(القاص سامر المعاني لم يكن بالمشاهد الأخيرة حكاء ).
“المشاهد الأخيرة” هي مجموعة قصصية للكاتب الأردني سامر المعاني، تتكون من 17 قصة قصيرة تتنوع في موضوعاتها بين الحب، الغياب، الذاكرة، الوحدة، والخيبة. تعتمد المجموعة على لغة شعرية كثيفة ومشاهد موحية، مع تركيز كبير على الحالة النفسية للشخصيات وانعكاسات التجارب الإنسانية عليها.
رفض الكاتب في “المشاهد الأخيرة” أن يكون مجرد “حكّاء” (Storyteller) تقليدي من خلال استخدامه مجموعة من الاستراتيجيات الأدبية المعتمدة وتم توظيفها وهي التي حوّلت دوره من سارد للأحداث إلى فنان يخلق تجربة وجدانية ومعرفية. هذا الرفض يتجلى في الممارسات التالية:
حيث عمل الكاتب على تفكيك الحبكة (Deconstructing the Plot)
وإليك مقارنة بين الكاتب المبدع وما يفعله الحكاء التقليدي فالحكاء التقليدي يبني قصة متماسكة ذات بداية ووسط ونهاية، ويهتم بتسلسل الأحداث وسببيتها (ماذا حدث بعد ذلك؟ ولماذا؟).
أما ما فعله سامر المعاني يحطم التسلسل المنطقي و يقدم الأحداث على شكل “شظايا” أو “ومضات” ذاكرية (flashbacks) غير مرتبة زمنيًا وهنا القارئ لا يسأل “ماذا حدث بعد؟” بل “كيف تشعر الشخصية الآن تجاه ما حدث؟”.
وإليك مثال في قصة “ذاكرة الغياب”، لا نعرف القصة الكاملة للعلاقة، بل نعيش flashes من اللحظات الأكثر إيلامًا أو حنينًا في ذاكرة الراوي.
كما أن تحويل المركز من “الحدث” إلى “الوعي” (Shifting Focus from Event to Consciousness)
فالذي يفعله الحكاء التقليدي بأن الحدث هو البطل والشخصيات تخدم تقدم القصة.
اما ما يفعله سامر المعاني هو توظيف الوعي الداخلي ليكون هو البطل فالمشاعر، الأفكار، الهلوسات، وتيار الوعي (stream of consciousness) هي محور النص. وبالنسبة للحدث الخارجي يصبح مجرد مناسبة أو محفز للغوص في الأعماق النفسية.
وإليك مثال كما في مشهد جلوس البطل في المقهى لا يُروى لنتعرف على ما سيحدث له هناك، بل هو إطار لاستدعاء عشرات الذكريات والمشاعر المتضاربة.
وماميز أسلوب المعاني استخدام اللغة كغاية لا كوسيلة (Using Language as an End, Not a Means)
ونعود على ما يفعله الحكاء التقليدي فاللغة عنده وسيلة شفافة لنقل الأحداث والمعلومات والهدف هو فهم “ماذا حصل”.
أما ما يفعله سامر المعاني فاللغة هي غاية جمالية فالتوقف عند الصورة الشعرية، الاستعارة الغريبة، والانزياح اللغوي يصبح أكثر أهمية من نقل المعلومة فالنص يُقرأ للتذوق والشعور، وليس فقط للفهم.
وإليك مثال: الزائر الابيض هنا نتوقف لنحلل الصورة المجازية القوية والمكثفة التي تخلق إحساسًا بالحزن الثقيل، حتى لو لم تقدم معلومات جديدة عن الحبكة.
وعمل المعاني على إجبار القارئ على المشاركة في صنع المعنى (Forcing the Reader to Co-Create Meaning)
فما يفعله الحكاء التقليدي حيث يقدم قصة مكتملة المعالم، ودور القارئ سلبي إلى حد كبير (التلقي والاستمتاع).
أما ما يفعله سامر المعاني: يقدم نصًا “مفتوحًا” (Open Text) وجود الفجوات، القفزات، والنهايات المفتوحة يجبر القارئ على أن يصبح شريكًا نشطًا في عملية خلق المعنى. عليه أن يملأ الفراغات، يربط بين الشظايا، ويتأول المشاهد.
ومثال عندما تنتهي قصة بشكل غامض (“هربت وظلي على أكتافي…”)، يتحول القارئ من متلقٍ إلى باحث عن معنى، يسأل: لماذا هرب؟ وما هو هذا الظل؟ وما هي دلالة هذه النهاية؟
وبرع المعاني في تدمير الوهم الواقعي (Destroying the Realist Illusion)
فما يفعله الحكاء التقليدي: يحاول إقناعك بأن القصة “حقيقية” أو “يمكن أن تحدث” (الوهم الواقعي).
