يُطل الفجر ناشراً ثوبه الأبيض وسط صياح الديكة الذي يتعالى في تناغمٍ جميل. تخرج رؤوسهم من تحت الثياب المنشورة بموازاة البيوت الخشبية. يلتقط منشفته وقد أزاح بيده الستار المثبت أمام مدخل غرفته. يؤدون الصلاة في نظام يحاكي في دقته وانسجامه النظام الحياتي للنمل. أول شيء يقوم بعمله قبل أن يذهب للموقع هو أن يدس تلك القلادة في جيبه.
يتزايد ارتفاع الشمس في حلق السماء، تسلط سياطها على ظهور الناس والبيوت والسيارات. نلمحهم على امتداد الشوارع والطرقات وفي جوف الأزقة يذوبون فيها يلونونها باللون الأزرق والبرتقالي، يمشطون أفراح الناس وأحزانهم .. يقرؤون تاريخهم اليومي في حاويات القمامة. وحده لا يعنيه ذلك. كل ما يدور بخلده هو أن تشفى أمه. إنه ينتظر رسالة مهمة من أخيه يطلعه فيها على آخر الأخبار.
منذ أن قدم إلى هنا قبل أربعة أشهر وهو يواصل الليل بالنهار حتى يتمكن من إرسال ما يعينهم على كل شيء.
* * * * * *
يعود بعد أن تتوسط الشمس كبد السماء على موعد مع البهارات في وجبة متواضعة مكونة من الخضراوات المزروعة في المساحات الفاصلة بين البيوت. يتناول الطعام مع رفاقه ، يحدوهم ضجيج أحاديث لا تنتهي عن غد ينتظـرونــه.
* * * * * *
يبدأ نصف يومه الآخر متأبطاً مكنسة صغيرة، معلقاً على ساعده دلواً عثر عليه في مخلفات عمارة تحت التشطيب . يبدأ غسل إحدى السيارات وهو غارق في التفكير .. يتذكر أمه المريضة .. يتذكر أخاه ( ياسين ) الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته ويتذكر فتاته التي خطبها قبل أن تلقي به الأيام في براثن الغربة.
يغرق ، لكنّ عينيه تظلان طافيتين تراقبان المكان توجساً من وجود سيارة زرقاء أو خضراء. يقطع عليه ذلك الصوت الأجش حبل تفكيره وهو يطل من إحدى نوافذ ( ڤلته) :
– “صديق .. ما في ينسى يغسل حــوش” .
يتكرر المشهد ست أو سبع مرات قبل أن يعود إلى بيته محملاً بأوساخ السيارات ووعود أصحابها. تقفُ المرآةُ أمَامَه، تحدق في وجهه الكالح ثم تتحولُ عنه وتتركه يرتمي تحت الدش .. كل ما يحتاجه هو الماء.. الماء فقط.
أربعة أشهر وهو يمارس الذوبان في الماء. استطاع أن يغسل كل شيء إلاّ كِلْيَتَي أُمِّـه .
* * * * * *
بسط الليل ثوبه الأسود . وسكت المكان إلا من أصوات صراصير الليل وشخير المتعبين . يثني جسمه الطويل على شكل قوس قد أنهكه وخز السهام.
يغط في نوم عميق وهو يحتضن قلادة معدنية منقوش في أحد وجهيها سورة (يس) وفي الوجه الآخر صورة أمه ، وراح يحلــُـــــم …