يأخذنا الشاعر محمد صوالحة في قصيدته “هلوسة القصيدة (2)” إلى رحلة عميقة في ذاته وفي مفهوم الشعر لديه، متجاوزًا الحدود التقليدية للتعريف، حيث يقدم لنا رؤية تتسم بالذاتية المفرطة والتناص مع التجربة الحياتية والشعورية. في قصيدة تتجاوز كونها مجرد كلمات، لتكون مرآة عاكسة لعوالم الشاعر الداخلية، مرآة تكشف عن نفسية متشابكة تتأرجح بين المثالية والواقعية، بين العشق والبحث عن الذات.
يبدأ الشاعر قصيدته بحوار افتراضي مع حبيبته أو ملهمته، “عادت وقالت اكمل لتطرب روحي وغن لي”. هذا الاستهلال قد يمهد للمضمون، فهو مفتاح الولوج إلى عالم الشاعر، حيث تبرز المرأة كعنصر محفز للإبداع، وصوت يدعوه إلى الغناء، أي إلى التعبير الشعري. فسؤالها “ما القصيدة؟” يدفع الشاعر لتقديم تعريفات متعددة ومتشابكة، تكشف عن عمق تجربته وفلسفته.
وتعريف القصيدة بأنها “وطن للعاشقين، للكادحين والمتعبين” يحمل دلالات عميقة. فالوطن هنا لا يشير إلى بقعة جغرافية، بل إلى ملاذ آمن للروح الإنسانية المتعبة والمنهكة. إنها مساحة يتنفس فيها الشاعر الحب، وتجد فيها النفوس المرهقة (مجموع القراء) عزاءها. فهذا التشبيه يكشف عن نفسية شاعر يحمل هموم الآخرين، ويؤمن بقوة الشعر على احتضان هذه الهموم وتضميد جراحها. فهو يرى الشعر ملاذًا لا فرق فيه بين عاشق يتوق وبين كادح أنهكته الحياة وشقاء العيش، كلاهما يجد في القصيدة سكنًا وعزاء الروح.
بعدها ينتقل الشاعر ليصف القصيدة بأنها “معبد أقيم فيه صلاة القلب، أرفع فيه أذان الحب، وأتلو فيه ترانيم العشق وابتهالات روح عذبها يومها”. هذا التحول من “الوطن” إلى “المعبد” يرفع القصيدة إلى مستوى القداسة والروحانية. فالشعر هنا ليس مجرد تعبير فني، بل هو طقس ديني شخصي، يقوم فيه الشاعر بمناجاة ذاته ومحبوبته وربما الكون بأكمله. “صلاة القلب” و”أذان الحب” تشيران إلى عمق التجربة الروحية التي يختبرها الشاعر من خلال الشعر. إنه مكان للتطهير، للتعبير عن أعمق المشاعر، وللتسامي عن آلام الحياة اليومية التي عذبت روحه. فهذا الوصف يوحي بأن الشعر هو الخلاص الروحي للشاعر، وهو وسيلته للتصالح مع ذاته ومع واقعه.
ويستمر الشاعر محمد صوالحة في نسج تعاريفه المتعددة للقصيدة، فنجدها “حبل تتدلى منه الأحلام، يمسك أطراف العمر”. هذا التشبيه يكشف عن علاقة الشعر بالآمال والطموحات الإنسانية. إنه خيط رفيع يربط الشاعر بأحلامه، ويمنحه القدرة على التمسك بالحياة وأطرافها المتهالكة. إنه الأمل الذي يمنع الانهيار، والدفع الذي يبقي الحياة نابضة.
ثم ينتقل إلى تشبيه جريء ومثير: “القصيدة نهد… أنثى يتلألأ إذ قشرته كشفت وجه القمر”. هذا التشبيه يكشف عن حضور الأنوثة الطاغي في وجدان الشاعر وإبداعه. فالقصيدة هنا لا تصبح مجرد أداة للتعبير، بل تتحول إلى جسد أنثوي، رمز للجمال، للإغراء، وللكشف عن الحقيقة. تقشير القصيدة يعني الغوص في أعماقها، وإزالة الحجب عنها، ليكشف الشاعر عن جوهرها، الذي يتجلى في صورة وجه القمر وهو رمز النور والجمال والنقاء والكمال. فهذا التشبيه يكشف عن نفسية شاعر يرى في الجمال الأنثوي مصدرًا للإلهام، ويجده متغلغلًا في نسيج إبداعه. إنه أيضًا اعتراف ضمني بأن الشعر، في جوهره، ينبع من حساسية مفرطة تجاه الجمال والأنوثة، ويتماهى معهما.