أما ما فعله سامر المعاني يكسر هذا الوهم باستمرار من خلال التشظي، الانزياحات اللغوية، وخلط الواقع بالحلم، يذكرك بأنك تقرأ نصًا أدبيًا مُصنعًا، وليس نافذة على الواقع. هذا يوجه انتباهك إلى “كيف” كُتبت القصة و”لماذا” كُتبت بهذه الطريقة، وليس فقط إلى “ماذا” تحكي.
وهنا يتبادر لنا سؤال من هو الكاتب إذن؟
برفض سامر أن يكون “حكاء”، لم يتخلف سامر المعاني عن دوره، بل ارتقى به لقد تحول من الحكاء التقليدي (Storyteller) إلى الفنان (الصانع الجمالي) (Artist / Aesthetician)
يَسردُ أحداثًا يخلق عوالم نفسية
يهتم بـ “ماذا” حدث ويهتم بـ “كيف” تشعر الشخصية وتتذكر.
كما يقدم معنى جاهزًا لطرح أسئلة وجودية وليترك للقارئ البحث عن إجابات
ويعزز وصووله للهدف وهو إمتاعُ القارئ بحبكة مشوقة وإثارةُ القارئ وجدانياً وفكرياً
وبهذا، يصبح النص في “المشاهد الأخيرة” ليس قصةً تُحكى، بل تجربةٌ تُعاش.
هل تجربة المعاني هي تجربة حداثية؟!
يمكن اعتبار مجموعة “المشاهد الأخيرة” مجموعة حداثية إلى حد كبير، وإن كانت تحمل أيضًا بعض السمات التابعة لما بعد الحداثة في بعض جوانبها.
ليست حداثية بالكلاسيكية الصارمة، لكنها تنتمي إلى تيار “الحداثة النفسية” أو “الحداثة الذاتية” التي تهتم بالعالم الداخلي أكثر من العالم الخارجي.
ومن الأدلة والسمات الحداثية ف المجموعة
ومن السمات الحداثية البارزة في المجموعة تركيز على العالم الداخلي والذاتية (Subjectivity)
كما أن المجموعة لا تهتم بسرد الأحداث الخارجية بقدر ما تهتم بسيل الوعي (Stream of Consciousness)، المشاعر، الذكريات، والأحلام والاستغراق في أحاسيس الشخصيات وتفاصيلها النفسية كما في قصة “ذاكرة الغياب
كما عمل على تفكيك البنية التقليدية للسرد (Non-linear Narrative)
وكان واضحا التشظي الزمني وعدم الالتزام بالتسلسل المنطقي هو سمة حداثية واضحة
كما أن القفز بين الماضي والحاضر دون فواصل واضحة ايضا سمة حداثية.
واتصفت اللغة بالشعرية ومليئة بالانزياحات البلاغية واعتماده على الاستعارات، الكنايات، والتشبيهات البعيدة التي تخلق عالمًا رمزيًا خاصًا.
مثال حروف مبعثرة – لغة مجازية عالية لا توظف في السرد التقليدي.
كما أثارت المجموعة التساؤلات حول الموضوعات الوجودية (Existential Themes) كطرح أسئلة حول الهوية، العزلة، معنى الحياة، والعلاقات الإنسانية الهشة ومن الأسئلة “أنا… من أكون؟” و “إلى متى سأبقى؟”.كما ترك نهاية مفتوحة وغامضة (Open Ending)
ومعظم القصص لا تقدم حلولًا أو نهايات مغلقة، مما يترك القارئ في حيرة وتأمل، وهي سمة حداثية ورفض الواقعية التقليدية فالواقع في المجموعة ليس واقعًا خارجيًا موضوعيًا، بل هو واقع نفسي داخلي مشوش ومعقد.
اما سمات ما بعد حداثية (Postmodern) أيضًاقد تتداخل بعض السمات مع ما بعد الحداثة، مثل:
تشظي الهوية و اللعب بالزمن وعدم اليقين و تفكيك مفهوم “الحبكة”والتركيز على “الانزياح” و”التفكيك” فهذه مجموعة “حداثية نفسية” تعبر عن الوعي المعاصر المُحمّل بالألم، الحنين والضياع.
اعتمد الكاتب على المشاهد بدلاً من الحبكة التقليدية هو سمة أساسية وبارزة تميز هذه المجموعة القصصية، وتعد من أهم خياراتها الفنية والأدبية.
هذا الخيار ليس مجرد أسلوب سردي، بل هو رؤية فكرية وفلسفية للكاتب حول كيفية سرد الحياة والعواطف الإنسانية المعقدة.
ومن خلال تحليل لهذه السمة وأبعادها
نلمس الفرق بين “المشهد” و “الحبكة فالحبكة (Plot) هي هيكل الأحداث المترابطة والمتسلسلة التي تبني قصة كاملة لها بداية ووسط ونهاية، تدفعها forward قوة دافعة (صراع، عقدة، ذروة، حَل)
أما المشهد (Scene)هو لقطة لحظية مكثفة، تركز على جو عاطفي، صورة حسية، حوار داخلي، أو تفصيلة دقيقة. قد لا يكون للمشهد تطور درامي كبير بذاته، لكنه يخدم الجو العام والمعنى الكلي.
ومن خلال المرور على العنوان الدال عنوان المجموعة نفسه “المشاهد الأخيرة” يعلن مباشرة أن ما سنقرأه ليس “أحداثًا أخيرة” أو “قصة النهاية”، بل هو “مشاهد” – أي لقطات وصور متفرقة هي الأخيرة في ذاكرة الراوي.
كما أن التركيز على الجو لا على الحدث بدلاً من سرد “ماذا حدث؟”، يركز الكاتب على “كيف كان الشعور؟”فنقرأ وصفًا للمقاهي، صفير الغلاية، رائحة العطر، رعشة اليد، صمت النظرات… هذه كلها مشاهد تخلق جوًا من الحنين والافتقاد.
كما أن غياب العقدة والحل التقليديين في معظم القصص، لا توجد “عقدة” واضحة يتم حلها. الصراع هو داخلي وجودي (صراع مع الذاكرة، مع الغياب، مع الذات). النهاية ليست “حلًا” بل هي استمرار للحالة نفسها أو تفاقمها (مثل: “هربت وظلي على أكتافي…”).
فالبنية التراكمية (Not Linear)القصة تُبنى ليس عبر تسلسل الأحداث، بل عبر تراكم المشاهد والانطباعات والعواطف التي تشكل في النهاية صورة كلية للعلاقة أو التجربة. مثل الفسيفساء، كل مشهد هو قطعة صغيرة لا معنى لها كاملة إلا بوجود القطع الأخرى حولها.
لذلك كان الخيار خيارًا مميزًا ومتعمدًا
من خلال محاكاة عمل الذاكرة فالذاكرة الإنسانية لا تعمل كفيلم سينمائي متسلسل، بل تعمل على شكل “ومضات” أو “لقطات” (مشاهد) مفاجئة تطفو على السطح. اعتماد الكاتب على المشاهد هو محاولة أدبية واقعية لمحاكية طريقة تذكرنا للأشخاص والأماكن المفقودة.
كما أن التعبير عن التفكك الداخلي كان من خلال الشخصيات في المجموعة التي تعيش حالة من التشظي والتفكك الداخلي بسبب الفقد أو الحب غير المكتمل وفوضى المشاهد وانعدام التسلسل المنطقي هو انعكاس مباشر لفوضى عالمهم الداخلي.
واستخدم المعاني تثمين اللحظة العابرة حيث يرفع من شأن التفاصيل الصغيرة والعابرة (مثل: نظرة، ابتسامة، رشفة قهوة) ويجعلها محورًا للسرد، معتبرًا إياها هي جوهر التجربة الإنسانية، وليس الأحداث الكبرى والدرامية.
وكان للقارىء دور من خلال إشراكه بشكل نشط فالقارئ ليس متلقيًا سلبيًا لأحداث ممتعة لكن عليه هو أن يجمع بين هذه المشاهد، أن يربطها، وأن يستنتج القصة الكامنة خلفها. هذا يخلق تفاعلابين النص والقارئ.
ونلمس ذلك في قصة مثل “رصيف الذاكرة”، لا نعرف بالتفصيل قصة الحب بين الراوي و “ليلى” من البداية إلى النهاية (الحبكة). Instead, نُقدم لنا مشاهد متقطعة:
فمشهد الجلوس على المقعد في الجامعة.
و مشهد توديعها له عند الباص.
ومشهد سماع خبر زواجها.
كما أن مشهد لقائها المفاجئ بعد سنوات وهي تحمل طفلها.
هذه المشاهد هي “شظايا” الذاكرة التي تؤلم الراوي فالقصة لا تُروى كقصة، بل كـ “أرشيف من الألم” مكون من لقطات منفصلة مترابطة عاطفيًا.
