بروتوس وأنا/بقلم:هناء عبدالله سالم( اليمن)

على مسافة ستة أقدام كنا نقف في مواجهة لم تكن في الحسبان، عقب شجار بلغ ذروته بيني وبين صديقي الذي تحول لون وجهه للأحمر, واكتسبت تجاعيد ملامحه خطوط شر إضافية وكأنما نبتت للتو , كانت سبابته تلك التي لوح بها منذ لحظات , مازلت معلقة في الهواء تشير نحوي , بحركة تنم عن تهديد , سادت بيننا لحظة صمت , أضحت كدهر في ثوانيها المعدودة , من هول الصدمة ، تسمرت في موقعي ، واقفا بلا حراك، كمن تعطلت كافة حواسه وفقد الإحساس بكل ماحوله ،فيما كانت عبارة تهديده الأخيرة تتردد في رأسي .

لما أدرك صديقي تعثره في قراءة ملامحي و أحس بالهزيمة , تراجعت يده بتباطئ وأنزلها وظل يراقب بنظرة خاطفة ، في نفس الوقت باغتتني انتفاضة سرت في جسدي وكأنما الدماء تدفقت في عروقي ثانية , أحسست بنغز في الجزء الأيسر من صدري , وجع أظنه أقرب لمن يتعرض لطعنة في القلب , شئ ما في جوفي يتقطع أو ربما يحتضر , الأمر أشبه بمراسم عزاء اشتعلت بداخلي بعد انطفاء أخر أنفاس لعهد صداقة عمرها عقود , ستة أقدام كانت تفصلنا عن بعضنا , أما أنا فكنت أعلم أن المسافة الفعلية قد تحولت بيننا إلى مسيرة ألف عام.

تراجع صديقي إلى الخلف أكثر والقى بجسده على كرسيه العتيق , أسند راسه على ظهر الكرسي فاردا ذراعيه النحيلتين , ومد بساقيه إلى الأمام ، هدوء مخيف خيم في أرجاء حجرة مكتبه الكبيرة ، حتى تخيلت أني لم أعد أرى تنفسه ، فهممت رويدا بالاقتراب منه , لكن صوت همس مجهول أوقفني .

تراجعت خطوتي وبت أتلفت حول ديكور الحجرة التي تحتضن أربعة تماثيل منصوبة، تخيفني فكرة أن يكون مصدر الهمس آتيا من إحدى تلك التماثيل المريبة ، لم تكن حجرة عادية ، كانت مصممة كمتحف صغير يضم عشرات القطع الفاخرة ذي الطابع الأثري، إضاءتها صفراء باهتة ، حوائطها الزرقاء البراقة منقوشة بورود ذهبية كبيرة بعضها ذات حواف عريضة ورفيعة ، وفي أنحاء الحجرة تتوزع تماثيل متقنة النحت في تفاصيلها فتمدك بشعور بأنها كانت في الأصل تدب في صلبها الحياة ، ولاتطيق الانتظار أطول كي تنفخ فيها الروح مجددا.

أحدهم لفتاة بجسد جميل وقوام مغري ، عارية الكتفين عدى من نصف أكمام منتفخة تغطيان ذراعيها إلى الرسغ ، ترتدي فستان مطرز يعود إلى العصر الفيكتوري وتحمل بيدها سلة زهور وبيدها الأخرى ترفع طرف ثوبها ليكشف عن ساقها المتناسقة ، أما الجزء الأبشع يكمن في امتلاكها ثلاثة وجوه ،
في المنتصف وجهها البشري الحسن وعن يمينها ويسارها كان لراسي ذئب فاغر فكيه معصب العينين .

في الزاوية المقابلة يوجد تمثال لغزال جريح جاثيا، يتبين في وركه إصابة من سهم ويلمح في عينيه دموع متحجرة , وكان التمثال الثالث يعود لكيوبيد، ذلك الصبي ملائكي السحنة، يقف عاريا يحمل بيديه قوس وسهم ،وبالكاد تستر عورته رقعة قماش، إلا أن ظهره له جناح واحد ولاأثر لوجود الآخر , أما التمثال الرابع كان معلق على الحائط ، في هيئة رجل مصلوب يحاكي تلك الرواية المنسوبة للسيد المسيح , بجانب التمثال خزانة زجاجية وضع بداخلها مقتنيات حربية بعضها أثري وأخر عصري ، وكان واضح أن أحد الأسلحة قد أنتزع تاركا فراغ في موضعه ، أتذكره جيدا ، مسدس مستورد بميزة كتم للصوت .

لم يكن صديقي يمتلك ذوق رفيع المستوى وكان شغفه بعيدا عن اقتناء التحف ، لم يكن ليحلم بهذا الفن الذي اختزله في حجرة مكتبه , لولا سمع ذات مرة على لسان زميل قديم مشترك لنا؛ يعمل مهندسا، راح يشاركنا أحلامه مستقبلا .

لم تمضى سنوات حتى تحقق الحلم بتفاصيله ، وكم أدهشني أن صديقي قد حفظها بتلك الدقة , لقد ظفر بتحقيق حلم لايعود له ، يعيش حلما لا يخصه , إنها لمأساة أن تشاهد أحلامك قد حطت في مرسى غيرك .

