حب في منتصف الطريق/بقلم: لبنى القدسي(ج١)

1
جلست رؤى في مكانها المعتاد تتأمل في أجندة مذكراتها، فهي لا تجد غير الكتابة لتدون حكاياتها، تبتسم رغم الوجع والألم، وتهمس لنفسها: لعل مذكراتي تكون ذات يوم رواية تحكى.
“شتاء قاسٍ علينا يا صديقي، لكن روحك وحدها من تدفئني، في قلبي حب، وفي روحي حنين، لو وقفت على حقيقتهما لامتلأت روحك بالطاقة، ولسرى في جسدك الدفء، واحتضنت القدر شاكرًا على أن هناك زاوية ممتلئة بالحب تعنيك وحدك، تقيك برد الشتاء القارس، آاااه يا صديقي ليتك تضم روحي المتعبة لأرتاح من وجع هذا الحب.
الأيام ثقيلة، مملة، فقدت معها متعة التواصل مع الآخرين، أنت وحدك من كان طيفه أمامي، أناجيك في كل أوقاتي، تمنيت رؤيتك ولقياك، كم هو موجع فقدانك يا يزن!
اشتقت لك كشوق الطفل لأمه البعيدة عنه، واشتياق الأرض اليابسة للمطر الذي يروي تربتها، ويبعث فيها روح الحياة من جديد.
كلما هممت بالتواصل معك، تمنعني كرامتي، وهل مازال لي ذكرى عالقة في أذهانه؟ هل طيفي يمر من أمام عينيه؟ هل يوجد أي موقف يبعث فيه الحنين والأشواق؟ أم يا ترى جعلني هامشًا لا معنى له؟ هل يعقل أن يحذف الإنسان إنسانًا آخر من خريطة حياته، وكان أقرب الناس إلى قلبه، ولو من مجرد الذكرى العابرة؟
كل شيء تحدثنا عنه في تلك الأيام القلائل، عشت معه وبه.
كانت ذكراك تكفيني لتسعد قلبي عوضًا عن بؤس العالم كله.
أحببتك كحب زليخة ليوسف؛ ذاك الحب الذي دمرها، لكنها عاشت له وبه.
وهذا أنا، لستُ زليخة، ولستَ أنت بيوسف.
لكن حبي أيضًا هو ذاك الحب السامي، النقي الصادق، هي نفس المشاعر التي لا إرادة لنا فيها، من يضعها رب العباد في قلوبنا، ذاك الحب الذي به نعيش ونستمر، نلامس فيه عنان السماء بهجة، يقتلنا شوقًا ولوعةً ولهفةً، كمصعد كهربائي تارة يأخذنا للأعلى، وتارة يهبط بنا إلى الأسفل”.
2
بعد مرور عام ها أنا أجلس في نفس المكان، أتأمل المراكب الصغيرة، وحركة الصيادين، وأتأمل المارة، والشوارع والأشجار، وذاك الكرسي الخشبي، كل شيء كما هو لم يتغير، إلا أنا وأنت.
مر أحدهم من جواري، نظر إلى دموعي التي تنهمر وجعًا واشتياقًا، ابتسم لي وواصل طريقه، وكأنه يريد أن يرفع من معنوياتي بابتسامته تلك.
لا يعلم أن ابتسامات العالم بأسرها لا تستطيع انتشال وجعي.
كم هم لطفاء أبناء هذه المدينة، وحدهم يعيشون الإنسانية بأبهى صورها.
لا اعتبارات للدين ولا للغة ولا للجغرافيا في قاموسهم، وحده الحب والود يعيشون فيه، ابتسامة هذا الرجل اللطيف أعادتني إلى أول مرة التقينا فيها ونحن غرباء في بلد اللجوء.
كنت أدفع باب المكتبة للخروج، وأنت تريد الدخول، فكلانا كان على الباب وجهًا لوجه، سألت” “من بلاد العرب أنت؟”، وكنت تبتسم وأكيد من حجابي توقعت أنني عربية، وإلا ما كان هذا سؤالك؟ رددت عليك:
– نعم ويمنية أيضًا، فقد رأيت فيك ملامح الوطن.
ضحكت ورجعت للخلف كي أخرج وأغلق الباب خلفي، ثم مددت يدك لتصافحني.
خجلت منك حينها ومن موقفك المفاجئ، ومددت يدي لأصافحك.
كنتُ على عجلة من أمري…
قلت لي: “أنا يزن القاضي”.
رددت عليك وأنا أبتسم: “مرحبتين أستاذ يزن، وأنا رؤى”.
– رؤى من؟
ابتسمت لك وقلت: “رؤى اليمني، أعتذر منك ربما نلتقي ثانية”. وأردت المغادرة.
سألتني: “هل أنت من رواد المكتبة؟”.
– نعم.
– أي وقت تزورينها؟ كنت تسأل بشغف.
ابتسمت وأنا أقول لك: “يهمك ذلك؟”.
بادلتني نفس الابتسامة، وقلت: “أكيد يا بنت اليمني، يهمني التعرف عليك، فنحن هنا في بلد المنفى، لا أحد لنا غير بعض”.
– بعد الدوام.
ابتسمت ابتسامة عريضة وبادلتك نفسها وأنت تقول: “إذن سوف نلتقي مرة ثانية؟”.
– بإذن الله، الله معك.
– الله معك.
غادرت، كانت صدفة عادية، لكن الغريب في الأمر كنت في بالي طوال الوقت، وكنت أحدث نفسي اسمه ليس غريبًا، كأني قد صادفته من قبل، في المساء تصفحت جوجل وكنت أبحث عن اسمك، شيء ما يشدني للتعرف عليك.
لا أدرى كنت سعيدة للغاية، وأنا أنظر إلى صورك وكتاباتك.
في الصباح استيقظت على شعور جميل غير كل صباح، وكأنني مع شعور قدر آخر في حياتي، كنت متحمسة وأشعر بالابتهاج.
غريبة هي المشاعر! كيف ترسم خطوات أيامنا حزنًا أو فرحًا..
أكملت عملي، وعلى غير العادة اتجهت للمكتبة يملأني الشوق لرؤيتك، كنت متأكدة من أنك سوف تأتي، وسوف نلتقي مرة أخرى، هكذا كان شعوري حينها.
وعندما التقينا قلت لي ضاحكًا: “بحثت عن اسمك في عمنا جوجل، وطلع لي عدد من الأسماء لرؤى، ولكن وجدت لك صورًا ومنشورات، فعرفت اسمك بالكامل رؤى نعمان..”.
سألتك وكأن الأمر لا يعنيني: “ولماذا بحثت عن اسمي؟”.
ضحكت وقلت: “كذا فضول، عندك مانع، ألم تفعلي أنت؟”.
بابتسامة عريضة كادت أن تفضح شعوري في تلك اللحظة، بلى بحثت عنك”.
وبضحكة أخرى منك: “ولماذا إذن بحثتِ عني؟”.
وبخجل قلت لك: “هو نفس الفضول، أو عندك مانع؟”.
ضحكنا الاثنين معًا في ضحكة فيها من الإعجاب ما لا يوصف.
وفي لحظة صمت قلت بعدها: “وكم أحببنا أيوب طارش والفضول “.
قلت لك: “لكن الفضول هو الذي كتب أجمل ما غنى أيوب، وليس فضولنا هذا الذي دفعنا لنعرف من هو الآخر”.
قلت: “وما أجمل تلك الروائع التي أبهجتنا ومازالت، ولربما ما نحن فيه الآن هو جزء منها، من ذا الذي لا يعشق صوت أيوب الحنين للوطن والأرض والإنسان، والحب والغزل”.
قلت لك: “معك حق، أيوب أسر قلوبنا جميعًا بأغانيه الوطنية والغزلية، هو أحد رموز اليمن”.
قلت أنت: “وعندما نستمع لصوته العذب والمميز تسمو الروح، وتلامس عنان السماء حبًا وفخرًا واشتياقًا ولوعةً، ومعه تخوننا دموعنا لتنهمر وجعًا”.
قلت لك: “لا تزد الحنين للوطن وللأحبة يا هذا، فكلما استمعت له تدحرجت دموعي من بين أهدابي كحمم من النار تحرقني وجعًا على هذا البعد الذي نكتوي به قسرًا”.
