هلوسة
** ل :محمد صوالحة
من سيشعل
المواقد
ومن
يوقظ الحمام
اذ رحلت
يا نبي الحمام
ومن اي كف بعد
كفك يثور الحمام
وينثر الحمم
في العروق
كل الحناجر يا صديقي
مستعارة
من يروي سيرة قميص
من وبر الغيم تشكل
واي جسد بعده تكشف
اهنأ في اغفائتك
فالشيح صار جرحا
والارض تنثر في العين
ملحا
وانت هناك تبتسم .
المقدمة
تفتتحُ قصيدةُ «هلوسة» بلحظة استدعاء واستفهام تُعمّق الشعور بالتشظّي والافتقاد؛ لُغةٌ تصعد من الفراغِ إلى الصرخة، ومن الأسئلة إلى صورٍ سمعية وبصرية تصادم العقل بنبرةٍ شبه رؤيوية. الشاعر محمد صوالحة معروفٌ بدوره الشعري والإعلامي وبتأسيسه منصّات أدبية تُعنى بالنشر والمتابعة الأدبية، وهو حضورٌ يمتدّ في فضاءات النقد والملتقيات الأدبية. 
هذه القراءة تنطلقُ من النص ذاته، وتوظف أدوات النقد النصّي والتركيبي والصوري للتعرّض إلى: الفضاء الدلالي العامّ، الصور البلاغية والرموز، البناء الإيقاعي واللغوي، والقراءات الممكنة (الوجودية/الاجتماعية/السياسية)، مع ختام يقدّم ملاحظاتٍ بنّاءة للقصيدة وصياغتها. منهجنا يأخذ بعين الاعتبار أهمية الصورة الشعرية في الشعر العربي الحديث كركنٍ أساسي لتوليد المعنى؛ فالصورة لم تعد زخرفة فقط بل هي محرك دلالي وبنائي للنص
القراءة النقدية:
——————————————-
1 — العنوان والدلالة العامة
الاختيار اللفظي «هلوسة» يفرض لونا نفسيا فوريًا: حالة فقد التماسك بين الذات والعالم، أو بين الذاكرة والواقع. العنوان يبرّر التقطيعات المفاجِئة في النص والأُطر الرؤيوية المتسارعة، ويهيئ القارئ لقراءة النص كمنظومة رؤوية/سردية لا كسرد متسلسل طبيعي. هذا الاسم يتيح لنا قراءة النص على مستويين: مستوى الانفعال الذاتي (هلوسة ألم وحزن) ومستوًى استعاري اجتماعي (هلوسة جماعية ناجمة عن غياب/فقدان).
2 — المخاطب والنداء
النص يتضمّن نداءً مزدوجًا: «يا نبي الحمام» و«يا صديقي». هذا التناوب بين نداءٍ نوعي (نبي) ونداء حميمي (صديق) يولّد ازدواجًا في علاقة المتكلّم بالآخر: هو يجعله مقدّسًا في ذاكرة المتكلّم وودودًا في حياته الخاصة. النداءُ هنا ليس مجرد أسلوب بل هو بنية تظهِر فقدان شخصيةٍ محورية رحلت أو تغيّبت، وما يتركه رحيلها من تفجّر صورية.
3 — الصور والرموز: قراءة سردية وصوفية
القصيدة تعتمد على صورٍ مركّبة وغريبة: المواقد، الحمام، الحمم، وبر الغيم، قميص، الشيح، الأرض التي تنثر ملحًا في العين. كل صورة تؤدي وظيفة دلالية مزدوجة: حسية (تحريك الحواس: حرارة، رؤية، شعور باللسع) ورمزية (دلالات اجتماعية/وجدانية).
• الحمام: في التراث والصورة الأدبية العربية يرمز الحمام إلى البيت، الحنين، السلام، والألفة؛ وهو أيضاً ناقل للرسائل والحنين. لذلك استخدام صورة الحمام هنا (وثورة الحمام ونثر الحمم) يخلق صدمة دلالية: ما كان رمزًا للسلام تتحوّل برحيلِ «النبي/المحبّ» إلى حقل عنفٍ وحرْب. 
• المواقد/الحمم: المواقد رمز الدفء والبيت؛ التساؤل «من سيشعل المواقد» هو سؤال عن من يعيد للفضاء الدفء الإنساني. تحوّل الحمام إلى منثرِ حممٍ في العروق يقرّب الصورة من الهذيان: طائرُ الحنين يقذف حممًا تشوّه دائرة الألفة لتصبح عنفًا داخليًا.
• قميصٌ من وبر الغيم: صورةٌ ساحرة/سريالية تعبّر عن تغطيةٍ هشة، عن سترٍ من موادٍ غير مادّية، ربما سترٌ من ذكرى أو من حلم؛ سؤال «من يروي سيرة قميصٍ من وبر الغيم» يطرح انطفاء السرد اليومي واستحالة الإمساك بالوجود.
• الشيح: نبتة برية خشنة، تُعرف بصلابتها واستخداماتها الطبية والمرارة؛ تحوّلها إلى «جرح» يضفي إحساسًا بأن الطبيعة نفسها تجرحُ الشاعر/الشعب، وأن ما كان دواءً صار نُكبة، في إشارةٍ إلى تلاشي الشفاء. يمكن الرجوع إلى خصائص النبتة لتدعيم هذا المشهد الرمزي. 
4 — البنية اللغوية والإيقاع
القصيدة تُكتب بنبرة حرة، دون وزنٍ تقليدي صارم، مع تكرارٍ صوتي واضح لحروفٍ مؤثرة (ح، م، ن) مما يخلق طبقةً صوتية قاتمة تعمل على تقوية الحدة العاطفية. التكرار الصوتي للهمس والاختراب يدعم إحساس الهلوسة. كذلك، تكسرُ الانقطاعاتُ المفاجئة وتداخل الأسئلة مع الصور «تدفقَ» القراءة كما لو أنها رغبة في شفاءٍ لاتمام: الأسئلة تعمل كنبضاتٍ لاكتشاف مَنْ أو ما المسؤول عن العلاج أو عن الفقدان.
5 — العمل الخطابي والبلاغي
التوظيف البلاغي متنوع: استدعاء (نداء)، أسئلة بلاغية، استعاراتٍ مفجّرة (حمم في العروق)، تبدّلاتٍ مفارقية (الشيء الذي كان دواءً صار جرحًا)، وسينستيزيا حسية (مزج حسي: حرارة/برودة/مرارة/ملوحة). هذا الثراء البلاغي يخدم النبرة الهلوسية لكنّه أيضًا يترك مساحةً لقراءةٍ متعددة المستويات: شخصية، وطنية، أو وجودية.
6 — الإحالةُ الممكنةُ إلى البعد الاجتماعي/السياسي
النص — وهو مفتوح الدلالة — يسمح بقراءةٍ اجتماعية: رحيل «نبي الحمام» قد يرمز إلى غياب قائد/مثّلٍ للسلام أو إلى هجرةٍ/استشهادٍ تركت الناسَ محروقةً بالبُعدِ النفسي والمادي؛ «الأرض تنثر في العين ملحًا» تُعيد إلى ذاكرة العنف الجماعي (التشريد، الحرق، الطرد) حيث الملح يُستعمل مجازيًا لزيادة الألم. قراءةٌ كهذه مُستندة إلى استخدام الرموز في الشعر المقاومة/الشعري العامّ تُعدّ قراءةً ممكنة ومقنعة. 
7 — السيمياء الداخلية: التوترات والاختلال
النص يحتوي على توترات متواصلة: بين الحميمي والمقدّس، بين الدفء والنار، بين الحضور والغياب. هذه التوترات تؤسس لقراءة نفسية: المتكلّم يعيش ثنائية التفجّر الداخلي (غضب/حزن) مع مفارقة مشهدية لابتسامةِ الآخرِ (ربما الهاجس/المذنّب) في النهاية: «وأنت هناك تبتسم». النهاية تعمل كصفعةٍ أخيرة: ابتسامةُ المُهجور/المتسبب بالجرح تشدّد الانقسام الأخلاقي في النص.
8 — نقاط القوة واللامتناهيات النصّية
• قوة الصور وقدرتها على إحداث صدماتٍ ذهنية وجمالية ناجحة.
• اقتصاد لفظي يسمح لكل صورة بأن تفجر معانٍ متعدّدة.
• التوازن بين الحميمي والرمزي يوسّع من دائرة قراءات النص.
⸻
الخاتمة
قصيدة «هلوسة» عملٌ يؤكد قدرة الشعر على تحويل التجربة إلى صورٍ قوّيةٍ تشتبك مع الحواس والذاكرة. النص ينجح في خلق أفق رؤيويّ مشبّع بالألم والدهشة، ويقدّم قراءاتٍ متعددة — من ذاتيةٍ نفسية إلى تأويلٍ اجتماعي وسياسي. اقتراحي المتواضع للشاعر الكريم، د. محمد صوالحة، أن يستثمر هذا الحشد الصوري في نصوصٍ مقبلة مع تجريبِ نقاطِ تثبيتٍ سرديةٍ أو إيقاعية تمنح المتلقي مفاتيح قراءةٍ إضافية عندما يريد الشاعر ذلك، مع الاحتفاظ بحقِّ النصّ في الهلوسة والتمرد على القيود.
شكراً لد. محمد صوالحة على هذه المساحة الشعورية الكثيفة؛ النصّ يُعيدنا إلى قدر الشعر في إحداث صدماتٍ تجعلنا نعيد التفكير في الدفء والغياب، في الحمام والحُمم،