سعاد بسناسي. الجزائر

كتبت .د. سعاد بسناسي. نسقيّة النّموذج العامليّ وعلامات الملفوظات السّرديّة. (مقال في علم النقد)”

لآفاق حرة

نسقيّة النّموذج العامليّ وعلامات الملفوظات السّرديّة

بقلم.د. سعاد بسناسي. الجزائر

سعاد بسناسي. الجزائر

يتحدّد العامل أساسًا من خلال تشكّل أحداث النّص؛ باعتباره صيغة تصويريّة؛ ذلك لأنّ العامل يتحدّد انطلاقًا من وجود المحمول، وتتّضح صفات الأفعال في السّرد من جانبين تحليليّين: وظيفيّ ووصفيّ، وهما معا يحقّقان تكاملا دلاليّا؛ إذ يُعنى الجانب الوظيفيّ بدراسة الأفعال في السّرد؛ بينما يهتمّ الجانب الوصفيّ بالألقاب، ويشمل كذلك الأسماء المتعدّدة التي تحدّد صفات هذه الأفعال؛ فالملفوظ السّرديّ هو الصّيغة المعياريّة وما تؤدّيه من وظائف عامليّة متنوّعة، تحدّد دلالاتها.
وتتطلّب فكرة الاستعادة الاستبداليّة للسّير التّوزيعيّ للأحداث المسرودة في قصّة ما، معرفة أنواع العوامل والتي تحدّد أساسا انطلاقا من وجود المحمول المساعد على تشكّل النّص؛ فالعوامل اللّفظيّة تمثّلها تلك الألفاظ التي تؤثّر فيما بعدها، والعوامل المعنويّة تلك التي تُدرك بالعقل دون أن يتمّ التّلفّظ بها، ومنها ما يؤثّر نحويّا كالنّواسخ والأفعال، ومنها ما يؤثّر دلاليّا وهي المسمّاة بالتّصديرات وما فوق العامل. إنّ توضيح الطّبيعة الكليّة للنّص السّرديّ من خلال بنياته، تبيّن قيما تتولّد عنها حكاية تروي بشكل مشخّص ما تشير إليه هذه القيمة من خلال حدودها المجرّدة. وقد قادنا ذلك إلى القول بأنّ البنيات السّميائيّة / السّرديّة المشكّلة للمستوى المغرق في التّجريد تتجلّى على شكل نحو سميائيّ وسرديّ ، وذلك باعتبارها منطلقا أوليّا داخل المسار التّوليديّ، واستنادًا إلى ذلك فإنّها تحتوي على مكوّنين:
– مكوّن تركيبيّ
– مكوّن دلاليّ
ويندرج هذان المكوّنان ضمن مستويين:
– المستوى العميق ويشتمل على مكوّنين: تركيب أصوليّ ودلالة أصوليّة.
– المستوى السّطحيّ ويشتمل على مكوّنين: تركيب سرديّ ودلالة سرديّة.
وإذا كانت البنيات العامليّة تتشكّل؛ باعتبارها تمثّل منطلقا للتّحوّل المضمونيّ؛ أي باعتبارها الوجه التّركيبيّ للجانب العلائقيّ، مستوى توسّطيّا بين المحايثة والتّجلي، فإنّها تعدّ البؤرة الأساسيّة التي يتمّ من خلالها الانتقال من المستوى العميق إلى المستوى السّطحيّ (أي من العلاقات إلى العمليّات إلى الملفوظ السّرديّ) وهي بذلك تشكّل منذ الوهلة الأولى تنظيمًا تركيبيّا مجرّدا؛ لكنّه يقبل احتواء أشكال حدثيّة متنوّعة، ولهذا ينظر إليها بصفتها نسقًا، وبعد الرّبط بين عامل ومحمول تتحقّق قاعدة تنظيم تركيبيّ خاصّ بالتّجلّي المضمونيّ وكلّ إرساليّة دلاليّة تحتوي بالضّرورة على العنصرين معا، وذلك لأنّ العامل يتحدّد انطلاقا من وجود المحمول، ويتحدّد المحمول انطلاقا من وجود العامل.

