لآفاق حرة
للفن آفاق في رواية “أسيليا” للروائي أحمد الغمّاز.
بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد
المقدمة:
بالفنون على اختلافها تتّسع دائرة الرُّؤى لتشكيل شبكة علاقات اجتماعيَّة مُتماهِيَة حدّ التوحُّد والاِنْدماج، ومُتشابِكة من الصَّعب الفصل بينها. الشّعوب لا تنسجم إلّا مع معتقداتها وفنونها وعاداتها وتقاليدها. وبذلك تكون الفنون بمختلف أنواعها وأشكالها لوحة تعبيريّة عن حالة اجتماعيّة، فتعكس مدايات من التفكير والحركة للآخرين بأبعاد لونيّة وتمثيليّة ومونولوجات، تبعث برسائل واضحة أحيانًا، وبأخرى مُرمّزة لا تُفكّ شيفرتها إلا بقراءة واعية على محامل التحليل والتدليل والتأويل. بهذه التَّقدمة القصيرة التي جاءت مُدخلًا طبيعيًّا صالحًا إلى رحاب رواية “أسيليا” للروائي “أحمد الغمّاز”.
وفي معني كلمة “أسيليا” عنوان الرواية فقد كتب المؤلف بذلك على لسان البطلة أسيليا: (اغترب والدي في اليونان ثلاث سنين، كان يعمل بحّاراً على متن مركب للبضائع، عندما وضعتني أمّي أطلق عليّ اسم يوناني، أسيليا، وعندما سألته أمّي، وهي غاضبة، قال لها: إنّها تعني الوردة الجورية، لم تقنع بالتبرير، وقالت: أنّها اسم لعشيقته في اليونان، وظلّ هذا الاعتقاد حتّى كبُرتُ ودخلتُ الجامعة) ص١٩. وحقيقه الاسم كما ورد على لسان أسيليا: بأنّ معنى اسمها هو الوردة الجوريّة، وعلى رأي الأمّ الغاضبة من زوجها؛ فتتهمه: بأنّ أسيليا هو اسم عشيقته اليونانيّة، وهو كذلك اسم لبنت يونانية، ومثل الاسم كذلك “روزا” في مجتمعات أخرى، ولا ننسى أنّ أشهر امرأة عربيّة عملت في الصحافة “روز اليوسف”. وكذلك الفنّانة “وردة الجزائرية”
وتروي أسيليا عن بطل الرّواية الفنّان بناء على محادثة جرت بينهما عبر وسائل التواصل: (خالد لا يرى باللّوحة سلعة يشتريها الأغنياء؛ ليُعلّقوها على جُدران صالة الطّعام في البيوت الباذخة. هو يؤمن بأنّ اللّوحة لمن يُحبّها ويفهمها ويُقدّر اللّون والمعنى)ص٦١. وبهذا تتّضح وظيفة الفنّ كرسالة في خدمة المجتمع، وليس عبثًا يقوم به الرّسّامون التشكيليُّون إرضاء لنهمهم وهرطقاتهم، على رأي من قال بأنّ: (الجنون فنون)
وصف الرواية:
توصف رواية “أسيليا” بالرّواية المُثقّفة، الكاشفة بوضوح عن ثقافة عميقة، وسعة اطّلاع عند الرّوائيّ “أحمد الغمّاز”.
اللّغة السّليمة صياغة وسَبْكًا بما يُرضي ذائقة المُتلقّي الأدبيّة، ويُشبع نَهَمه لمتابعة القراءة حتّى نهايات الحدث الروائيِّ، وعلى أيّ مَحمَل كان فاللغة هي الوعاء الذي يتّسع لاستيعاب جميع أنواع النّشاطات البشريّة بمختلف أشكالها وانتماءاتها. ووسيلة الكاتب لإيصال رسالته بطريقته، وهو ما تمتع به الروائي “الغمّاز”، وهي دليل تجربته الماكنة المُتمكّنة في هذا المجال.
كما أنّ التَّسلسُل المنطقيّ لسرديّة الرّواية تدرّج بتصاعُد الحدث وتوتيره ليصل إلى مدايات مثيرة، تفتح آفاقًا ورؤى جديدة من خلال نوافذ المكان ما بين في العاصمة “عمّان” إلى مدينة “ليون” الفرنسيّة على نهر “السّون”، وما بين عمّان و”لُيون” مسافات استطاعت “أسيليا” بطلة الرواية تجسيرها بذائقتها لتلّون هذه المساحات بألوان الفرح والحياة والتفاؤل والأمل، والنّظر لآفاق المستقبل.
