محض ثرثرة/بقلم:عبدالقادر محمد الغريبل(المغرب)

في ربوع بلدتنا لا يمكن أن تعطس دون أن يتناهى لسمعك .. يرحمك الله
نشأنا فضوليين نلصق أنوفنا بكل شيء، وهذا أمر نعتبره جد شخصي…
(خالتي الحاجة) كما يدعوها الجميع، امرأة في عقدها الخامس تعرف أسرار الجميع، بيتها مقصد الوافدين لعلاج البثور وبعض الطفيليات بالتعزيم، مقابل دريهمات قليلة ك(فتوح)، ذلك شغلها اليومي الذي يبدد ضغط العنوسة عنها، والاعتناء بحديقة فنائها، كمتنفس يريح نفسيتها (بين جنبات خمائلها يشعر المرء أنه قريبٌ من الله) حسب قولها.
اجتماعيا لم يكن لها غير شقيق يصغرها بسنوات عديدة، مات أبويهما وهما صغيران، فنذرت نفسها ترعاه كوليدها تغدق حنانها عليه، يملأ حياتها أنسا وعشرة، لا تطيق صبرا على فراقه ولو لحظات لعبه مع أقرانه، تجلس خلف نافذتها تستنشق نفخات من علبة السعوط (التنباك) مرتقبة عودته، إلى أن وقعت تلك المصيبة الأليمة التي تكن في الحسبان، ذهابه بمعية رفاقه للصيد بالغابة كعادته، يتم دفعه من أعلى تل ليرتطم بصخرة كبيرة، مما تسبب في شج عميق برأسه، يلفظ أنفاسه متأثرا بالجرح، اعتبر موته حادثا لم يبلغ عنه.
إثر هذا المصاب الجلل، بقيت دون مؤنس تكابد عن مضض فاجعة الفقد، داهمها اكتئاب مريع، وبحكم أن العالم يسير بالمقلوب، استغل أحد أقربائها أزمتها النفسية، استدرجها لتوقع ورقة توكيل له، استولى بموجبه على ما ورثته من أراض فلاحية تعتاش من مداخيلها ومصوغات ذهبية احتفظت بها تحسبا لغوائل الزمن، ويا ليت السافل اكتفى بذلك فحسب، بل بخبث وخسة لفق تهمة الجنون بها، ليزج بها في مصح للأمراض العقلية، كنزيلة مصابة بالصرع، لضمان سرية خديعته لو انزلق لسانها بكلمة، قضت فترة طويلة تعاني في صمت جور ذوي القربى، بعد تحسن حالتها ظاهريا لكنها تأذت باطنيا، تم تسريحها وعودتها لمنزلها الذي تلقاه بفوضى عارمة عبث الدخلاء بأثاثه و مفروشاته.
عادت محطمة النفس، مسلوبة الإرادة… بمرارة قوضت أركان ثقتها وبخذلان قضى على سكينتها…
عادت مثخنة بجروح غائرة طعنت غدرا..
عادت فاقدة لحس الاندماج مع الغير..
رجعت فاقدة توازنها العقلي بهذه الكلمة يمكن وصف حالتها الطبية، عادت بوهن فظيع غزاها بعدما كانت مفعمة بالحيوية، بخمول ثقيل غشاها بعدما كانت تضج بالنشاط، بوجه اكتسحه شحوب طاغ بعدما كان يشع بالحسن، بجسد نخره ضمور مريع، شبيه بمومياء غير محنطة..
بابها الذي كان يُفتح على مصراعيه لزوارها بغية التداوي، أغلق بإحكام تام، ألغت استقبال أيٍّ كان، بدت مرعوبة كما لو أن أحدا هددها أو حاول إيذاءها، بقيت على الحال فترة، إلى أن أغلق بابها عن العالم بأسره ـــ الباب الموصد ـــ شائع في حالات الانتحار، أثير جدال كبير حول تسميمها.
لاحقا أدركت أن من مصلحتنا ولأهلينا أن نظل صامتين، ولا نتحمس في سرد ما حدث، لأن بعض الخفايا يتم دفنها عميقا جدا، دون إماطة اللثام عنها، ليعزوها محض ثرثرة فلاحين بسطاء.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!