مساءً، بينما غابت الشمس تاركة وراءها خيوطًا من الدُّخان البرتقالي، انسلّ “بوشتى” من كوخه المعتاد، تاركًا خلفه صمت المكان الموحش. خطواته الواثقة، كطبلة عسكرية، تُقرع رصيف الشارع الخالي، تاركةً وراءها صدىً يتردد بين الأزقة الضيقة. وجهه، كالقمر في ليلة اكتمال، يُشعّ نورًا خافتًا، بينما عيناه، كجمرتين متقدتين، تُراقبان العالم من علٍ، لا تفوتهما حركة عصفورٍ أو همس ريح.
كان “بوشتى”ضخمًا، كجبلٍ من العضلات، يملأ طريقه بِكُلِّ ثقله. شعره الأسود،كغابةٍ كثيفة، يغطي رأسه، بينما لحيته الكثة، كأنهارٍ من الفضّة، تتدلى على صدره العريض. سار “بوشتى” نحو مقهى “النورس”، ملاذه الوحيد بعد يومٍ طويلٍ من العمل في الميناء.
عند مدخل المقهى، توقف صاحبنا للحظة، ليتأمل الوجوه المألوفة، كُلٌّ منهم غارقٌ في همومه، يرتشف قهوته بصمتٍ أو يتبادل أطراف الحديث مع جليسه. لم يكن “بوشتى” يشاركهم أحاديثهم، فكان يفضل الجلوس وحيدًا في ركنٍ هادئٍ، يُراقب حركة رواد المقهى من بعيد، وبين الفينة والأخرى، كان يشرئب بعنقه ليستطلع حركة الشارع.
في تلك الليلة، جلس “بوشتى” على كرسيه المفضل، طلب قهوته المُعتادة، وراح يُدخّن غليونه القديم، وبينما كان غارقا في تدخينه، سرح بخياله بعيدًا، مُتذكرًا ذكريات الماضي، أيام كان فيها شابًا قويًا، يعمل في البحر، يُبحر من ميناءٍ إلى آخر، يواجه المخاطر بشجاعة، ويغرف من كنوز الدنيا بسخاء، ويقطف من أزهار الحياة أشكالا وألوانا.
لكنّ الزمن لم يُبقِ من “بوشتى “سوى جسدٍ ضخمٍ ونفسية محطمة مهزوزة. رحل أصدقاؤه عن الحياة الدنيا واحدًا تلو الآخر، وبقي هو وحيدًا، بلا عائلةٍ ولا أصدقاء. لم يكن حزينًا على وحدته، فقد اعتاد عليها، لكنّه كان يشعر أحيانًا بفراغٍ كبيرٍ في قلبه.
في تلك اللحظة، لفت انتباه “بوشتى” صوتٌ خافتٌ يناديه عن كثب. نظر حوله، فوجد فتاةً صغيرةً جالسةً على طاولةٍ قريبة، تُلوّح له بيدها الصغيرة، فابتسم ابتسامةً عريضةً، وقام من مكانه وتوجه نحوها.
كانت الفتاةُ جميلةً، كزهرةٍ بريةٍ نبتت في صحراء قاحلة. عيناها الواسعتان، كبحيرتينٍ صافيتين، تُشعّان بِبريقٍ خاص. سألته الفتاةُ عن اسمه، فأجابها بصوتٍ خافتٍ: “بوشتى”.
ابتسمت الفتاةُ مرةً أخرى، وقالت: “أنا اسمي “نور”، جئتُ مع جدتي هنا لأول مرة”. نظر “بوشتى” إلى جدة الفتاة، فوجدها امرأةً عجوزًا طيبةً، تُراقب حفيدتها بحنانٍ وعطف.
في تلك الأمسية، جلس صاحبنا مع نور وجدتها، وتحدثوا مع بعضهم البعض لساعاتٍ طويلة. روى لهما قصصًا من مغامراته في البحر، وقد أصغت “نور” إليه باهتمامٍ شديدٍ، وشعرت بالسعادةِ والسرور، فهي لم تقابل شخصا مثله من قبل.
في نهاية ذلك اللقاء، ودّعت “نور” وجدتها هذا الشخص الفريد من نوعه، ووعدتاه بزيارته مرةً أخرى. شعر “بوشتى” بالسعادةِ لأول مرةٍ منذ زمنٍ طويلٍ. لم يعد يشعر بالوحدةِ، فقد وجد صديقةً جديدةً تُدخل البهجةَ إلى قلبه، وقال في نفسه “رب صدفة خير من ألف ميعاد”.