الرواية بمُجملها سيرة البطل “خالد مختار” بمنشئه الشرقيّ المحافظ الذي تعلّم في مدارس وجامعات الوطن الأردن. ومن ثمّ انتقاله لمتابعة الدراسات العليا في جامعة ليون، فكان جسر تواصل من بين خُصوصيّته الشرقية العربية التي حملها في بواطنه قضية فلسطين، تسري في عروقه مسرى الدم والأنفاس.
كما أن رواية “أسيليا” تقنيًا جاءت بأسلوب الروايتين في رواية، وهو لون من الكتابة صعبة التنفيذ بحاجة لقدرات فائقة تقنيًّا لدى الكاتب، ففي الواقع هي سيرة “خالد مختار” ونشأته وظروف عائلته في الزمان والمكان بجزئه الأول من حياته. وسيرة “خالد مختار” في سفره في فرنسا المختلفة تمامًا ببُنى وأنماط الحياة والتفكير السُّلوكيات المُنفتحة على عوالم الحريّات الشخصيّة بلا حدود بعيدًا عن الرّقابة الاجتماعيّة.
ولو قُدّر فصل مَساريْ الرِّواية عن بعضهما لخرج منها روايتين مكتملتين شروط رواية جيّدة.
الفن وآفاقه في الرواية:
سنتوقّف في هذه الإطلالة على رواية أسيليا. نقطة مهمة محوريّة متأصلة في شخصية الفنّان “خالد مختار” وهو في بلاد الاغتراب في فرنسا؛ لإكمال دراساته العليا لمرحلة الماجستير، والفنّانة الفرنسيّة التي التقاها “جوليا”. والطّبيبة النفسيّة الأردنيّة “أسيليا”، عندما أرادت استخدام الفنّ لعلاج بعض الحالات النفسيّة، ورُفِض اقتراحها من المدير المسؤول.
هذه المحطّات الثلاث سنحاول الكشف عن رؤى كلّ واحدة منها، والقضايا التي تحملها، والهُوّة الواسعة بالاختلاف بين طريقة الفهم والتفسير والتأويل، وما قيمة الفنّ إذا يكن نابعًا من واقعنا ومن أجل خدمة قضايانا المصيريّة. وضوح الرّؤية يقودنا للتوقّف أوّلًا عند “خالد مختار”، عندما استثارته لوحة القائد الفرنسيّ “نابليون بونابرت” التي رسمتها النحّاتة “جوليا” أحد أبطال رواية أسيليا؛ لمناقشة قضية تاريخيّة، ما زالت آثارها تنسحب بعقابيلها على حياتنا المعاصرة.
وبتسليط الضوء على بعض اقتباسات من الرواية، ظهرت نقطة مهمّة لا يمكن تجاوزها على جميع الأوجه، ربّما تكون قضيَّة الانتماء للوطن وقضاياه، هي أحد أبرز المحاور الرّئيسة التي قامت عليها السرديَّة الروائيّة. خالد مختار بطل الرّواية حمل قضيّة الوطن السّليب، ومناقشة الأسباب، والإشارة إلى القوى الاستعماريّة التي فعلت جريمتها بتهجير الشّعب الفلسطينيّ، وإقامة دُويلة الكيان الصُّهيونيّ الغاصب. يقول خالد مختار:
(فارس فرنسا هذا تحطّمت أسطورته على جدران مدينة فلسطينيّة في الشّرق الأوسط تجاور البحر اسمها عكّا، تقاطعت مصالحه مع مصالح اليهود الذين احتلّوا فلسطين) ص18.
بينما تقول جوليا: (لم يتبقّ على إنهاء التمثال إلا القليل، كان من المفترض أن أنتهي منه قبل ديسمبر، لكني أجّلته لأكشف عنه الغطاء في مهرجان الأنوار الذي ستحتفل به ليون كلها بالضوء المُلوّن الساحر في الثامن من ديسمبر، وسأرقص رقصتي المجنونة تلك التي وصفها ذلك الشاب المشرقي في مقهى ساحة تيرو)ص٢٣.
