنا لهم و رفعهم منزلة على منصة القلب الذي لم يراعوا له حرمة ، نفزع لجمال الصداقة الحقيقية التي لا تغيرها الفوائد المادية و لا تخضع لسلطان الأنا و المشاعر النرجسية و لا تمزق صفحات الود و المحبة سنوات طويلة عند أول اختلاف أو تصادم في أراء أو مصالح ذاتية .
كانت و لا زالت ستبقى أحد أقرب بناتي ان وضعت اعتباراً لسنها فهي لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها المديد بالصحة و العافية و هي من تلك الثلة الجميلة
اللاتي ولدتهن مقاعد الدراسة و رغم اني لم أسعد بتدريسها سوى فصل دراسي واحد تخللته أيام طويلة انتزعها المرض خلالها فغاب صوتها و ما
غاب حضورها الجميل، و لأنني شعرت بمكانتها تتسع بقلبي أصبحت أزورها في المشفى كلما علمت من الطالبات أنها طريحة السرير الأبيض .
غابت كثيراً و ما تهاونت بعهودها ، و غبت عنها أشهراً و ما ضعف حبها بقلبي ، أفتقدها كثيراً و اتساءل ما الذي أبعد قمري عن سماء حياتي ؟ و أين أصبح ذلك العندليب الصداح الذي لا غنى لي عن تغريده العذب ؟؟ مضى وقت طويل لم يشنف سمعي صوته و كأنه قادم من السماء يعيد صياغة روحي التي يتعبها غيابه كثيراً .. كلما يممت وجهي نحو السماء تذكرتها فأنا لا أدعوها الا بمسمى ذلك البدر الذي يبدد الظلمة
و أغلف دعواتي بوشاح الرجاء و ارسلها بأمنيات ان تشملها الالطاف السماوية و تدركها دعوات من تشعر بالأمومة نحوها كأنها مشاعر والدتها التي أورثتها لمن شاركها تاج الأمومة و من تتقن تجسيد حبها بكل اشكال الوجد.
أيها النور الذي لا زال يضيء قلبي و مقلتاي التي أتعبهما السهر و الأرق فأنا لا أشعر بالليل إن قضيته في سبات طويل و يكفيني من ساعاته أربع أتحايل بها على ارهاق النهار و أسعف جسدي بغفوة نهارية لا تتجاوز الساعتين.
أشعر أنك لست بخير و أخشى أن المرض قد أعاد سطوته التي لا تنال من صبرك و أن أوهنت منك الجسد و إن أبعدك عني و قيدك بأنابيب تمدك بالقوة و تمد في عمرك ضعفين ما أعطاك الله من العمر الطويل في خير و أمن و عافية إن شاء الله حين تتجاوز دعواتي أستار السماء يستجيب الله لوجيب قلبي و صادق توسلاتي بالشفاء لك و لجميع المرضى.
و رغم أن دوامة العمل قد أتعبتني و أنا أجاهد كي أصمد بكل قوتي فلا تزلزني تكالب الأمراض على جسدي و احساسي أحياناً بما تركه الزمن من آثار تشكل انتكاسة لقوة الانسان ، لكني أستميت في الصمود و المحاولة مهما تعثرت فلا استسلم لإنهاء أكثر الانجازات التي بها استقامت حياتي و لا اتنازل عن عملي الذي أفخر به في قرارة نفسي لا سيما إن تذكرت أروع النماذج الطلابية التي مرت بحياتي و لا زال أثرها في نفسي فلا يمكنني التنازل عن عرش التعليم الذي يضاهي منزلة الأنبياء سواء بالتحويل لأعمال المساعد الإداري الذي أكن له كل تقدير لتحمله أعباء تنظيم و تنسيق كل ما يجعل من العملية التعليمية ممارسة العمل في بيئة صحية متعاونة و منجزة ، أو بالتقاعد و إنهاء سنوات خدمتي و ذلك بالنسبة لي أمراً خارج إطار طموحاتي فلا زال لدي الكثير من زخم العطاء كي أقدمه لأجيال و أجيال .
فمكانتك في قلبي كمصدر نبض يضخ الحياة و الأمل في كل شرايين جسدي الذي أنهكه الجحود ممن أعطيتهم قلبي و وقتي و جهودي و أفكاري.
و أنا لا أملك من حطام الدنيا و ضاع كل ذلك في بحر النسيان و جلدني بسياط الندم و الحرمان، مع كل ذلك أسجد لله شكراً أن أبقى لي قلوباً جميلة مثل قلبك الذي لا يبعده الغياب و لا تنسيه الآلام فهو حبي الكبير و لن تسطو عليه أنياب الجحود و النكران.
فهناك امور كثيرة تشغل عقلك الواعي و تختزن سنيناً طويلة في عقلك الباطن و لا أعلم كيف اتعامل معها و أنا لا أتحمل الشعور بحزنك ، وماهو الطريق الذي استطيع به التخفيف عنك إن كنتِ قد تربعت على عرش السيادة في حسن الإنصات لي و احتواء كل همومي المبعثرة أيتها الطفلة و المراهقة و الصبية التي علمتني الكثير بلا مقررات و دون أن توثق جسدي على مقاعد الدراسة بقيود الحصص التي لم تكن في زمنها مزدهرة في عالم رقمي اختلطت قيم كل أرقامه و ضاع في أنفاقه المظلمة الكثيرون ممن لم يمتلكوا قوارب النجاة في لجج بحاره الإفتراضية و قد كنت أظنني معلمتها و من اتخذت موقع المرشد الناصح حتى أتاني اليقين بالتجربة و نتيجة ذلك الوفاء الذي أظهرته في أبهى صوره ، و لأنه لا يمكنني السهو عنك فأنتِ قطعة من روحي أحاول جاهدة أن أمد لك جسوراً لا تجعل للغياب سبيلاً يفسح فيه للجفاء فيعكر صفو حبنا ، و استنهضك على مشاركتي كل مافي قلبك الصغير من آلام ليس من أجل متعة البوح بالمستور و شهوة الفضول التي تنهش خصوصية الآخرين ، لكنه فرط الإهتمام بك و الإحساس بأني قصرت بحقك و لم أكن تلك الأم التي تليق بأن تكون جنتك الدائمة التي توصلينها لحد الانبهار بجمال تجسيدك لمعاني البر و جمال ترجمتك للصداقة الأبدية التي لا يحدها زمن أو مكان و لا تضعفها المسافات البعيدة أو يغيرها الغياب و الإنشغال بمتاعب الحياة و التزاماتها .
سوف أجاهد أن أحظى باحتواء فضفضة تخلصك مما كان سبباً في بعدك عن عينيّ ان كان البوح سينفض عنك ثقل الهم الذي يجثم على صدرك فأنا في انتظار ما سوف أنتزعه من أعماقك و أنثره في فضاء روحي و أسكب بقلبك سعادة تحل محله لا يستحقها سوى من يشبه روحك و يحمل قلباً يزهر وفاء مدى السنين و أملاً واثقاً رغم الحنين و صبراً زينبي رغم آهات الأنين.
______
منتدى النورس الثقافي الدولي.