ليلة البلسمك: جدلية الحياة والموت في السرد الرمزي

‎كتب: تحسين الآغا /الرياض

‎تُعد رواية ليلة البلسمك للكاتبة تبارك الياسين نصًا روائيًا يستند إلى البنية الرمزية والفلسفية في استكشاف العلاقة الجدلية بين الحياة والموت، والواقع والخيال. عبر أسلوب لغوي شعري وسرد متشابك، تبني الكاتبة عالماً فنيًا تتقاطع فيه الأزمنة والأرواح والذكريات، في تجربة سردية تنفتح على التأويل وتدع القارئ شريكًا في إنتاج المعنى.

‎تنطلق الرواية من فكرة محورية قوامها مواجهة الإنسان لظلال ماضيه ومحاولة التحرر من أثقال الذاكرة. فالموت في ليلة البلسمك ليس نهاية بقدر ما هو حالة وجودية تتيح إعادة النظر في معنى الحياة ذاتها.
‎يتجسد هذا المفهوم من خلال المكان المركزي — الفندق — الذي يشكّل فضاءً رمزيًا يجمع بين العالمين: عالم الأحياء وعالم الأرواح. إنه مسرحٌ للذكريات وللصراعات الداخلية التي تخوضها الشخصيات بحثًا عن الخلاص.

‎أما خلّ البلسمك الأبيض، الذي تتخذه الكاتبة عنوانًا ورمزًا رئيسًا، فهو ليس مجرد عنصر مادي، بل علامة دلالية متعددة الأبعاد؛ إذ يجسد فكرة التطهير والتوازن بين المتناقضات. فالطعم الحلو الحامض يرمز إلى ثنائية الوجود الإنساني: اللذة والألم، الحياة والموت، الحقيقة والوهم. وبذلك يتحول الخلّ إلى تميمة روحية تفتح باب الخلاص وتربط بين العوالم

‎تقوم الرواية على بنية سردية مفتوحة تتشابك فيها الأصوات والحكايات ضمن إطار واحد، بحيث يتحول السرد إلى شبكة من العلاقات الرمزية والزمنية.
‎يتخذ السرد طابعًا تداخليًا (intertextual) من حيث استدعاء الحكايات الفرعية داخل النص الرئيس، ما يضفي على الرواية طابعًا فسيفسائيًا يتطلّب قارئًا نشطًا لتجميع المعنى الكامن خلف التشظي الظاهري.

‎تستخدم الكاتبة لغة شعرية حسية تنقل التجربة من مستوى الحكاية إلى مستوى الإيحاء. فالرواية تتجاوز الحدث الواقعي لتقيم علاقة وجدانية بين اللغة والذاكرة. ويبدو افتتاح كل فصل بمقاطع شعرية بمثابة مدخل تأملي يُهيئ القارئ للغوص في البعد الرمزي لكل مشهد.

‎كما توظف الياسين تقنية الراوي العليم المحدود الذي يتيح مسافة تأملية بين السارد والشخصيات، ويعزز الطابع الغامض للنص. فالسرد لا يسعى إلى تقديم إجابات بقدر ما يثير تساؤلات حول ماهية الوجود، وهو ما يجعل الرواية أقرب إلى النص الفلسفي في شكل روائي.

‎تتوزع الشخصيات في الرواية بين عوالم الأحياء والأموات، لكن جميعها تشترك في كونها معلّقة على حافة الحياة، تبحث عن خلاصٍ من ماضيها أو عن معنى لوجودها.

‎عدنان: الشخصية المحورية التي تمثّل الوعي بالحدّ الفاصل بين الحياة والموت. بوصفه عامل تنظيف في الفندق، يحمل رمزية التطهير المادي والروحي معًا، ويغدو “الوسيط” بين العوالم.

‎فالنتينا: صاحبة الفندق، تجسد الذاكرة المثقلة بالأسرار، وحالة الإنكار التي يعيشها الإنسان أمام الفقد.

‎مصطفى المصري: حضور واقعي يعيد التوازن إلى الفضاء السردي، مقابل الطابع الغيبي الذي تهيمن عليه الأشباح.

‎العجوز والطاهي الشبح: يمثلان حضور الأسطورة في النص، بوصفهما رمزين للمعرفة الغامضة والعبور بين العالمين.


‎تُبنى الشخصيات هنا بوصفها رموزًا دلالية أكثر من كونها كائنات سردية مستقلة، فهي أدوات فنية لفهم فكرة الرواية عن التحرر من قيود الذاكرة عبر فعل المواجهة.

‎تقوم الرواية على توظيف الرمز بوصفه وسيلة لتكثيف المعنى. فالخلّ في الرواية يحمل أبعادًا متعددة: فهو تطهير للجسد من الأوجاع، وللروح من الذنوب، وللذاكرة من التكلس.
‎يستند هذا التوظيف إلى خلفية ثقافية ودينية ترى في الخلّ مادةً مباركة ذات خصائص علاجية، وهو ما يمنحه بعدًا طقسيًا وروحانيًا داخل النص.
‎كذلك، يُعدّ الفندق رمزًا للحدود المكانية بين الحياة والموت، بين الداخل والخارج، مما يجعله فضاءً للعبور والاعتراف والكشف.

‎إن العلاقة بين الرموز في الرواية تتخذ شكل منظومة دلالية متكاملة تعكس الرؤية الفلسفية للكاتبة تجاه الوجود الإنساني، حيث لا خلاص من الألم إلا عبر مواجهته، ولا حياة حقيقية دون المرور بطقس الموت الرمزي.


‎تُظهر الرواية وعيًا جماليًا عاليًا باللغة بوصفها أداة خلق، لا وسيلة نقل. فالجمل مشبعة بالإيقاع، والصور الشعرية تخلق جماليات حسية تشبه الرسم بالكلمات.
‎تتجاور في النص مفردات الجسد والعطر والظل والذاكرة، لتكوّن شبكة من الإيحاءات البصرية والسمعية والشمّية التي تفتح الحواس على التجربة الكاملة للنص.
‎ومع ذلك، قد يُلاحظ بعض القُراء أن التكثيف الشعري أحيانًا يأتي على حساب الإيقاع السردي، مما يبطئ من حركة الحكاية في بعض المقاطع، إلا أن هذا البطء ذاته ينسجم مع طبيعة النص التأملية.



‎يمكن القول إن ليلة البلسمك تمثل تجربة سردية ناضجة في الرواية العربية المعاصرة، تجمع بين الحسّ الجمالي والتفكير الفلسفي، وتطرح أسئلة وجودية حول الحرية والموت والتطهير.
‎نجحت الكاتبة في توظيف الرمز المركزي (الخلّ) لبناء عالمٍ متكامل تتقاطع فيه الأزمنة والأصوات والدلالات، وحققت من خلاله توازنًا بين الواقعية والخيال.
‎ورغم بعض الغموض في بناء الشخصيات الثانوية وتداخل الخطوط السردية، فإن الرواية تظلّ نصًا ذا طاقة تأويلية عالية يستحق الدراسة ضمن سياق السرد الرمزي العربي.

‎إنّ ليلة البلسمك ليست رواية عن الموت فحسب، بل هي تأمل في إمكانية الحياة بعد التطهّر من الذاكرة، وانتصار للجمال على العتمة، والفن على الفناء.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!