بقلم الناقدة مرشدة جاويش
النص:
مَن يُلملمُ
نَثار…
عُري غُربتهِ
في دروب
الفَقْد؟
يُوقظُ فيه استفاقة
نَواطير الأمل ؟
قاع المسافات
يأكل
صَحوَ الخُطى
أضلاع
خيمة الأمنيات
قُدّت
مِن قُبُلٍ
مَزَّقتها…
شَفرة الضَياع
سَحابة (هارون)
ما مَطرَتْ
تَباشير غَيث
كانت غيمة
مِن وَهم
مُزنة مُخترقة
عاثَتْ بها
غِواية العَواصف
السماء…
مأسورة الزرقة
يتسيّد بها
وطواط الليل
تَحرسُها…
طائرات مِن
ورق
مَن يأوي
هَول ضياعه
في صَمت
مُدن المتاهات؟
يُرتّق فَتْقَ
عباءةِ زمنهِ
المُدبر
يُهاتف…
ضَياع ( عشتار)
مَن يُقاتل…
غَباء تواريخ الفتنة؟
يَمحق…
إفك
سُدم الضَلال ؟
البلاد..
يَرقص فيها
نَزق شيطان
التصحّر
يَستبدّ فيها
نَهم عِفريت
الجَفاف
غافية
فَنارات المَواعيد
أَنهَكَتْها…
طقوس( صلاة الوحشة)
وعدّ جَثامين
الراحلين
تَمَرَّسَتْ على
شَهقات التوديع
عِندَ أعتاب
نَزف الدموع
النخلُ…
مَحْضُ أشباحٍ
في عُقر
صُرّة الوجع
أكلت…
عِثّة الفُرقَة
جَريدهُ
الطارئون الدُخلاء …
يَقطَعون
شجر الإخاء
يَجرفون
فسائل الأمل
يغتالون
سُلاف الورد
هذا المُبتلى
ما زال يَستصرخ
ضَمير سُلالات
الهَزيمة
في مَساقط
عَتمة الانهيار
والوطن…
ما زال يَغفو
حافيَ الحُلم
على صَهاريج
القمامة
النجف : 6- 11- 2018
من المجموعة الشعرية ( حي ابن سكران)
من خلال المدخل النظري لو ولجنا بعمق للنص فالتحليل ممكن نعتمده هنا على مقاربتين أساسيتين:
فمن خلال التفكيك عند (دريدا): يُنظر إلى النص باعتباره فضاء مفتوحاً لتوليد الدلالات بلا مركز ثابت
وهو ما يتجلى في النص من خلال التعدد الدلالي والتشظي الرمزي وتسييل المعنى
وحين نمعن لبعض المفردات النصية نراها تتوزع بين التناص والأسطورة
فإن حضور رموز مثل (عشتار) و(هارون) يشي بآلية اشتغال النص على تفجير المعنى عبر الاستدعاء الميثولوجي مما يخلق طبقة من القراءة تتجاوز سطح اللغة إلى عمقها التأويلي
لذلك يتمظهر النص في ضوء هذا المدخل ليس تمثيلاً لواقع خارجي بل لواقع لغوي مستقل ينتج معناه عبر اللعب على الحقول الدلالية وتوليد شبكة من العلاقات بين الرموز
وأيضاً لو تطرقنا من خلاله للمدخل النقدي البنيوي للنص
فإننا نلمس أن النص ينفتح على فضاء شعوري مأزوم تتخلله علامات الانكسار والضياع فيغدو فعل الكتابة عند الشاعر آلية لمساءلة الخراب الوجودي والاجتماعي عبر بنية لغوية متصدعة تحاكي تشظي الذات والوطن معاً
إن انطلاقة النص من سؤال استنكاري كما هنا (من يلملم نثار عري غربته في دروب الفقد) تؤسس لبنية استفهامية تتوالد منها أسئلة لاحقة لتغدو البنية السؤالية محوراً بنائياً ينهض عليه النص بما يعكس ارتباك الوعي في مواجهة مصير مهدور وزمن مفكك
ويتبدى في النص توتره في تكرار مفردات الضياع والخراب والفقد والتصحر لتشكل ما يمكن تسميته بـالحقل الدلالي للعدم في مقابل حضور خافت لبذور الأمل المجهضة
