الرِّسالةُ 1
مَرحبًا صُبح.
بالأمسِ استعرتُ ريشةَ عُقابٍ ارفتَّت عن جناحِهِ الأملد؛ علَّها رسالتي لكِ ـ ياصبح ـ تأتيكِ مسحورةً بكبرياءِ عُقابٍ مصلُوب!
حاولتُ ألَّا يصلَكِ صوتيَ مهزومًا، مُتهدِّجًا،
مفزوعًا ،
وَ
فارِغًا منِّي.
تعلمينَ ـ يا صُبح ـ أنِّي أكرهُ الكتابة،
و أنِّي ـ لذاكـ ـ لا أكتبُ إلَّا لأُنقِذَ شيئًا ما ـ هُنا ـ يحتضِر .
هي إذًا محاولةٌ ـ فقط ـ لإسعافِ الداخلِ؛ على شاكِلَةِ تنفُّسِ سطرٍ،
أو مضادِّ دَمعٍ،
أو وَخزةِ بَوح.
لذا أنا الآنَ أكتُب،
أكتُبُ يا صُبح؛
لأنجو.
شيءٌ ما ـ يا صُبح ـ شيءٌ من بقايا مجدٍ مُتخثِّر؛
لكنِّي لم أُرِد لهذا القلبِ أن يموتَ مُتخثرًا بلعنةِ التأريخ.
لاأريدُ لجسدِ الفَجرِ أن يَرفُلَ في الريح كالرُّذاذِ المحروقِ بأنفاسِ طُقوسِ هذا العالَم المَجنون .
لكنَّ ذلك الصوتَ الفصيحَ لا يُبارِحُني ياصبح!
صوتٌ عَرَبيٌ عَريق!
ربَّما هو عِرقٌ مُقدَّس؛
لكنَّهُ يصقُلُ الرُّوحَ كما تصقلُ الرِّيحُ أوراقَ الشجرِ عبرَ الفُصُول:”عربٌ عربٌ، عرَب”
تُهمهم!
مِن باديةِ قلبي تنبعِثُ الآنَ تلك المدائنُ يا صُبح!
(مدائنُ الريح)
أرقبُها وهي تقتلعُ عيونَ الصَّحاري،
و تُمشِّطَ أهدابَ المِلح.
أحتاجُ ـ يا صُبح ـ أن أُعيدَ ترتيلَ الحكاية كما سَمِعتُها أولَ مَرَّة؛
لكنِّي لا أجِدُ من جَريرةٍ للكتابة سوى عروبةِ ابنِ أبي سَلول !
أحتاجُ أن أُعيدَ ترتيبَ الصَّحراء،
أن أقتُلَ الصَّبَّارَ يا صبح .
خدعُونا حين قالوا:” الصَّبَّارُ رُوحٌ مُقاوِمَة”
لم نعِ أنها خطيئةُ صمتٍ،
و موتٌ مجانِيٌّ بأُكذوبةِ صبر.
موتٌ لئيمٌ ذاكَ الذي يموتُهُ الصَّبَّارُ ياصبح؛ يبعثُ لي بالغثيانِ .
تلك الرِّيحُ لا تفتُرُ عن العواء برأسي؛
تهذي بكلام الجاهليين القُدامى:”
” لو سقطَ القمرُ من السَّماء لما اصطادَهُ إلا عُتيبة”
ماتَ عُتيبةُ يا صُبح.
( عُتيبةُ بن الحارث اليربوعي)
سُمُّ الفُرسان، وصيَّادُ الفوارِس.
” لصوتُ القعقاعِ في الجيشِ خيرٌ من ألفِ رجُل”
ومات ( القعقاع)صاحبُ اليرموكِ والقادسية أيضا.
مات ( عمرو بن معد يكرب) فارسُ اليمن في الجاهلية ،
وفارسُ زبيد في الإسلام،
صدأَ سيفُهُ( الصمصامة)
أو ربَّما نبا،
و لعلَّهُ ضاعَ على يدٍ مُهجَّنةٍ في القتال؛ في إحدى صولاتِ الرجال.
أين هما سيفاهُ ( القلزم، و ذو النون) ؟!
كُلُّها لم تعُد تصلُحُ إلا لِمَوتٍ صَدِئٍ” تقولُ الريحُ يا صبح.
مات( صاحبُ البِشارة)(محمد الفاتح) و( الظاهر بيبرس) سلطان مصر والشام،
و(عبدالرحمن الداخل) مؤسسُ دولة الأمويين في الأندلس؛
نعم ماتوا.
هذَتِ الرِّيحُ بالكثير يا صبح؛
ثرثرَت كأنَّما هو ميراثُها من البَعث!
