عفيف قاووق – لبنان.
وأنت تقرأ رواية “إلى أن يُزهرالصبّار” للأديبة والشاعرة الفلسطينية ريتّا عودة الصادرة العام 2017 يقفز إلى الذهن السؤال التالي : لو قُيّضَ لشاعرة أن تكتب رواية ما، هل سيكون بمقدورها الفصل ما بين الشاعرة والكاتبة ؟! وهل ستفسح الشاعرة المجال للكاتبة كي تقدّم للقارىء نصّاً روائيّاً مكتمل الأوصاف والأركان؟
وللإجابة على سؤالنا هذا نقول أن الكاتبة نجحت في صنع توليفة متقنة بحيث زاوجت ما بين اللّغة الشعريّة والسرد النثري، وهذا المزج زاد من رونق الرواية وجماليتها. والتي كتبت بلغة مسبوكة ومطعّمة بمفردات شعريّة، وقد وظّفت الكاتبة مخزونها الثقافيّ والمعرفيّ في هذه الرواية، سيّما وانها تميّزت بكتابة ما يُسمّى شعر الهايكو او شعر الومضة، وحازت على جوائز عالميّة عن هذا النوع من الشعر. وهذا ما يفسّر اعتمادها على الجمل القصيرة المكثّفة والخالية من أيّ حشو والمؤدّية لكامل المعنى وجوهره باقلّ الكلمات.
كما نلحظ في الرواية لجوء الكاتبة الى ما يعرف بالتناص، وسأكتفي بالإشارة إلى حالتين من هذا التناص الأولى عندما تناغمت الكاتبة مع أبيات سميح القاسم في قصيدته “منتصب القامة” لتصف “حواء” عندما إلتقت بحياة زوجة آدم فتقول : “منحنية الهامة، مهزومة، أمشي. بينما، تمشي “حياة” منتصبة القامة، مرفوعة الهامَة. في كفـّها قصفة زيتون وفي كفّي أوراقُ ذاكرة مُغتصَبة.
المثال الثاني عن هذا التناص هو قيام الكاتبة بجمع تناصّات ثلاث في جملة واحدة فتقول: ها أنا أمضي إليهِ ممتلئة نعمة، منتصبة القامةِ، راضية مرْضيةَّ.( عبارة تضمّنت ثلاث تناصّات مسيحيّة شعريّة وإسلاميّة). كما أن الرواية شهدت الكثير من الإقتباسات والمقولات لأدباء وشعراء عرب وأجانب، وأيضا فقرات من الكتاب المقدّس.
إضافة لما ذكرناه، فقد أبَت الكاتبة، وهي الشاعرة، إلّا ان تجود على القارىء ببعض قصائدها وومضاتها الشعريّة الهادفة، وسأذكر في هذا المجال قصيدة بعنوان: ” صرخة لا محلّ لها منَ الإعراب” فتقول:
” الى متى
يظلُّ الإنسانُ الصادِقُ ضميراً مُستتَرِا
وتظلُّ الأقَزامُ المُشَبَهَة بالأفَعالِ
تنصِبُ وترفعُ مَا تشَاءُ
متى تشَاءُ ..؟!”
قصيدة بالرغم من قلّة كلماتها، إلا انها في مضمونها تشكّل صرخة إعتراضيّة على هذا الركود ودعوةً للتمرّد والإنطلاق. وكما ورد في الرواية مقولة: اللسّانُ الذي لا يستطيعُ أن يقول: “لااا..ليس لسان إنسان”.
وكما أن الكاتبة لم تستطع التحرّرمن شاعريّتها في كتابة الرواية فإنها أيضاً أبت إلا أن تدلوَ بدلوها بصفتها “ريتا عودة” فاستعارت لسان “حياة” لتدلي بما يشبه المرافعة حول مفهومها للكتابة وموقفها من النقاد وانحيازها للقراء. فتقول:”منذ نعومة حبري، كانت نصوصي مُلفتة للإنتباه، وُلدتُ ووُلدتِ الكتابة معي من ذات الرّحم. والكتابة تمنحني الشعورَ اليقينيّ أننّي شريكة في عمليّة الخلقِ، لكن من فئةِ الإبداع، واللّغة تمنحني المزيدَ من المفاجآتِ اللّغويّةّ كالصـور الشِّعريّة والعباراتِ المبتكرة كعبارة: “أحبّك بالثلاثة” أو عبارة: “العاشرة عُشقا”، أو” في الثاّنية عشرة من منتصفِ الحُلم” وغيرها الكثير من العبارات أو الإنزياحاتِ اللّغُويةَّ التي طاب لي أن أسمّيها بيني وبين نفسي: “عباراتٌ حياتيّة ” أي أنّها تخُصُّني أنا… “حَياة”، وكثيرا ما كانت انزياحاتي اللّغويةّ تدُهشُ قارئي.
