بعد يوم مضني، ذهب الضباط إلى غرفهم، وخلع كل فرد منهم بدلته العسكرية، واستلقى في سريره راجياً أن يداهمه طيف الوسن، ويريحه من كل هذا العناء، الذي كابده في بياض نهاره، إلا أن قفزة هذا السارق إلى منزلهم، الذي استأجرته لهم الكتيبة التي يتبعون لها، في ذلك “الحي”، الذي جميع مظاهره العمرانية، تشي بالغني والثراء، أثارت تذمراً هائلاً بين أوساط الضباط، الذين ذهبوا في عجلة وامتعاض، إلى فناء المنزل لاستقبال الزائر الليلي، واللص المبتدئ صاحب الفكاهة، التي تسري عن النفس البائسة كآبتها، وتعيد إلى الأسارير العابسة بشاشتها، أخبرهم بأن الأمر الذي لا يشوبه التباس عنده، أنهم سيقضون عليه لا محالة، دون قانون، ودون تحقيق، أو محاكمة، والواجب قبل أن يقتلوه، أن يحققوا له أمنيته الأخيرة، فهو قبل أن يأتي لمزاولة عمله، لم يتناول وجبه العشاء، ولم يدخن سيجارته، هذه حقوق بديهية لا تقتضي جدلاً أو مناقشة، عليهم أن ينفذوها، طالما أن الأمر متعلقاَ بجوهر رحيله عن هذه الفانية، وبعد اسبوع من هذا النقاش، بدأت الحياة تتجدد في جسمه، الذي لم يعد يتماسك من الهزال، فكل ما يتذكره، أن صاحب الرتبة الأرفع غمم بكلمات، لم يسمع اللص منها شيئاً، بعدها أمضى اللص ستة أيام في العناية المركزة بالمستشفى العسكري، لقد تلقى السارق الشقي ركلة” حانية” بباطن قدم أحد الضباط .أوشكت أن تذهب بروحه إلى الجحيم
التراب المبارك
حمدي الذي لا يحفل به الناس، ولا يلتفتون إليه، أهدت إليه زوجة الشيخ ثوباً من ثياب ابنها، واتخذه الشيخ صبياً له يعينه على نصب الحياة، بعد هذه الحفاوة ارتسمت في نفسه الخطة واضحة جلية، فالشيخ في كل يوم جمعة، يستقر في مكانه، لا يأتي بحركة، ولا ينطق بكلمة، ففي ضحى كل يوم جمعة، يمكث الشيخ في قطعة متضائلة من الأرض، يخفض رأسه ويرفعه، ثم ينكب على الأرض انكبابا، ويبقى جامداً لا يتحرك، إلى أن يحين موعد صلاة الجمعة، فينفض عن سجادته التراب، ثم يمضي بعدها الشيخ بقوامه الفارع إلى المسجد، وتلمع في عينيه شواهد النبل والفضل، هذه اللحظة التي طالت، واشتد طولها، يتنظرها حمدي، الذي يدخل متلصصاً إلى خلوة الشيخ، فيجمع الثرى الذي حواه مكان صلاته، ويبيعه لكل ضحية، وأداة ذلول، في يد الشيخ، تعتقد أن هذا التراب يؤمنها من خوف، ويؤنسها من وحشة، وحتى لا نتلاحى ويطول بنا التلاحي، حول تصرف حمدي، الذي اتخذ من أثر الشيخ تياراً زاخراً لغناه، نقول أنه قد انقطعت صلته بالشيخ، ولم يعد يسعى إلى خلوته متباطئاً ثقيل الخطو، وهو يحمل جرة التراب المبارك الميمون، فقد شغلته تجارته المتناثره عن كل هذا.
تميمة الخلاص
كانت زوجته تحاول ما لا طاقة له به، وتطلب ما لا سبيل له إليه، فشجاعته التي لا يستمدها إلا من الوهم والخيال، شعرت بتوغل هذا اللص في بيته، السلّاب صاحب الروح الصدئة، والرأس المستدير، والوجه العابس، والساعد المفتول، تجاوز في سرقته ما ينبغي من الإنصاف، وأراد أن يتحرر من هذه وتلك، بعد أن خلى قلبه من طمأنينة الثقة في جسارة زوجها، ولكن الزوجة التي أظهرت للص الامتثال في بادئ الأمر، سكبت في عينيه قبضة من مسحوق الفلفل الحار، التي كانت تخبئه في راحة يدها، ثم تولى زوجها الرعديد، الذي ظل خائفاَ يرتعش طوال هذه المحنة، الاستغاثة بالجيران.
عليش والنشال
عليش تاجر الأقمشة في السوق الكبير، لم يكتفي بأيسر الأمور وأهونها، فيضرب اللص الذي يسير بمعية الشرطة، ضربة سريعة رشيقة، كما يفعل الجميع، ولكنه بعد أن دنا من الحرامي، بسطه بسطا، وفصله تفصيلا، ولولا أفراد الشرطة الذين حالوا بينه وبين اللص، لقضى عليش عليه، الآن عليش يحضر جميع جلسات المحاكمة مع المحامي الذي يدفع عليش “أتعابه” من ماله الخاص، حتى يدافع عن السارق، الذي عرف عليش، وتوعده بأن أروع شيء يمكن أن يقوم به في حياته، بعد خروجه من السجن، هو أن “ينتف ريش عليش” ويرضّ عظامه.
أقساط الجامعة
اعتاد مجدي الأنوك، أن يتحدث عن عواطفه ورؤاه إلى برير، واعتاد برير أن يذود حديثه بالفتور والاهمال، وبرير الخدن الوفي لمجدي الأنوك، يعلم أن المُدام، بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال عند الأنوك، حينما يخبره أنه زاهداً في الحياة، وفي أطوارها، وأنه غير أبهٍ لهوى فوزية، التي لا يحتاج حبها له إلى شاهد، ولكن الحب الحقيقي، الذي أخذ ينمو ويفيض، هو حبه إلى” ماجدولين” ابنته من فوزية، فماجدة هي التي جعلته يتشبث بالحياة، وينضوي ضمن لواء المدافعين عنها، وبرير الذي يعلم سعة خيال الأنوك، ينبهه ويلح عليه، بأن يقر بأبوته لتلك الفتاة، وأن يتقمص دور الأب، وأن يجعل همه ووكده محصوراً في هذا المجال، حينها ستغير هذه الفتاة التي ناهزت الحلم، مجرى حياته، ولكن الشيء الذي يقلب تفكير مجدي الأنوك رأساً على عقب، ويلهمه من المعاني ما يجعله يستحيل لإنسان آخر، النقود التي لا يجدها، بعد أن يذهب عن عقله الذاهل تأثير السلاف والخمر، نقوده التي يأخذها منه برير، في كل مرة يحتسيا فيها الخمر، بحجة سداد أقساط جامعة ماجدولين.