كتب. د. مسلك ميمون. ال ( ق ق ج) و تقنية الحذف و الإضمار

لآفاق حرة

ال ( ق ق ج) و تقنية الحذف و الإضمار

بقلم. د. مسلك ميمون. المملكة المغربية

لا شكّ أنّ علم الأسلوب ، و الأسلوبية بمختلف اتجاهاتها(1) لها صلة و ثيقة بعلم اللّغة، و من تمّ اكتسبت دورها الهام في نقد و تحليل النّصوص الأدبية لأنّها منهج خاص و حديث في مقاربة الأنساق اللّغوية. و من ذلك أسلوب الإضمار( Ellipse) الذي عرفه الأدب العربي قديمًا في الخطب، و الشّعر، و المقامات، و التّوقيعات.. كما أنّه في القرآن الكريم. كما عرفه النّحو العربي و ضروب البلاغة و إنْ اختلفا، فعلماء النّحو، (2) وعلماء معاني النّحو من البلاغيين، في تناولهم لظاهرة الإضمار، فالنّحويون يبحثون عن وضوح المعنى، و سلامة التّركيب، والبلاغيون يبحثون عن جماليات الأسلوب..
و الإضمار ببساطة : ظاهرة لغوية عالمية، تعني حذف ما دلّ عليه الظاهر تفاديًا للحشو، و التّواتر السّردي/ التكرار، والإطناب..و هو فوق هذا و ذاك احترام تام لتفكير و نباهة المتلقي و ذلك لارتباطه بظاهرة الحذف، والتّقدير والتّأويل. و إن كان المحدثون عكس الأقدمين، قد فرّقوا بين مصطلح الاضمار، على أساس أنّه الاخفاء. و مصطلح الحذف على أنّه القطع.
فإذا كان هذا في كلّ الإبداع العربي بمختلف أجناسه، و أنواعه، و تشكلاته.. فهو أوثق ما يكون صلة، و بنيوية بسرد حديث، ألا و هو : ال ( ق ق ج)، التي من خصائصها البلاغية، و بنيتها التّركيبية: التّركيز، و الإيجاز، و التّكثيف اللّغوي، خدمة و محافظة لقصر الحجم.. و كلّ هذا لا يتحقّق بوضع الظّاهر من اللّفظ موضع المضمر, بل على العكس من ذلك ينبغي الاحتفاء بالمُضمر ما سمح بذلك السّياق ( contexte) .
و أهمّ المضمرات، الأسماء، فالقاعدة البيانية، لا تسمح بتكرار الاسم ثانية كقولك مثلا :” أتمت فاطمة القصّة، و نشرت فاطمة القصة” و الأفضل توظيف الضمير المناسب : ” أتمّت فاطمة القصّة، و نشرتها” أمّا تكرار الاسم وفق الأقانيم البلاغية (3) لا يكون إلا لضرورة تستوجب ذلك لوضعه موضع المضمر و من ذلك: ذكر الاسم ثانية لتقرير و تمكين، أو لتعظيم، أو إهانة و تحقير، أو إبعاد للخلط و اللّبس، أو لبث الهيْبة و الرّوع، أو تقوية العزيمة، أو التّوسل، أو التّنبيه، أو التّعميم .. أمّا في هذا و غيره، فينبغي تعويض الاسم بالضّمير، و يُصبح الاسم مُضمرًا كالذي نجده في نص (الحصاة) للقاص أحمد بوزفور.
أوّلا : لنتأمل الضّمائر المتصلة و تعويضها للاسم فيما وُضع بين قوسين :

” غدا سأذهب إلى البحر، و أقذف (فيه) (بهذه) الحصاة، (ورثتها ) عن أبي الذي (ورثها) عن (أبيه) الذي ..أعرف (أنّها) مجرد حصاة. و لكن أبي كان (يقبّلها) كلّ مساء قبل النّوم، و (يعيدها) إلى الصّندوق الخشبيّ. (فيها) سرّ الشجرة، كان يقول: و علي أنا أن (أقبّلها) كلّ مساء، و أن (أحفظها)، و أن ( أورثها) لولدي.
غدا سوف أذهب إلى البحر، و (ألقي) (عنّي) (هذه) الصّخرة. ”
ثانيا : فضلا عن الضّمائر المتّصلة هناك الضّمائر المُضمرة التي تعود على السّارد [ سأذهب، أقذف، ورثتها، أعرف، أذهب، ألقي، عنّي ] = أنا/السارد .
[ورث، يُقبل يُعيد ،كان، يقول،] = هو/ الأب .
[أُقبل، أحفظ، أورث ] = هو، قول يعود إلى الأب.
ثالثا: لنتأمل إضمار المَدلول.
ــ (فيها سرُّ الشّجرة ) أيّ شجرة؟ هل أفصح السّارد و عرّف الشّجرة؟ لا ، لقد سكت عن ذلك، و أضمر التَّعريف، لأنّه يدرك أنّ المتلقي من خلال السّياق سوف لن يذهب خيالُه بعيدًا بحثاً عن نوع الشّجرة، و ما مدى علافتها بالحصاة، ما دام هناك مؤشر: ( Indice) لافت في النّص : (الحصاة، (ورثتُها ) عن أبي الذي (ورثها) عن (أبيه) الذي..) إذًا، هو يقصد شجرة العائلة. و كما سكت مُضمرًا الإفصاح عن الشَّجرة، سكت مُضمراُ العلاقة بين الشّجرة و الحصاة. و ترك المجال فسيحاً لخيال المتلقي و نباهته.. بعد أنْ ترك مؤشرًا آخر: (و لكن أبي كان يقبّلها كلّ مساء قبل النّوم، و يعيدها إلى الصندوق الخشبي .. كان يقول : وعليّ أنا أن أقبّلها كلّ مساء، و أن أحفظها، و أن أورثها لولدي).
إذا، يُفهَم من ذلك أنّ الحصاة كانت تحظى بحالة سميائية من وهْمِ التّقديس، و التَّبجيل المتوارث عبر السنين. فهي بمثابة تميمة، (Amulette) وأيقونة (icône ) عائلية. و كما وقع الصّمت عنها، و إضمار حقيقتها، إلا من مؤشرات تلمّحُ لحقيقتها.. يأتي اضمار المدلول في خرجة النّص : (غدا سوف أذهب إلى البحر، و ألقي عنّي هذه الصّخرة.) السارد و قد انتهت إليه الحصاة إراثة، قرّر الذّهاب بها إلى البحر، و التّخلّص منها. و السّؤال لماذا؟ والحصاة لها كلّ هذا التّبجيل، والتّقدير، و التّقديس المتوارث جيلا بعد جيل ؟! يوضح السّارد في مؤشر تقريري سابق فيقول : ( أعرفُ (أنّها) مجرّد حصاة).
إذًا، السّارد اعتزم أن يضع حدّا لتوريث طوباوي خرافي لا جدوى منه. شكّل عبئًا و هاجِساً ثقيلا.. لذا جعل من الحصاة صّخرة : ( ألقي عنّي هذه الصّخرة )

و في نص للقاص إسماعيل البويحياوي تحت عنوان ” طوفان’ من مجموعته: ( قطف الأحلام ).
” حكى حارس المقبرة أنّه يرى في اللّيل عجبًا. الأموات يحتشدون أمام قبر مؤرخ الإمبراطورية. يخرج إليهم خجلا. يعتذر منهم. و بيقين المؤرخ الذي لم يعد رسميا ، يمحو وقائع الزّيف الضّاجة في مؤلفاته، و يدون حقائق لا يدركها سوى من ذاق طعم دار البقاء. ”
النّص عولج معالجة إضمار، فاستعين على عدم تكرار الأسماء بالضّمائر:
ــ حكى = هو ـــ حارس المقبرة.
ــ يخرج = هو ـــ المؤرخ.
ــ أليهم = هم ـــ الأموات.
ــ لا يدرك (ها) = هي ـــ الحقائق.
ــ ذاقَ = هو ـــ الميت.
إذًا، كلّ هذه الأسماء أصبحت مضمرة، ينوب عنها الضّمير المناسب، سواء المتّصل أو المضمر. حتّى ما سها عنه القاص في جملة ” بيقين المؤرخ الذي لم يعد رسميًا ” و الأحسن إضافة الضمير بُعدًا للالتباس فنقول: “.. الذي لم يعده رسميًا ” بعودة ضمير الهاء على المؤرخ .
و في غير هذا تتضح مضمرات المدلول التي تنكشف وفق ما تثيره جمل النّص من أسئلة :
ــ لماذا يحتشد الأموات أمام قبر المؤرخ بالضبط ؟
ــ لماذا يخرج إليهم المؤرخ خجلا؟
ــ لماذا يعتذر منهم ؟
ــ لماذا يمحو وقائع الزّيف الضّاجّة في مؤلفاته ؟
ــ لماذا يدون حقائق لا يدركها سوى من ذاق طعم دار البقاء. ؟
أسئلة تبدو بسيطة و لكنّها حبلى بمضمرات : أخلاقية ،واجتماعية، و سياسية ، و إيديولوجية، و ثقافية .. لم يصرّح بها النّص، فهي من مضمراته التي تبقى لنباهة المتلقي و استنتاجاته..

إنّ بنية ال (ق ق ج) و خصوصية حجمها، و ايجازها، و اختصارها، و تركيزها .. يفترض الإضمار و الحذف، الإضمار بمعنى الإخفاء، و الصّمت عن ذكر أشياء قد يلهم بها السياق أو يلمح إليها. و اجتناب التّصريح و التّقرير بكُنهِ الفكرة.. كما يفترض الحذف بمعنى القطع و اجتزاء ما يُشكل اطناباً و حشوًا لا يَخدم الفكرة و صياغتها فنّيا. و لكن المسألة أسلوبية، و ليس من السّهل اقتناؤها كَتقنية. بلْ تستلزم دراية بلاغية/ أسلوبية، و ممارسة دؤوبة مستمرة، و حَسْبُ ال (ق ق ج) انتعاشًا، ما قرّره النّحويون بخصوص الإضمار والحذف. إذ حدّدوا عدّة خصائص تخدم النص الإبداعي عموما، و منه بنية ال (ق ق ج) بتوظيفهما فنّيا و منها : (الاتّساع، والإيجاز، والاختصار، وكثرة الاستعمال، وطلب الخفّة، واستقامة الكلام..) و هذا من بين أهمّ ما يدعو إليه النّقد في هذا المجال.

* مسلك *

1 ــ سليمان (فتح الله أحمد): الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية، الدار الفنية للنشر والتوزيع.
2- ضيف (شوقي): المدارس النحوية، دار المعارف، القاهرة، ط(4)، 1979م
3 ــ القزويني (الخطيب): الإيضاح في علوم البلاغة، دار الجيل، بيروت- لبنان

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!