يواصل الشاعر وصفه للقصيدة كـ”بضع كلمات صارت على شفتيك حروفها نورا ونار”. هنا، ينتقل التركيز من القصيدة ككيان مجرد ليجسدها في الآخر، في المحبوبة. فكلمات القصيدة تكتسب قوتها وجمالها عندما تُنطق من شفتي المرأة، لتتحول إلى “نور” يهدي و”نار” تحرق. هذا التناقض بين النور والنار يعكس طبيعة الحب المزدوجة، وقدرة القصيدة على إثارة المشاعر المتناقضة في نفس الوقت.
ثم يستمر في تشبيهها بـ”خد امرأة ان ابتسمت خجل الصباح وغاب”. هذا التشبيه يبرز الجمال الأخاذ للقصيدة وقدرتها على سحر الكون ذاته. فابتسامة المرأة، التي هي القصيدة، تتجاوز جمال الطبيعة، مما يجعل الصباح يخجل ويختفي. وهذه المبالغة الشعرية تكشف عن عمق افتتان الشاعر بالقصيدة وجمالها المتجسد في الأنثى.
يصل الشاعر إلى ذروة التماهي في قوله: “القصيدة سيدتي… هي أنت إن استلقيت على صدري وداعبت يداك كلي”. هنا، القصيدة والمحبوبة والذات الشاعرة تتحد في كيان واحد. لم تعد القصيدة مجرد موضوع أو أداة، بل أصبحت هي المرأة ذاتها، هذا التماهي يكشف عن نفسية شاعر يرى العالم من خلال عدسة الحب، حيث تتداخل الحدود بين الأشياء، وتصبح المحبوبة هي مصدر الإلهام الأكبر، بل هي القصيدة بحد ذاتها. والعلاقة هنا ليست جسدية فقط، بل هي روحية وعقلية، حيث الشعر هو نتاج هذا الاحتضان الكلي.
يعود الشاعر ليصف القصيدة بأنها “شهقة روح ونشوة قلب”، وهو تعبير مكثف يلخص التأثير الوجودي العميق للقصيدة على الشاعر. إنها لحظة من التجلي، من الفرح المطلق الذي يهز الروح والقلب. وهذا الوصف يكشف عن نفسية شاعر يجد في الشعر حالة من النشوة والتسامي، تتجاوز حدود الألم اليومي.
ويختتم الشاعر وصفه للقصيدة بقوله: “القصيدة زهرة لا يعرفها الا المجانين”. هذا التعريف يحمل دلالة عميقة، فالمقصود بـ”المجانين” هنا ليس المجانين بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هم أولئك الذين يمتلكون حساسية مفرطة، وشغفًا لا حدود له، وقدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون. إنهم الذين يخرجون عن الضوابط ولا يلتزمون بالقواعد، ويتبنون رؤية مختلفة للحياة والجمال. هذا الوصف يكشف عن شعور الشاعر بالاغتراب عن السائد، واعتزازه بانتمائه إلى عالم “المجانين” فهم وحدهم يستطيعون إدراك جوهر القصيدة وجمالها الخفي.
يصل الشاعر إلى قمة التماهي والذاتية في قوله: “القصيدة انا وانا نبض عمر وعمري من حروف لا تقرأه إلا عيون الحسان وقلوب العاشقين”. هنا، الشاعر يتجسد في القصيدة، والقصيدة تتجسد فيه. لم يعد هناك فاصل بين المبدع وإبداعه. فالقصيدة ليست شيئًا يكتبه، بل هي كيانه نفسه، “نبض عمره”. هذا التماهي يكشف عن نفسية شاعر يرى وجوده مرهونًا بالكلمات، وأن حياته ما هي إلا تجسيد للحروف.
والأهم من ذلك، أن الشاعر يربط قراءة حياته بـ”عيون الحسان وقلوب العاشقين”. هذا الشرط يكشف عن نفسية حساسة تبحث عن التقدير والفهم من خلال الحب والجمال. إنه لا يريد أن يقرأه أي كان، بل فقط من يمتلكون الحس المرهف والعاطفة الجياشة. وهذا يكشف عن هشاشة نفسية خلف ستار القوة الشعرية، ورغبة في أن يُفهم بعمق من قبل من يقدرون الجمال الحقيقي. إنه يعلن هنا أن جوهره، كشاعر وكإنسان، لا يمكن فك رموزه إلا بمن يمتلكون القدرة على الحب والإحساس بالجمال الروحي.
