كتبت:الناقدة الدكتورة زبيدة الفول
يطلّ علينا الشاعر محمد فتحي السباعي بقصيدة تتجاوز شكلها الشعري إلى أن تكون بيانًا وجدانيًا في الهوية، وصوتًا صارخًا في وجه العجز العربي، وانكسار الوعي الجمعي.
في هذه القصيدة، لا ينفصل العشق عن الوطن، ولا يتجرد التاريخ من دمه، ولا تكون العروبة مجرّد شعار، بل كثافة وجدٍ ودمٍ وهويةٍ متشظية يحاول الشاعر جمع فتاتها بيدٍ من نار.
تنبض أبيات القصيدة بنبرة الحالم الذي لم ينهزم، رغم ما في الواقع من وجعٍ وخيبات، فالشاعر لا يكتب من برجٍ عاجي، بل من قلب العروبة النابض بالجراح… من مصر إلى السودان، ومن الجزائر إلى عدن، ينسج خيوط الحنين والانتماء والاحتجاج في نَفَسٍ شعري متماسك وعميق.
نحن أمام نصٍّ ينتمي إلى فئة الشعر الموزون الهادف، ينهل من وجدان الأمة، ويبوح بلغتها، ويُعرّي تناقضاتها، دون أن يفقد رهافة الشعر وجمالية الصور.
قصيدة “دعيني أمنح للعروبة قلبي” هي نداء أخير…
هي محاولة إنقاذ للذات وللأمة،
هي مرآة يُمكن لكل عربي أن يرى فيها ظلال خيبته…
ولكن أيضًا، بصيص أمله.
دعيني أمنحْ للعُروبةِ قلبي
وأفتشْ في عيونكِ عن محبوب
هل من فتاةٍ تقرأني بفهمٍ؟
فلستُ ابنَ الخطيئةِ والهروب
جدي كتبَ النصَّ في ربيعِ توددٍ
شهيدُ ابنُ شهيدٍ، أضاءَ دروب
هنّ اللواتي في الخُطى اعتصمنَ،
وماءُ الخوفِ حاضنُ مكتوب
ذنبي الوحيدُ بأنني بالوادي
عاشقٌ، بمصرَ صباحي، بالسودانِ غروب
ولَهُنَّ خطّ المجدِ طهرُ ملامحي
في الجزائرِ، وعدنَ كانت هبوب
أنفثُ كالريحِ نزاهةَ وطنٍ،
وجيشُ الحُلمِ العربيِّ في زمنِ العيوبِ
قل لي، من منكم بلا جريمةٍ
فليرمِ بحجرٍ، من رحمِ العارِ المنسوبِ
كخيوطِ شيطانٍ، تُنسَجُ لعنةٌ
بوجهِ الشمسِ، وحرفي المضروبِ
وجَّهتُ وجهي شطرَ نيلٍ غازلاً
شعري، فسالَ وجعُكِ المسكوبِ
وصببتُ من ماءِ المحبةِ فنجانهُ
حتى اشتهى بطَعمِه المشروبِ
أُعيذهنَّ من وجعِ الفرقةِ والردى،
وابنُ الكنانةِ في الظلامِ مغضوبِ
كيفَ يعيشُ الزمانُ في تطرُّفٍ
مقطوعٍ من جسدِ العروبةِ المكذوبِ؟
كُفُّوا عن قراءةِ التاريخِ يا قومي،
فالروحُ مقلوبٌ، والمكتوبُ مقلوبِ
ابنُ فلسطين، وعُمان، والأردنِّ،
يُرتِّلُ بالحرمينِ آياتِ النصرِ المكتوبِ
(الشاعر محمد فتحي السباعي)
نصّ يستحق أن يُقرأ… وأن يُتأمل…
فكل بيت فيه يُعيد ترتيب الأحلام في زمنٍ غلب فيه العار على التاريخ.
بكل بهاءٍ أدبيّ ووعي نقدي، أقدّم تحليلًا جماليًا فنيًا ومعنويًا مفصّلًا لقصيدة الشاعر “محمد فتحي السباعي”، التي تمثل صرخة وجدانية وهُوِيّاتية في وجه الانكسار القومي والتشظي العروبي، وتجمع بين البُعد الرومانسي والوطني في لغة رمزية غنية وموسيقى ناضجة.