أدركت أن سرقة الأحلام هو الشيء الذي لا يمكن استرداده و أن بعض الأحلام، إن لم يكن كلها ، يجب أن تبقى سرا ، في طي الكتمان ، لاسيما أن حولنا لصوص محترفين برداء أصدقاء وأحبة .

لمع في ذاكرتي طيف الزميل القديم و كأنه انبثق من جهة ما من الحجرة و بملامح تشي بحزن ، انصهر طيفه صوب التمثال المصلوب.
من صلب ! أأحلامه أم هو بذاته؟!

انطلقت تنهيدة متعبة من ناحية صديقي ، التفت إليه وجدته قد طأطئ رأسه و بصوت باكي قال:
أنا أسف، أسف ياصديقي
ثم أشعل سيجارة وراح يتنفس دخانها الكثيف ، استنشق وزفر وكرر بتعمد حتى تكونت حوله غيمة من الضباب كمن رغب في أن يختفي دفعة واحدة ويتلاشي معها ، وما أن تفككت حتى بادر بالحديث ولكن على خلاف المرة السابقة ، قال بتخبط وبنبرة منكسرة : أنا وغد.

كان مشهد سريالي مفاجئ ، شعرت بالشفقة حياله , وددت احتضانه، قادتني العاطفة إلى خيالات تداعت و تجمعت حولي كل صور الذكريات وأصوات الضحكات العالية ، مواقف الجد والمرح ، سنوات العمر الماضية حضرت بلؤم مباغت ، ثم تبخرت كل المشاهد أمامي ، تحولت إلى مربعات متكسرة اختفت حتى انتهت معها أصواتنا وضحكاتنا بالتدريج.

أصارع شعور متخالف بين حسن الظن و ضرورة أمن المكر , من جانب يدفعني شعور إلى تصديقه وجانب أخر حدسي يوصيني بالتريث ، لأن ما تكنه الصدور يظل غامضا ، وما تبح به لحظة الغضب يكشف خفايا من الصعب تجاوزها بسهولة.

قاطعني حديثي مع نفسي ظهور بارز للوحة معلقة أعلى الحائط ، ترتفع بمسافة عن كرسي صديقي ،اللوحة تصور لحظة اغتيال الملك يوليوس قيصر من قبل المتآمرين عليه من بينهم صديقه الذي وجه له طعنه غادرة ، فقال عبارته الشهيرة:
حتى أنت يا بروتوس.

لطالما كانت نظراتي عابرة لتلك اللوحة ، لكن اليوم بدت وكأنها اندفعت من صدر الحائط لتبعث رسالة تحذير وتبلغ : أنا هنا يا هذا .. هنا بروتوس.

العبارة مازالت تترنم في ذهني ، وبأعماقي صوت يعلوا بالصراخ بها ، تتفاعل ملامح وجهي وينعقد حاجبي أكثر مع كل صرخة : حتى أنت يابروتوس ..حتى أنت يابروتوس..يابروتوس حتى أنت.

على غرة , كتم الصوت بداخلي ما أن نطق صديقي :هل تسامحني؟

تنبهت حينها وقد نهض من مقعده ، يقف أسفل اللوحة المعلقة ، ينتظر إجابة ،لكنه تبدل على غير ما كان سابقا، وكأنه أستعاد روحه ، زالت عنه ملامح الندم ، كما لو يثق بغفراني له ، أرتبت قليلا ، بروتوس بالأعلى وهو بالأسفل ، تهيأ لي وكأن عنصر إضافي قد ألحق باللوحة الفنية وتجسدا في لوحة واحدة أو شخص واحد.

عاد صوت الهمسة مرة أخرى ، ولا جدوى من البحث عن مصدرها ، إلا أن ثمة تواطأ غريب للجمادات اليوم ، يبدو كإشارات تنبيه ، تخوف ما، المجسمات باتت نظراتها بشرية وكأنها تنذرني : أهرب حالا.

تمثال الفتاة ذو أكثر من وجه ، كيوبيد يوجه سهمه للغزال و المصلوب كان الشاهد، نظرت إلى صديقي وأومأت برأسي له كتعبير عن الموافقة ، ثم أستدرت كي أهم بالمغادرة .

استوقفني صوته وقال بنبرة غيظ وكراهية صدرت من أعماق حنجرته :
يكفي إلى هنا.. كنت أعنيها بأني سأقتلك .. ليس يوما ما ، بل اليوم.

طلقة نارية بلا صوت اخترقتني من الخلف، تبعتها ثانية وثالثة .
لماذا ؟
ألف سؤال لا إجابة له وآلاف الآلام تفتك بجسدي.

آخر صوت سمعته كان صوت أبي الدافئ ، لامست يده المرتعشة جبيني البارد , وسالت دمعة حارة من عينه على خدي , قال بصوت مرتجف يملؤه الحسرة :

لا يفلح الخائن يا بني،إنه الحسد .. يأكل صاحبه كما تأكل النار الهشيم ,إلى جنة الله يا حبيبي .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!