ويرى خالد مختار القضية بمنظار آخر مختلف تمامًا، الأمر الذي يذكرنا باختلاف البُنى الفكرية والثقافية بينها. بنية شرقيّة مُجللة بأصالتها العربية التي لا تتنازل عن قضيتها، فيقول: (لوحة النابليون على شكل تمثال، وجوليا تقف بجانبه فخورة، لم أكترث كثيراً، ولم أعلق بكلمة واحدة، سبّبت لجوليا الحنق بعدم اكتراثي، – قالت: أيها الشرقي المتعالي، وضحكت لترطب الأجواء. قلت لها: ليس تعاليًا، وانما رجلك هذا لا يعني لي شيئاً سوى أنه مهد لسرقة أرضي، لكن لا يمكنك إنكار فضله على فرنسا. وضحت لها: بأن فرنسا تعني لي شيئاً واحدا فقط، هو أني أكمل دراستي بها وبعد عام أو أقل أكون قد حصلت على شهادة الدكتوراه، وأعود لبلدي) ص٤٩.
والاختلاف سنّة الحياة وسبيل البشر لمواصلة مسيره بما يراه مناسبًا، وهو ما يظهر عند جوليا بقولها: (قررت أن أختار أعظم رجل في تاريخ فرنسا وأعشقه، تصور أننا نتبادل الحب في ليالي كثيرة، لا، لست مجنونة، قل عني ما تشاء) ص٥٠.
بالعودة إلى أسيليا الطبيبة المعالجة في مصحّة نفسية، بطبيعتها المخبوءة على جوهر مكنون، والمُثقلة بأحمالها الاجتماعية المعيقة ربما لرؤاها الطموحة من أجل الارتقاء، وهي تحمل بداخلها فنّانة كامنة هاوية؛ واعية لتأثير الفنّ في بث التفاؤل في نفوس مرضاها؛ فتقول في حديث لصديقتها: (اقترحتُ على أميرة، أن نتفق مع بعض الفنّانين التشكيلييّن ليرسموا المرضى كبورتريه، وقلتُ: أن هذا سوف يساعدهم كثيراً على التحسّن السريع بجانب العلاج الدوائي، وسوف نعلق كل لوحة تخص المريض في غرفته الخاصة، تصوري يا أميرة، حين نتقبلهم نحن كأطباء في الوقت الذي رفضهم به المجتمع)ص37.
فيما كان جواب صديقتها. د. أميرة بالتالي: (ضحكت. وقالت: يا أسيليا هل تظنين بأن الدكتور رأفت سيوافق على هذا الاقتراح، بالطبع سيعتبره بذخاً لا طائل منه) ص٣٦.
تصطدم د. أسيليا بجواب المدير. د. رأفت غير المقتنع بفكرتها أساسًا؛ فحاول تهميشها ببرودة أعصاب ولا مبالاة قال: (إن التكلفة ستكون مرتفعة، وهذا برأيي ترف غير مبرر) ص40.
لتعود إلى رأي أمّها: (مشكلتك في هذه الحياة أنَكِ لا تعرفين التغاضي) ص40. وكان ردّها الغاضب بوجه المدير: (وقفت وصحت بوجهه، أرى يا دكتور رأفت بأن تكلفة الإقامة أيضاً مرتفعة، والمرضى يستحقون الاهتمام أكثر، أغضبته كلماتي، لكنه كان مراوغًا كثعلب، قال: عملكِ هنا كطبيبة يا دكتورة أسيليا وليس مديرًا ماليًا، غادرت مكتبه بكلمة واحدة: عن إذنك) ص٤٠.
الخاتمة:
في هذه العُجالة المضيئة على. رواية “أسيليا” توقفنا على (أهمية الفنّ بأن يكون لكلّ الناس، وليس فقط في المعارض)ص61. والفنّ للجميع بمحاولة تثقيفيّة، وهي إحدى بل أهمّ وظيفة للعمل الروائي؛ بنشر الوعي بأهميّة الفنون بمختلف أشكالها وألوانها؛ لتكون مُنطلقًا صالحًا في خدمة القضايا الوطنيّة والقومية، ولتعزيز قضيّة الانتماء للوطن وقضاياه. وقد كانت رسالة رواية “أسيليا” واضحة غير خافية على القارئ والمتابع.
عمّان. الأردن
29/10/2023