ثم تنتقل الكاتبة ريتا عودة للإفصاح عن قناعاتها وثوابتها التي تؤمن بها، حيث ترى ان “العديد مِن الأصواتِ تجيدُ فنَّ التنازلاتِ والمُجاملاتِ، وتضمنُ للإنتهازيين فرصةَ الوصولِ إلى المنابرِ التي رفعتهُم إلى أبراج المَجدِ الوَهميِّ الزائفِ الذي لن يسجّله التاريخ، بل سيودي بهم وبما كتبوا إلى الفرَاغ”.
نتيجة لتمسّكها بثوابتها تلك، ولكونها كما تقول لم تعتنق المجاملات السخيفة، لم يأتِ تقييمها كأديبة من أيّ ناقد لكنها تعوّل على قرّائها -الذين زاد عددهم عن الألف- فتقول: “تقييمي الحقيقيّ الموضوعيّ يأتي من قارئِي”. أمّا النقُاّد فقد خاطبتهم بومضة : “إقرأ ملامح القصيدة لا ملامح وجهي.”
وهنا نسأل الكاتبة وأنفسنا عن المبرّرالذي دفعها للزّج بهذه المرافعة أو النبذة الموجزة من سيرتها الذاتية، هل هو نوع من النرجسيّة المفرطة أم دفاع وإشهار مظلوميّة ما طالتها من بعض النقاد أو معظمهم لتقول ما قالت؟!. ويبدو ان الكاتبة قد تنبّهت لهذا التساؤل، لذا نجدها تقول : “قد يتّهمُني البعضُ بالنرجسيّة، هذه التهمة التي وُصِم بها الأدباءُ على مرِّ العصُورِ. لمَ لا..؟ إن لم يُدهشني النصّ الذي أكتبُ أنا قبلَ قارئي، كيفَ أضمنُ أن يلمسَ قلبه ويصله وهو في كاملِ اللهفة للغوصِ في المحيطاتِ التي أقُدِّمُهَا لهُ.”.؟
بالعودة الى الرواية ومفاصلها، فقد بدأت بالإستناد إلى حكاية خالدة متفق عليها وهي حكاية آدم وحواء التي خُلقت من أحد ضلوعه واللذيّن سقطا في فخ الغواية الذي نصبه لهما الشيطان وأطعمهما من “أرغفةِ الحيرة ومن مياهِ الغيرة، فأصِيبـا بلوثة عاطفيّة انتهت بقرار التفريق بينهما وهبوطهما إلى زنزانة كبيرة بحجمِ كوكب تسُمَّى “الأرض”. ليدخل كلّ منهما في دوامة البحث عن الآخر، في محاولة لإستعادة الحلم بلقاء يغلّفه العشق الذي “لا يكون عشقاً إلّا حين تكتملُ الدائرة بعودةِ حواء إلى القفص الصدريّ لآدم.. حيثُ الحنان.. حيثُ الأمان”. وقد ارتكزت الكاتبة على هذه الحكاية لتقدّم لنا روايتها بموجب حكايات ثلاث تولّى سردها كلّ من:
آدم: الشاب الفلسطينيّ والمناضل في سبيل قضيّته المحقّة، والذي تزوّج من حياة وأنجبا ابنتان هما أمل وأحلام.
حياة: الفتاة المسيحيّة التي تزوّجت آدم المسلم.
حواء: المرأة -الرمز- التي تبحث عن آدم ولا تلتقي به إلا ساعة اعتقاله.
عدّة محاور أو قضايا تنوّعت ما بين الدينيّ، الإجتماعيّ وحتّى السياسيّ والوطنيّ. أثارتها الرواية وسنحاول الإشارة إلى هذه القضايا أو بعضها قدر المستطاع.