وهو ما يخلق جدلية ثنائية بين الرغبة في الترميم واستحالة الخلاص
كما يوظف الشاعر أيضاً بحنكته اللغوية رموزاً أسطورية (هارون- عشتار) في سياق يعيد إنتاج الذاكرة الجمعية داخل بنية معاصرة
فتغدو هذه الرموز شواهد على انكسار المثاليات وتحولها إلى وهم
ولو رافقنا الصور الشعرية فهي لا تكتفي بتوظيف اللمسة الجمالية بل تنخرط في بناء دلالي يمزج بين الإيقاع المتقطع والتمفصلات الحادة في الجمل
مما يجعل النص أقرب إلى المشهد الدرامي الذي تتجاور فيه الأسئلة مع الصور الكثيفة لتؤطر خطاباً شعرياً ينطوي على وعي مأساوي بالعالم وتنبثق منه رؤية تتأرجح بين الحلم المصلوب ووطأة الخراب الشامل
إذاً النص في مجمله يستند إلى هندسة لغوية تحيل القارئ إلى شبكة من العلامات المتناوبة بين الحسي والميتافيزيقي ليغدو (الوطن) في النهاية جثة حافية الحلم على أرصفة الانكسار فيما تتعالى صيحة الذات في صمت المدن المنهكة لتعلن أن غيمة الوهم أكبر من أن تمطر يقيناً في صحراء الفقد
مقدمة تمهيدية :
يشكل النص الشعري (غيمة من وهم) للشاعر القدير شلال عنوز نموذجاً فريداً لقصيدة النثر التي تكسر القوالب التقليدية وتطلق العنان للصورة الشعرية المكثفة والرمزية العميقة
هذه القصيدة أبعد ماتكون عن كلمات إنما نراها لوحة فنية مركبة تنهل من بئر الوجع الإنساني والوطني لتقدم رؤية قلقة ومربكة حول الضياع والفقد والتلاشي
إنها صرخة مكتومة في وجه واقع منهار حيث يتلاشى الأمل ويتحول إلى مجرد وهم
والمنهج النقدي يتماشى مع بنية هذا النص وهو الأنسب لتحليل هذا النص لأنه يركز على بنية النص الداخلية وعلاقات الكلمات والرموز فيما بينها دون إغفال الإشارات الخارجية التي تعزز من دلالاته فهذا المنهج يسمح لنا بالتعمق في النسيج اللغوي للنص
وفهم كيفية عمل رموزه وتداخل صوره وتناغم وحداته الدلالية لتكوين رؤية شاملة ومركبة
ولو انعطفنا إلى العنونة النصية من خلاله (غيمة من وهم) فسنحيط ذلك بتحليل تفصيلي لها ووظيفتها
فالعنوان هو العنصر الأول الذي يلتقي به القارئ ويعمل كـ #بوابة دلالية ونفسية للنص فهو يحدد أفق القراءة ويخلق توقعاً للموضوع والأسلوب والمناخ الشعوري في نص أ. شلال عنوز
إنه ليس مجرد تسمية عابرة لكنه إشارة مركزة إلى الثيمات الأساسية للنص كالغياب والفقد والانكسار والوهم
فالدلالة الحرفية والرمزية للعنونة هي
الغيمة: ترمز عادة إلى الماء والحياة لكنها هنا تستخدم بوصفها علامة على الغموض والعدم أو الوعد الكاذب بالمطر
فالغيمة تتحرك لكنها لا تمنح ما يُنتظر منها وهو ما يعكس إحساس النص بالخداع والخذلان
أما الوهم: فهو يتوضح لنا بأن كل ما يبشر بالراحة أو الفرح أو الترميم هو سطحي وزائف لا يتحقق