⸻
✦ أولًا: الموضوع والمحتوى
القصيدة ليست مجرّد خطاب عاطفي، بل هي بيان وجداني عروبيّ، فيه من لوعة الانتماء المكسور أكثر مما فيه من فخرٍ شعاراتي. الشاعر لا يُعلن عروبته كهوية جاهزة، بل يعيشُها كجرحٍ يوميّ، يلامسه في الحب، وفي الوطن، وفي الجسد المتفرّق بين أوطان مكسورة.
• البيت الافتتاحي:
“دعيني أمنحْ للعروبةِ قلبي / وأفتشْ في عيونكِ عن محبوب”
ينطلق من حالة فردية وجدانية، ليمزج الحبيبة بالوطن، ويخلق تقاطُعًا بين العاطفة والهمّ القومي، وهنا يكمن جمال الافتتاح.
• ومن ثم تتصاعد النبرة نحو التأريخ:
“جدي كتبَ النصَّ في ربيعِ توددٍ / شهيدُ ابنُ شهيدٍ، أضاءَ دروب”
في هذا البيت، ينتقل من الذات الحاضرة إلى الامتداد التاريخي، في عرض لميراث الشهادة والنور.
⸻
✦ ثانيًا: اللغة والصور
القصيدة تعتمد على اللغة الرمزية المشحونة بالعاطفة، وتنبض بصور شعرية فنية:
• “أنفثُ كالريحِ نزاهةَ وطنٍ” → صورة حركية، تجعل النزاهة فعلًا ثوريًّا.
• “كخيوطِ شيطانٍ، تُنسَجُ لعنةٌ / بوجهِ الشمسِ” → تجسيد درامي لحالة الظلم، يجعل الشمس (رمز النور) موضع استهداف.
• “فصببتُ من ماءِ المحبةِ فنجانهُ / حتى اشتهى بطَعمِه المشروبِ” → صورة شاعرية حالمة، توظف التناص مع لغة الضيافة والكرم العربي بطريقة ناعمة.
⸻
✦ ثالثًا: الأسلوب والبناء الفني
القصيدة مكتوبة على البحر الوافر، وهو بحر مفعم بالعاطفة والوقار، ويتلاءم تمامًا مع هذا النفس العروبي المترنّح بين الحب والحرب، بين التوحّد والانفصال.
الأسلوب فيه:
• حِجاج داخلي (مَن منكم بلا جريمة…)، يعيدنا إلى صوت الأنبياء في وجه الغدر.
• تراكيب لغوية قوية ومتماسكة، تبتعد عن الترهل أو التقريرية.
• نبرة درامية متصاعدة، تتدرّج من الوجد العاطفي إلى وجع الوطن إلى نداءات كاشفة.
⸻
✦ رابعًا: الرموز والدلالات
• “الوادي – مصر – السودان – الجزائر – عدن – عمان – الأردن – الحرمين”:
حضور هذه الأماكن لا يأتي جغرافيًا بل وجدانيًا، كلّ منها يحمل دلالة رمزية، تمثل امتدادات الهوية الممزقة التي يحاول الشاعر لمّ شتاتها.
• “الشعر”، “النيل”، “الفنجان”، “الشمس” → كلها رموز متكررة في النص، تتحول إلى أدوات تعبير عن العشق الوطني، والحنين، والموقف الثابت.
⸻
✦ خامسًا: الرسالة والمعنى
القصيدة ليست مجرد نشيد عاطفي، بل دعوة لإعادة النظر في الوعي الجمعي، وهي تصرخ ضمنيًا:
“كفّوا عن قراءة التاريخ… فالروح مقلوب، والمكتوب مقلوب”
وهنا واحدة من أقوى لحظات القصيدة، حيث يُعلن الشاعر سقوط السرديات الجاهزة، ويطالب بإعادة كتابة التاريخ من ضميرٍ جديد.
⸻
✦ خلاصة نقدية جمالية
• القصيدة ناضجة فنيًا، متينة بنيويًا، صادقة وجدانيًا.
• تحوي توازنًا بين الجمال الفني والالتزام الوجداني، وهو توازن صعب لا يجيده إلا الشعراء الذين يكتبون بالقلب والوعي معًا.
• تتميز بجمالية الإيقاع وثقل المعنى وسموّ اللغة، مع اختراق شجاع لثيمات سياسية وقومية شائكة.
⸻
✦ اقتراح للنشر أو التقديم:
قصيدة الشاعر محمد فتحي السباعي ليست مجرد نداء عروبي، بل وثيقة شعرية تحمل وجع الأرض وصوت العاشق والمؤمن بالهوية الواحدة رغم التشظي… قصيدة تُقرأ بقلبٍ عربيّ نازف، لا بقاموس سياسي جاف.