بداية حاولت الكاتبة تقديم رؤيتها وفهمها للدين وللعلاقة الواجب قيامها بين الله والفرد، مشيرة إلى أن
الله برئٌ مِنَ الدَّمِ الذي يُسفكُ في كلِّ مكان باسمِ الدينِ، فالبشَر اقتتلوُا على الرُّسلِ، أيهّم أعظم، لقد اختلفوا عَلى العطِيـّة، وَنَسوا المُعْطِي. وتقاتلوُا عُلى المُرْسَل، وَنسُوا المُرْسِل. وانطلاقا من هذا تطرّقت الرواية إلى قضيّة إشكاليّة وخلافيّة تتمثّل في زواج المسيحيّة من مسلم. فالفتاة المسيحيّة ستجلب العار على العائلة، بعدما وقعتْ في عشق ِ شابّ مُسلم! حتّى ولو جمعهما حُبٌّ لذات الإله خارج قمقم التديّن ومظاهر التقوى. وتذكر بأن الله حين خلقَ آدم لم يقلْ له: أنتَ مسيحيّ أو أنتَ مُسلم، إنمّا قالَ له أنا الله فاعبـُدني. وتعزو سبب رفض والدها لهذا الزواج لا يتعلّق بالدين البتّة إنّما ينبثقُ مِن خوفهِ مِن “كلام الناس”.
كما تشير الرواية إلى ضرورة أن تخرج المرأة من شرنقة التقاليد والخوف، لذا نجد “حياة” تعلن ولادتها من جديد بعد أن انتصرت على نقاط ضعفها وتعويذة والدها: “إمشي الحيط، الحيط، وقولي يا ربّ السُترة”، وتحذيرات والدتها: “بوسي يدّ الكلب وادعي عليها بالكسْر.” فهي لا تريد أن تكون نسخة عن والدتها التي غادرتْ من بيت أبيها لبيتِ زوجها. لمْ تعْصِرْها الحياةُ ولم تنُمِّي أجنحتهَا كي تحلّق معَ النسُّورِ. دجاجةٌ خنوعةٌ كانت، انتقلتْ من قنٍّ لآخر وهي مُشبعةَ وَمُقتنعةَ بفكرةِ أنّ دورَها في الحَياةِ يتلخّصُ بالتفانِي في الطّبخ والمَسْح وإزَالةِ الغبُارِ. لمْ تقرأ يومًا كتاباً، لمْ تشاهدْ يوماً برنامجاً ثقافياً.
كما تدعو الكاتبة بلسان بطلتها حياة أن ترتفع المرأة فوقَ كلِّ خيط قد يشدّها للأسفل. هذا الخيط قد يكون المجتمع القادرعلى تكبيلها.قد يكون الأهل أو الزوج أو أيّ شخص أو عنصر ما من المحتمل أن يشدّها إلى الأسفل، لكنها ستجتهد لترتفع فوق الخيط وتُحلقّ كما النسّور التي تعرف كيف تستغلّ العاصفة.
لم تغب المعاناة التي يعيشها ما يسمى ب عرب 48 ومحاولة تغييبه عن جوهر القضيّة الأساس، تقول حياة: “أنا المُغيّبةُ عمداً عن المشهد السياسيّ، وأنا نتاجُ عائلة تأكلُ خبزَهَا بعَرَقِ جبينها ولا تتحدّث في الأمور السّياسيّة إطلاقا” ولذا كان خجلها وجهلها بادياً عندما اعترضَ آدم طريقها، وهو يناولها منشورًا حول “يوم الأرض”. هذه الأرض التي شَكَّلتْ ولا زالت مركز الصراع، بالرغم من سياسات المصادرة ومخطّطات طمس الهويّة الوطنيّة. وهنا تذكر حياة مفارقة يجب التوقّف عندها حيث تقول أنها في إحدى زياراتها لعمّان، احتارت ماذا تكتب في خانة القوميّة على الورقة الواجب تعبئتها. فتركتها فارغة لتقوم موظّفة الإستقبال بتعبئة الفراغ بتعبير “عرب48” ولكن حدث عكس هذا تماماً عندما زارت طابا حيث تناولَ الضّابطُ المصريّ قلماً وشطبَ التعبير: “عرب 48″، وسجّل على كلّ بطاقة:”إسرائيليّ ” مفارقة يجب التوقّف عندها لما لها من دلالات.
وعن محاولات طمس الهويّة الفلسطينيّة من قبل المُحتلّ، تذكرحياة كيف استنكرَ أحد الأدباء اليهود تعّبير “شاعرة فلسطينيّة” كما جاء في السيرة الذاتيّة في ديوانها الشعريّ الذي قدّمته له، وكانَ انتقادُه كالتالي: “أنتم الأدباء عليكم مسؤوليّة بثّ روح التفاهم والتسامح والسلام في اسرائيل”.
وجهٌ آخر من أوجه المعاناة التي تطال فلسطينيّي الداخل والتمييز الواضح في معاملتهم على المعابر كأنّهم “قنابل بشريّة موقوتة مُتحَرّكة”. وإضطرارهم للإنتظارساعات للسماح لهم بالدخول بينما اليهود يعبرون عائدين بسيّاراتهم ” للوطن” كما تعبرُ العصافيرمن مكان لآخر دونما معوّقات. وبعبارة واحدة تختصر المشهد كله تقول حياة : بدأتُ أعبرُ الشارع الفاَصِل كَحَدِّ السيْفِ بينَ الحيّ العربِيّ المُهمَلِ عبرَ سنواتِ الجفافِ، والحيّ الآخَر المزْروع بالجَنّة.
وفي إشارة لا تخلو من بُعدها السياسيّ، تشير حياة إلى تلك الإعلاناتِ المَصْلوُبّة على أعمدةِ الكهرباءِ الداعية للمحافظة على نظافةِ مدينة حيفا. فتبتسم ابتسامة شاحبة وساخرة في آن، وتسأل في سرّها إن كانت المدينة حقّا نظيفة. هذا السؤال برأيي هو أبلغ موقف لما تشهده المدينة من انتهاك وتشويه.
لقد أظهرت الرواية آدم زوج حياة بصورة المناضل الذي اعتقل بسبب نشاطه السياسيّ، بعد رفضه التعامل مع المُحتل وهنا تصف حياة قرار إعتقاله بأنه “كان مُتوَقّعاً على خلفيّةِ العنصريّة المُتفشيّة في إسرائيل، لكنْ لنْ ننكسر. معنويّاتنا مرتفعة، فالسِجن ليس نهاية القضيـّة. قد يسجنون الجسد، أمّا الأفكار والمبادئ والحقوق الشرعيّة فمستحيل أن يتمّ سجنها أو طمسها”. وتُكمل فتقول: “شجرةُ البرتقال تعرف غارسَها. وتبادلهُ حُباًّ بحُبّ. زهرةُ الصبّار، مهما اقتلعَتهَا يدُ الاحتلالِ، تعودُ وتعلنُ عن وجودها. نحن سكَّان البلادِ الأصليّين، ما زلنا شوكة في حلوقهم، وقطعة زجاج في حناجرهم ولن نكون الهنود الحمر”.
تُنهي الكاتبة روايتها بعثور حواء على آدم، وهو المعتقل، وكأن الكاتبة أرادت القول أن حواء- الرمز- وقد تكون هنا فلسطين ذاك الضلع الذي انتُزِع من جسد الأمة، ولن يعود إلى الجسد إلا بالتضحية والصمود. ويكتمل المشهد الفلسطيني الذي يشبه مثلّث قاعدتـهُ فلسطينيّو الـدّاخل وأحدُ ضلعيهِ المُتساويـيَـنْ فلسطينيّو الشتات، والثاني فلسطينيّو الضَّفة، والرهان يبقى على التمسّك بالأمل والحلم، وكما جاء في الرواية: “الحلم طُاقةُ بقاء. أمَّا هؤلاء، العاطلون عن الحُلم، فما هم إلا توابيت بصمت تسيرُ إلى المـقابـرِ”.
ختاماً مبارك للأديبة ريتّا عودة هذا الإصدار، وكما جاء في إهداء الرواية فإن “حَتمِيّة التاريخ التي عَلّمتـْنَـا أنه مَهْمَا اشْتدَّ الليلُ حُلكَة فإنَّ الفجْرَلا بدُّ آت”. فإننا سنبقى نحلم معها بأن يوماً ما لا بدّ وأن يزهر الصبّار.