فالوهم هنا ليس مجرد شعور نفسي فقط لكنه حالة وجودية تهيمن على الفضاء الشعري للنص
ولو تمعنا بالقيمة الحداثية للعنوان
فهو يتجاوز التقليد في التسمية المباشرة للأشياء ويشتغل وفق منطق التفكيك والتناص الرمزي:
يدمج بين الصورة الطبيعية (الغيمة) والحالة النفسية
الوجودية (الوهم) فينتج طبقة دلالية مزدوجة
يحيل القارئ إلى قراءة استبطانية وتأملية بدل أن يقدم نصاً سردياً واضحاً
هذا التزاوج بين الواقعي والرمزي بين الطبيعي والميتافيزيقي هو سمة من سمات الحداثة الشعرية حيث تتقاطع البنية الرمزية مع التجربة الذاتية والجمعية
أما لو أحطنا العنونة كخيط ربط بين النص والمعنى
فالعنوان إذاً يرسخ الموضوع الرئيسي للنص:
وهو الخراب والاغتراب والفقد
من خلاله ليصبح كل مشهد شعري داخل النص امتداداً لفكرة الوهم الذي يحاكي الغيمة سواء في الغياب العاطفي أو الانكسار الجماعي أو ضياع الوطن
بالتالي العنوان لا يكتفي بوظيفة جمالية بل يصبح مفتاحاً تحليلياً لفك رموز النص وفهم إيقاعه البنيوي والدلالي
ولو عدنا ندقق النظر بعناية إلى التحليل البنيوي والنقدي الموسع
فإن بنية العنوان مفتاح الدخول إلى عالم النص
يعدّ عنوان القصيدة (غيمة من وهم) نصاً موازياً بحد ذاته
يقدم للقارئ مفتاحاً لفهم الأجواء السائدة في النص قبل البدء بقراءته كلمة (غيمة) في الذهن الجماعي تحمل دلالات الأمل والغيث والخصب
لكن الشاعر يُفاجئنا بإقرانها بكلمة (وهم) مما يحدث صدمة دلالية مباشرة
هذا التناقض الجذري يشير إلى أن ما يبدو مبشراً وجميلاً هو في حقيقته خواء وزيف هذا العنوان يؤسس لجو من الخيبة والتلاشي سيستمر طوال القصيدة
وحين نغوص في بنية الأسئلة والبحث عن الذات
فإن القصيدة تفتتح بسؤالين وجوديين متتابعين الاول
(من يُلملمُ نَثار عُري غُربتهِ في دروب الفَقْد) والثاني ( مَن يأوي هَول ضياعه في صَمت مُدن المتاهات؟)
هذه الأسئلة ليست للاستفهام بل هي إقرار بفداحة الوضع
إنها تعبر عن عجز الذات أمام واقع قاس فالسؤال الأول يركز على الفقد والاغتراب
حيث تتحول الذات إلى (نثار) مما يشير إلى التمزق الداخلي
أما عن السؤال الثاني فيعمق هذا الشعور بالضياع في (مدن المتاهات) وهي صورة رمزية للواقع الذي يفتقر إلى البوصلة والوجهة
هذا التتابع يشكل بنية دائرية من الضياع المطلق
ونرى أن بنية الصورة الشعرية هي من التجسيد إلى التلاشي
إذ أن الشاعر يعتمد على بنية الصورة الشعرية المركبة لتجسيد الأفكار المجردة
كما في صورة (خيمة الأمنيات) إذ أن الصورة تقدم صورة متناقضة
فالخيمة رمز للمأوى والأمان والأمنيات هي الأمل
لكن هذه الخيمة ( قُدّت مِن قُبُلٍ) مما يعطيها طابعاً قديماً وأصيلاً لكنها (مزقتها شفرة الضياع)
فهذا التناقض يبين كيف أن الأحلام الأصيلة تدمر بيد الواقع