ومن هنا بدأنا الحديث عن الوطن، والغربة، واللجوء، والحرب الذي دمر بلدنا، عن مغامراتنا حتى وصلنا لهذا المكان، عن الأهل الذين استشهدوا بنيران القصف، ورحلوا عن دنيانا، وعمن تبقى منهم وتركناهم لنتوه في بلاد الشتات، وعن احتمالية العودة، وعن أعمالنا التي فقدناها، وعن أيامنا التي كانت في استقرار، وعن معاملة العالم لنا ونحن نبحث عن اللجوء، وكم واجهنا من مخاطر حتى وصلنا لهذه الأيام..
أخذنا الوقت، ولم نشعر به، ونحن نتحدث عن معاناة مشتركة، ونحن نحلل الوضع السياسي والإنساني في بلدنا، وكأننا خبراء، وكيف جعلوا من بلدنا ساحة لصراعات إقليمية يدفع ثمنها أبناء اليمن وحدهم.
كان هناك انسجام غير طبيعي في حديثنا، وكأننا نعرف بعضًا من سنوات.
افترقنا، وأكملنا الحديث على الماسنجر، كنا في اكتشاف جميل للآخر.
قلت لك: “كم هو جميل هذا الاكتشاف يا يزن”.
قلت لي: “أنا ولدت من جديد في غربتي، لا تسأليني كيف ولماذا؟ نحن رواية لن تنتهي يا رؤى”.
ضحكت وقلت لك: “وأنا أحب الروايات وأعشق المغامرات..”.
قلت لي: “بجد تحبين الأدب؟”.
قلت لك: “وعندي بعض المحاولات البسيطة، لكن صارت أيامنا تشردًا، وهجرة، وملاحقة بعد كل شيء، ولم نعد نعير هذه الاهتمامات أي انتباه”.
كنت سعيدًا بذلك، وشجعتني على العودة لكتاباتي، وطلبت أن تقرأ ما كتبت، ووعدتني بأن أول إصدار ستكون طباعته هدية منك لي.
وعدتك أن أعطيك أول نسخة لتقرأها وتراجعها، وقلت لك ضاحكة: “أخيرًا وجدت لي مرجعية أدبية خاصة”.
تحدثنا كثيرًا عن كتاباتنا، وعن الأدب، وعن الوضع الذي نعيش فيه، وكيف انعكست تبعاته علينا، وصرنا نبحث عن أولويات أخرى.
أرسلت لي بعض كتاباتك الأدبية ومجموعاتك القصصية.
كاد النوم يغلبنا ونحن نتحدث بنفس الشغف باكتشاف الآخر ومن يكون..
مسكت أنت زمام الأمر، وأرسلت لي روابط لأغاني محمد مرشد ناجي، ومحمد سعد عبدالله، وأحمد فتحي، وعبدالباسط عبسي، وأيوب طارش، وأبو بكر سالم، وفؤاد الكبسي، وأحمد الحبيشي، قلت: “اسمعيهم غدًا وأنت منهمكة بالعمل، وتذكري الماضي التليد، والآن جاء دور نومنا، الصباح عندنا دوام، تصبحين على يوم جميل كروحك”.
ما كنت أتمنى أن أفارقك: “تصبح على يوم مشرق كروحك”.
آه يا يزن، صارت لحظاتي جميلة، مشرقة مبهجة، كأن القدر فتح لي بابًا آخر، بابًا من الفرح والبهجة، كم افتقدت لذلك، هذه المشاعر جعلتني أنتبه كم نسيت نفسي وسط هذا الكم من الهم اليومي.
الصدفة جمعتنا وتعرفنا على بعضنا بشكل عفوي، وبعيدًا عن أي تكلف أو رسميات، لم نخطط لذلك لا أنا ولا أنت..
جمعتنا الغربة والهم المشترك، ومشاعر كنا نحتاجها لنعوض بها قسوة الأيام…
لم نكن نعرف كم من الساعات تمضي ونحن نتحدث.. كنت أشعر أن الوقت يمضي سريعًا.
3
أيام قلائل تذكرنا فيها طفولتنا وأيام المدرسة، الشوارع والأزقة، مغامرات الحياة ونحن ننتقل من مكان لآخر بحثًا عن فرص العمل، أماكن العمل التي عملنا فيها، تحدثنا عن الأهل وعن الوضع المؤلم في بلدنا، حكيت لك مأساتي بفقدان أسرتي، وعن علاجي في القاهرة، وعن أخي الذي لم يتركني حتى تعافيت، وعن قرار اللجوء.