إن التعمق في نفسية الشاعر من خلال هذه القصيدة يكشف عن عدة أمور لم يبح بها بشكل مباشر، لكنها حاضرة بقوة في ثنايا النص. فرغم كل التعريفات الجريئة للقصيدة، يظل هناك شوق عميق للحب والاحتواء. حيث تتحول القصيدة إلى “امرأة تستلقي على صدره”، وهذا ليس مجرد تشبيه، بل هو تعبير عن حاجة نفسية عميقة للدفء والحنان والأمان الذي يوفره الوجود الأنثوي. بمعنى أن هناك فراغ عاطفي يسعى الشاعر لملئه من خلال الشعر، وجعل القصيدة تجسيدًا لهذا الاحتواء المنشود.
* أما في تعريفه للقصيدة بأنها “وطن للكادحين والمتعبين”، ووصف من يعرفها بـ”المجانين”، يوحي بشعور بالوحدة والاغتراب عن العالم السائد. فالشاعر يرى نفسه “مجنونًا” في عالمه، ربما لأنه يمتلك حساسية مفرطة لا يفهمها الجميع. فيس بأنه غريب، وهذا الاغتراب يدفع الشاعر إلى بناء عالمه الخاص، عالم من الكلمات، حيث يجد الانتماء والقبول.
فتحويل القصيدة إلى “معبد” و”صلاة” و”ابتهالات” يشير إلى بحث عميق عن الخلاص الروحي والسلام الداخلي. إذ يبدو أن الشاعر يواجه تحديات أو آلامًا في حياته اليومية التي هذه الآلام عذبت روحه، فكان الشعر هو وسيلته للتطهر والتصالح مع هذه الآلام، وإيجاد معنى روحي لوجوده. والشعر عنده ليس ترفًا، بل ضرورة روحية.
إلا أنه رغم اللغة القوية والصور الجريئة، فهناك هشاشة نفسية كامنة. فرغبة الشاعر في أن يُقرأ “نبض عمره” فقط من “عيون الحسان وقلوب العاشقين” ليست مجرد انتقاء للمتلقي، بل هي تعبير عن خوف من سوء الفهم، وحاجة ماسة إلى القبول والتقدير الصادق. فالشاعر لا يبحث عن النقد الأكاديمي بقدر ما يبحث عن الفهم العاطفي والروحي.
أما التشبيهات المتكررة للقصيدة بالأنثى “نهد”، “خد امرأة”، “هي أنت” تكشف عن علاقة معقدة ومحورية مع الأنوثة في وجدان الشاعر. فالأنوثة ليست مجرد مصدر إلهام، بل هي متغلغلة في جوهر الشعر نفسه. والقصيدة تجسيد للجمال الأنثوي بكل أبعاده، من الإغراء إلى النقاء، ومن القوة إلى الرقة. فهناك افتتان واضح بالمرأة ودورها في تشكيل عالمه الداخلي والخارجي، وهي ربما تمثل النموذج الأصلي للكمال والجمال في وعيه.
“هلوسة القصيدة (2)” ليست مجرد قصيدة عادية ، بل هي قصيدة وجودية بامتياز. إنها شهادة حية على العلاقة المتشابكة بين الشاعر وإبداعه، وبين الشعر والحياة. فالشاعر محمد صوالحة لا يكتب عن القصيدة، بل يصبح هو القصيدة نفسها، بكل تجلياتها (الوطن، المعبد، الحلم، الجسد الأنثوي، ونبض العمر). إنها دعوة للتأمل في جوهر الشعر، ودور العشق والجمال في تشكيل الوعي الإنساني .. وفي نهاية المطاف، القصيدة دعوة لفهم الذات من خلال مرآة الكلمات. حيث الشاعر هنا يرتدي الشعر دما ولحما، بل روحا .. فلا يبقى هناك حدٌّ فاصل بينه وبين ما يكتبه، ليقدم لنا تجربة شعرية فريدة، تنبض بالحياة، وتتوهج بالذاتية المفرطة.
٠