1- نسقيّة النّموذج العامليّ
إذا حدّدنا النّموذج العامليّ كونه استعادة استبداليّة للسّير التّوزيعيّ للأحداث المرويّة داخل قصّة ما؛ فإنّه يتحدّد من زاوية الدّلالة كإنتاج للسّير التّوزيعيّ لهذه الأحداث؛ ومنه يكون النّموذج العامليّ أساس تشكّل النّص كأحداث؛ باعتباره صيغة تصويريّة، وذلك انطلاقًا من التّعرّف على الانتظامات الدّاخليّة للحكاية، وذلك كلّه يدلّ على وجود خطاطة تتشكّل من مجموعة عناصر دائمة ثابتة؛ وبذلك يمكن اعتبار النّموذج العامليّ تعميما لبنية تركيبيّة؛ وهو شكل قانونيّ ينظّم النّشاط الإنسانيّ؛ بل هو النّشاط الإنسانيّ المكثّف في خطاطة ثابتة.
ويتمّ تحديد النّموذج العامليّ من خلال تعابير بسيطة؛ باعتباره شكلا يجمع داخله أغلب العوامل المحدّدة للفعل الإنسانيّ هدف للفعل، وما يدفع إلى الفعل، والمستفيد من الفعل، أو الرّغبة في الفعل، والمساعد على الفعل، والمعيق لهذا الفعل . وإذا كان النّموذج العامليّ، في تصوّر گريماص، هو نتاج عمليّة قلب للعلاقات المشكّلة للنّموذج التّأسيسيّ؛ فإنّ جذوره، من زاوية صياغته النّموذجيّة، توجد في أعمال سابقة يحدّدها گريماص في ثلاثة: (نموذج پروپ، نموذج سوريو، ونموذج تنيير) . وإنّ هذا النّموذج بعلاقاته المتنوّعة وبنمط اشتغاله، وكذا من خلال المحاور التي يستند إليها في عمليّة تكوّنه يشكّل إبدالا؛ أي تصنيفا مسكوكا لمجموعة من الأدوار التي نصادفها في كلّ الحكايات بشكل كليّ أو جزئيّ. ولعلّ هذه العموميّة والكليّة هي ما يدفعنا إلى تقديم تحليل لهذه الأدوار من خلال تجسّدها في مسارات سرديّة مشخّصة، تتّخذ من الوضعيّات الإنسانيّة المخصوصة سندا لها .
2- الخطاطة السّرديّة
إذا كان الإمساك بالعمليّات المندرجة في المستوى العميق لا يتمّ إلاّ من خلال عمليّة تشخيصيّة تتصارع داخلها بلا وجه ولإلباس (العوامل) وفق سيناريو محدّد سلفا؛ فإنّ السّير المقنّن لكلّ حكي تصويريّ لا يمكن أن يتحدّد إلاّ من خلال إدخال مقولة مركزيّة في السّميائيّات السّرديّة/ ويتعلّق الأمر بمقولة (التّحوّلات) ذلك أنّه إذا كانت البرمجة تتمّ في مرحلة أولى في مستوى عميق؛ حيث تطرح الدّلالة كشكل منظّم بشكل سابق عن التّجلّي وقابلة لأن تتجسّد في مواد تعبيريّة متنوّعة؛ فإنّها تتمّ في مرحلة ثانية داخل مستوى توسّطيّ بين المحايثة والتّجليّ. ومن المرحلة الأولى إلى المرحلة الثّانية، تطرح الخطاطة السّرديّة؛ باعتبارها عنصرا منظّما ومتحكّما في التّحوّلات؛ فما يبدو من خلال قراءة بسيطة لنصّ سرديّ، وكأنّه تنافر وتداخل بين مجموعة من العناصر يشكّل في مستوى آخر، بنية بالغة الانسجام والتّماسك. ومن هنا، فإنّ الخطاطة السّرديّة تشكّل نموذجا لكلّ التّحوّلات الواقعة بشكل تجريديّ في مستوى يتّسم بالمفهوميّة.
3- المستوى الخطابيّ والتّواصل السّرديّ
ويمكن الإشارة هنا إلى النّمذجة التّلفظيّة انطلاقًا من معيار الملفوظ الرّوائيّ؛ إذ يميّز باختين بين نوعين من الرّواية: المونولوجيّة، والحواريّة؛ فالملفوظ “الخطاب” الرّوائيّ يتميّز بخاصيّة التّعدّد اللّغويّ، وهو تعدّد مشخّص اجتماعيّا، قد يعكس صراعات اجتماعيّة وإيديولوجيّة، وإنّ التّواصل السّرديّ الأدبيّ يقوم على تفاعل ثلاثة مستويات تواصليّة على الأقلّ، وفي كلّ مستوى تواصليّ توجد مجموعة المرسلين والمتلقّين وتمايز مستويات الأفعال، والتّحوّل التّناصيّ الذي يصل بين مجموعتين متباينتين من المواقف والتّواصل اللّامتخيّل أو اللّاروائيّ .
4- محاور علامات ملفوظ المخاطب
تعبّر هذه المحاور عن الرّغبة في حالة العلاقة بين الذّات وموضوعها؛ ففي غياب موضوع مرغوب فيه لا مجال للحديث عن ذات أو رغبة. وعن الصّراع في حالة العلاقة الرّابطة بين المعيق والمساعد، فالرّحلة التي لا تصادف ما يعيق استمرارها، ولا من يساعدها على الوصول إلى الهدف لا يمكن أن تسمّى رحلة. وعن التّواصل في حالة العلاقة القائمة بين المرسِل والمرسَل إليه، فالتّواصل ممكن؛ لأنّ الرّحلة تنطلق من رغبة لتصل إلى أهداف، وما بين الرّغبة والأهداف هناك الدّافع وهناك المستفيد .
– محور الرّغبة: هو المحور الذي يربط بين الذّات والموضع ،
– محور الإبلاغ: وهو عنصر الرّبط بن المرسِل والمرسَل إليه ،
– محور الصّراع: وهو ما يجمع بين المعيق والمساعد ،
إنّ هذا النّموذج بعلاقاته الثّلاث، يضعنا أمام العلاقات المشكّلة لأيّ نشاط إنسانيّ، كيفما كانت طبيعته. وبعبارة أخرى فإنّ هذا النّموذج يعدّ، بشكل من الأشكال، طريقة في تعريف الحياة ومنحها معنى.
5- ملفوظ الأصوات المتعدّدة
يستلزم النّص الحواريّ المتعدّد، مقاربة بوليفونيّة أدبيّة أو لسانيّة أو تأويليّة، تراعي هذا التّنوع الدّلاليّ والخطابيّ والمقاصديّ؛ لذا فهناك مقاربات بوليفونيّة متعدّدة في دراسة النّصوص، والملفوظات، والخطابات المختلفة وعليه، فالمقاربة البوليفونيّة عبارة عن منهجيّة إجرائيّة في التّحليل، والفهم، والتّطبيق، والتّفسير، والنّقد، والتّقويم، أو هي مجمل التّأويلات البوليفونيّة للملفوظات والنّصوص والخطابات التي تتضّمن حواريّة صريحة أو مضمرة، أو تحوي تعدديّة في الأصوات، ووجهات النّظر والضّمائر والفضاءات والأطروحات الفكريّة والإيديولوجيّة. ويقصد بالبوليفونيّة(Polyphonie/poliphony) – لغة – تعدّد الأصوات. وقد أخذ هذا المصطلح من عالم الموسيقى، على أساس أنّ البوليفونيّة عبارة عن انسجام أو اتّساق بين مجموعة من أصوات العزف المختلفة، وتآلفها فنّيا وجماليّا ضمن وحدة نغميّة هارمونيّة نسقيّة. وبعد ذلك، انتقل المصطلح من مجال الموسيقى إلى ميدان الأدب والنّقد واللّسانيّات.
وتعدّ البوليفونيّة (Polyphonie)، إلى جانب الحواريّة (Dialogisme)، من أهمّ المفاهيم التي ناقشها ميخائيل باختين منذ 1930م، ضمن التّصوّر اللّسانيّ الاجتماعيّ أو اللّسانيّات التّداوليّة، أو ضمن أسلوبيّة الرّواية، ومنه انصبّ اهتمام باختين في تصوّره النّظريّ، على التّفاعل اللّفظيّ أو التّداول الكلاميّ داخل النّص الأدبيّ، ولاسيما النّص الرّوائيّ منه. وأبدى باختين عنايةً كبرى بالواقعيّة اللّغويّة، ضمن مستوياتها الشّكليّة واللّغويّة والتّلفظيّة، بالتّوقّف عند الحوار والمحادثة والتّفاعل اللّفظيّ والتّواصل الكلاميّ.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!