وحكيت لي عن طفلتك الوحيدة التي تركتها مع أمها في اليمن بعد طلاقكما، وعن حزنك لبعدها عنك، وكم تشعر بالسعادة عندما تسمع صوتها وتشاهدها عندما تتواصلان عبر تطبيق الإيمو، وعندما سألتك عن سبب طلاق والدتها قلت: “أحتفظ بهذا واعذريني يا رؤى”، قلت لك: “وأنا أحترم خصوصياتك واحترامك للمرأة التي كانت يومًا ما في عصمتك، والرجل الشهم هو من يحافظ على خصوصية هذه العلاقة حتى بعد أن يفترقا”، قلت: “نعم، وأنا أحتقر أولئك الذين ينسفون كل شيء، ويتحدثون عن الآخر بكل سوء، خاصة إذا كان بينهم أبناء، لأن هذا بالتأكيد يؤثر عليهم سلبًا”.
يا الله كم كبرت بنظري حينها، وشعرت كم أنت عظيم، من يحترم النساء والعلاقات الإنسانية، هو كبير في نظري، ويستحق الحب والاحترام.
نفترق لنعود لإكمال حديثنا بنفس الشغف،كل ساعة تمر علينا نتعرف على بعض أكثر، كم تتشابه روحانا، وكم أشياء مشتركة تجمعنا، كانت تحيط بنا سعادة وفرح لم نشعر بهما من قبل، فكل منا له غربته، وله قصته مع الحياة، روح واحدة جمعتنا.. مشاعر بدأت تتسرب لقلبينا. بدأنا ننظر للبعيد.. ونفكر بأمر العودة، ترى هل ستقف الحرب؟ وهل آلة الموت في بلدنا ستتوقف عن إراقة الدماء؟ هل سنعود؟ وهل سيعود النازحون واللاجئون إلى بيوتهم وحياتهم الطبيعية؟ شردنا الحرب، وتفرقت الأسر، دمرت المنازل، وقتل الأبرياء دون سبب.. إنها الحرب اللعينة، كم فقدنا فيها من الأحبة.. طال أمدها.. وكلما سمعنا عن مفاوضات وحوارات تفاءلنا خيرًا، لكن ترجع الأمور لما هو أسوأ من ذلك… لقد جعلوا من يمننا السعيد ساحة خصبة للحرب بالإنابة.
اثنان نحن ناضجان علمتنا الحياة الكثير.. بحر من الذكريات غصنا فيه… وآمال كثيرة كانت تحلق بنا عاليًا..
أنت وحدك شبيه الروح يا يزن… شعرت حينها أنك أنت سندي، وأنت عوض الله لي على كل تعب السنين التي مرت، وعلى فقدان أحبتي..
أيام قليلة سرقناها من الزمن، كان وقتها ليس كوقت البقية.. ألم يقولوا لا تسألوا العشاق عن وقتهم، وهكذا نحن.. تمكن الحب من قلبينا.
الصدفة والاكتشاف لمعرفة بعض، والروح المرحة، والكلمات اللطيفة والمشاعر الموحدة، والآمال المشتركة، كانت وحدها رفيقة نهارنا وليالينا.
أيام قلائل رافقتنا فيها الطرقات والأزقة، البحيرة وأماكن العمل، المدن والأقطار، حتى تلك الفتاة التي مرت من أمامنا شبه عريانة في عز البرد، وهي تتهاوى على كتف عشيقها، كانت جزءًا من حديثنا.
عندما نظرت لها وأنا مبتسمة ومستغربهً من حالها، وكأنك قرأت بما دار في مخيلتي، نظرت لي وأنت تبتسم: “لا تستغربي يا صديقتي، فهو الحب يدفئها، لا معنى لملابس تقيك البرد إذا لم تكن هناك مشاعر دافئة تتغطين فيها من الداخل”.
يا الله كم شعرت خلال هذه الأيام بأنك أنت عائلتي، وأنت الحائط الذي أحب أن يتكئ عليه قلبي، والظهر الذي أستند عليه، والروح التي تتوهج دون أن تنطفئ، لتنير لي دروب الحياة، وأنت الدفء الذي يقيني برد هذا الشتاء القارس.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!