اعتمد الكاتب على المشاهد على حساب الحبكة التقليدية هو سمة فنية محورية ومميزة في “المشاهد الأخيرة” فهو ليس ضعفا في السرد، بل هو خيار حداثي يعكس رؤية الكاتب للسرد ليس كوسيلة لتقديم أحداث، بل كأداة لالتقاط “شظايا الوجود والوجدان” للإنسان المعاصرو هذا الخيار هو ما يجعل المجموعة تنتمي بأسلوبها إلى نمط من الأدب يركز على تيار الوعي والحالات النفسية أكثر من كونه أدبًا حكائيًا تقليديًا.
بالتأكيد تخلي الكاتب سامر المعاني عن الحبكة التقليدية في مجموعته “المشاهد الأخيرة” لم يكن ضعفًا في التقنية السردية أو عدم قدرة على البناء القصصي، بل كان خيارًا جماليًا وفلسفيًا متعمدًا نابعًا من طبيعة الموضوعات التي يعالجها والرؤية التي يريد تقديمها.
فمحاكاة فوضى الذاكرة والوعي البشري (Mimicry of Consciousness)
حيث أن الذاكرة البشرية لا تعمل كفيلم سينمائي منظم البداية، الذروة والنهاية. إنها عبارة عن “ومضات” (Flashbacks) ومشاهد متقطعة ومشاعر عابرة تطفو على السطح دون ترتيب منطقي. بإسقاط الحبكة التقليدية، يحاول الكاتب محاكاة الطريقة الفعلية التي تتذكر بها الشخصياتُ أحباءَها وألمها، مما يخلق إحساسًا بالصدق النفسي والواقعية العاطفية.
و استعان الكاتب بالتشبيه بدلاً من أن يروي قصة حب من البداية إلى النهاية (حبكة)، يعطينا الكاتب ألبوم صور مبعثر (مشاهد)، وعلى القارئ أن يجمع بينها ليفهم القصة الكامنة.
وحاول التعبير عن حالة التفكك والضياع الداخلي (Reflecting Internal Fragmentation)
من خلال الشخصيات في المجموعة التي تعيش في حالة من التشظي النفسي بسبب الصدمة العاطفية أو الفقد. العالم من حولها فقد تماسكه، وبالتالي فإن الشكل السردي نفسه يجب أن يعكس هذه الحالة. الحبكة المتماسكة ستكون كاذبة إذا كانت الشخصية تعيش حالة من الفوضى الداخلية.
فسرد قصة حب كاملة ومتماسكة عن شخصية منكسرة سيكون بمثابة “كذبة فنية” فالتشظي السردي هو الشكل الأمين لتمثيل حالة الانهيار الداخلي.
كما أن التركيز على “الجو” و”المزاج” بدلاً من “الحدث” (Focus on Mood over Plot)
والهدف الأساسي للكاتب ليس إدهاش القارئ بأحداث مثيرة أو مفاجآت درامية، بل هو غرس إحساس معين فيه كإحساس الحنين، الخسارة، الوحدة، والشوق. تحقيق هذا الهدف يتطلب التركيز على التفاصيل الحسية مثل رائحة العطر، طعم القهوة، صفير الغلاية.
وعلى المشاهد الموحية كنظرة عابرة، مقعد فارغ، صمت مطول.
والتركيز على الحالة النفسية من خلال تفعيل تيار الأفكار والمشاعر المتدفق.
فكل هذه العناصر تكون أكثر تأثيرًا من سلسلة الأحداث نفسها.
وهذا أكبر تحدي لتوقعات القارئ التقليدية (Challenging Reader Expectations)
فالصدق مع طبيعة الموضوع “الغياب” والفقد، فمن المستحيل سرد “قصة” عن الغياب، لأن الغياب في جوهره هو نقص، فراغ، وانقطاع. الشكل السردي المناسب للغياب هو شكل مشظّى، مليء بالفجوات والثغرات والحبكة التقليدية تفترض وجود حدث مكتمل، بينما الغياب هو نقيض الكمال الاكتمال.
فلم يكن هناك خيارات للكاتب الا بإسقاط الحبكة التقليدية، الذي حقق الكاتب من خلاله عمقًا نفسيًا أكبر للشخصياتو
شعورًا بالصدق العاطفي، حيث أصبح الشكل معبرًا عن المضمون.
وإبراز جماليات اللغة والتشبيهات التي كانت ستُطمس تحت وطأة الأحداث في الحبكة التقليدية وخلق تجربة قراءة فريدة تثير التأمل والتفكير أكثر من كونها تقدم حبكة للتسلية، لذا، كان إسقاط الحبكة ضرورة فنية وليس تقصيرًا تقنيًا.