حكَت عن( ابن عباد) فتىً يافعًا في جاهليةٍ تُشرِّعُ أن تشربَ- أولًاـ إبلُ ساداتِ القبائل، ثم يشربُ غيرُها ؛
ها هي إبلُ القوم بصحبةِ رجلَين منهم تنازِعُ إبلَ (ابن عبَّاد ) للشرب ، فما كان من الفَتِيِّ إلا أن قتلَ الرجلَين، و ضمَّ إبلَهما إلى إبلهِ،
وعادَ ممتشقًا بكبرياءِ القِفار ،
و إباءِ الرجال.
تخبرُني الريحُ ـ يا صُبح ـ عن فاتِحِ (عكَّا )( الأشرف صلاح الدين خليل) الذي قضى على آخرِ معاقلِ الصليبيينَ في الشَّام ؛ قد ماتَ أيضا،
و مات ( قُطُز) بطلُ عين جالوت، محرِّرُ القُدسِ من التَّتار .
أرهقَني ذاك الصوتُ يا صُبح!
لا يَكُفُّ عن العويلِ مرةً،
والهمسِ أُخرى!
وأنا على ذاك ياصبح؛
كأنما أنبعِثُ من برازِخِ الغيابِ إلى حضرةِ الأبدية.
تقولُ الريحُ لي إنَّها لا تزالُ تحفظُ خواتيمَ كلماتهم البيضاء؛
تضعُ فمَها في موضعِ سمعي: كانت كلماتُ شيخِ الشهداء( عُمر المختار) قبل أن يُشنق:” إنَّ عُمري أطولُ من عُمر شانقي، وسيكونُ عليكم أن تحارِبوا هذا الجيل ،والأجيالَ التي تأتي بعده”
ثم تُكمل:”
ماذا كان يقصدُ بالأجيالِ التي تأتي بعده؟!
أتعلمين شيئا عن الأميرُ ( عبدالقادر ) مؤسس الجزائر،
عن( عماد الدين زنكي)
و (قُتيبة الباهلي).
عن ابنِ نافع،
وابنِ نُصَير،
سليمانِ القانوني،
و ابنِ تاشفين؟!
عن هشام بن عبدالملك،
و المنصور،
وعن الرشيد؟!
كلهم ماتوا- ياعزيزتي ـ ماتوا.
ذاك الطودُ بغرابيبه السود؛
مات الذي قَتلَ عشرينَ من فُرسان الجاهلية في بدرٍ وحدَها
ذاكَ العليُّ مات،
و ماتَ قبله حمزة،
وأبو سليمان( ابن الوليد).
وتنتحب.
تبصَّرتُها ياصبح حتى هدأَت؛
فقالت بانطفاءِ الحواس:” أكرهُ عشبةً منسيةً تحاوِلُ أن تدرِّب الصخرَ أن يكونَ نايًا ؛
لا وقتَ للناياتِ ،
لا وقت؛
إنَّهُ مِيعادُ القيامة”.
قولي لي شيئًا يا صُبح!
أيَّ شيء!
كيفَ أنجو من صَرِّ الريح ؟!
أَ أَمضي معَها ؛ لأبعثَ من المماتِ العرب؛ كما انبعثتُ أنا؟!
أم أقتلُ الصوتَ برصاصِ الاعتياد ،
و أحقُنُ القلبَ بإبرِِ التصبُّر؟!
قولي لي ياصبح مثلًا :” كانت تلكَ ـ يا عزيزتي ـ ميتات الرجال ؛
فما الذي أبكى الريحَ لموتِ (يحيى ) جديد؟!
قولي:” ذاكَ ال(يحيى) فَقِهَ لُغزَ الأبديةِ ؛
خطَّهَ على رملِ الخُلودِ بعصا !
قولي يا صبح :” إنَّنا المطرُ الخفيفُ العنيفُ معًا؛
و لاتقولي:” إننا ورقةٌ خارجَ حُدودِ الفُصُول .
قولي:” آن للأرضِ ألَّا تستريح،
و للموتِ النبيلِ أن يحرِقَ أصابعَ صبرٍ مريضٍ ،مريض.
و آنَ لألغامِ الدروبِ أن تستحيلَ لِسَنابل.
لا تقولي لي ياصبح:” عُدَّ على مهَلٍ هزائمَك البيضاء،
قايِض عقارب صبرِك بحبات لوز، بأعوادِ سمسم،
ولفافاتِ تبغٍ،
و نَم.
طمئنيني يا صُبح،
وقولي ولو أملَا :” إنهُ ميعادُ المرايا مع الحقيقةِ،
مع النصرِ،
ومع الموتِ الأنيق.
لكن إياكِ أن تقولي:” إنَّ أسئلةَ العرَّافين ابتلعتنا ؛ قبلَ أن يلفظَنا جوابٌ شريفٌ واحدٌ،
و ننجو.
أنتظِرُ مِرسالَكِ يا صُبح؛
فلا يَشغلكِ عنِّي الشروق