وصورة (سحابة هارون) هذه الصورة هي قلب القصيدة النابض بالخيبة
إنها تجسيد بصري للعنوان
فالسحابة التي كان يُنتظر منها الغيث والفرج (هارون قد يشير إلى شخصية تاريخية أو دينية منتظرة) كانت في النهاية (غيمة من وهم) و(مزنة مخترقة) مما يعكس فساد الأمل من الداخل
وصورة (الوطن) النهائية تختتم القصيدة بصورة مفجعة تكثّف كل معاني الانهيار (الوطن ما زال يغفو حافي الحلم على صهاريج القمامة) هذه الصورة وصفية ولكنها تعطي بعداً أعمق كمعادل موضوعي لحالة الذل والانهيار
فالوطن ككائن حي يجرد من أبسط حقوقه (حافي الحلم) ويلقى على (صهاريج القمامة) التي ترمز إلى التهميش والفساد والنفايات البشرية
وعن بنية التناقضات والازدواجيات فإن
النص يؤسس على بنية من التناقضات الدائمة التي تشير إلى حالة عدم الاستقرار والارتباك
فنواطير الأمل مقابل قاع المسافات
فالأمل يقابله العمق الذي يأكل التقدم
عشتار (الحب والخصب) مقابل ضياع عشتار
رمز الحياة والجمال يصبح رمزاً للضياع والفوضى
فالنخل يجسد (الأصالة) مقابل الأشباح وعثّة الفرقة لذلك الرمز الوطني الأصيل يصبح مجرد شبح ينهكه الخلاف الداخلي
هذه التناقضات تشكل بنية ثنائية تعزز الشعور بالانقسام والتمزق الذي يسيطر على النص بأكمله
فالنص يتنابع عن حقيقة فهو دراسة نقدية للواقع مصاغة بلغة الشعر
لقد نجح النص في بناء عالم شعري متكامل يعتمد على بنية داخلية محكمة من الرموز والصور ليقدم رؤية نقدية للوضع الإنساني والوطني
ويشكل وثيقة شعرية تُجسد حالة من الاغتراب والفقد وتظهر كيف أن الأمل قد يتحول إلى مجرد وهم
وكيف أن الأوطان قد تنام على صهاريج القمامة بعد أن كانت مصنعاً للأحلام
إنها قصيدة تجبرنا على التوقف والتأمل
فهي ليست مجرد كلمات بل هي صرخة في وجه الخواء والضياع
يأتي النص بطاقة لغوية عالية تستند إلى رمزية كثيفة وإيقاع داخلي متوتر يوازي حجم الخراب الذي يتناوله
فالنص لا يكتفي بالتصوير إنما اشتغل الشاعر بحرفيته على تفجير الدلالات عبر تراكيب متقابلة وأسئلة وجودية حادة تجعل المتلقي أمام خطاب شعري متشظٍ يعبر عن مأزق الذات والوطن فإن قوة النص تكمن في نمطية اللغة التي تمزج بين المأساوي والأسطوري
وبين الحس الواقعي والبعد الميتافيزيقي لتنتج فضاء شعرياً متجاوزاً للسرد التقليدي نحو بناء رؤيوي يستنطق العدم ويواجهه بالأسئلة
بهذا التشكيل يثبت النص حضوره بوصفه نموذجاً لشعرية تستثمر البنية المفتوحة لتوليد المعنى وتحافظ
في الوقت نفسه على حرارة الانفعال وجمالية الصورة
مما يجعل أ. شلال عنوز صوتاً شعرياً قادراً على تحويل الألم الجمعي إلى نص مؤسس على التوتر البنيوي والدلالة العميقة ومحمل بثراء رمزي يليق بالشعر الحديث.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية
