بقلم: الروائية عنان محروس
كيف لا يَطال المشاعر فتكٌ من تزاحم الذكريات بعد مغادرة الأحباب إلى دار البقاء؟، وهل هناك إخلاصًا أعظم من تسمية الديوان قوقين؟ تيمنًا باسم المثوى الأخير لأجساد فارقتنا تاركة أرواحهم وأفكارهم وأصواتهم محفورة محفوظة، لنُبقي على أثرهم في حياتنا وإن غادروا ليواريهم الأديم ، تراب الأرض ، وأصلّ آدم من تراب، ذاك الأديم ربمّا وارى جلدنا المدبوغ بالحريّة والعنفوان ، لكن مهما تحطمنا يبقى الرفات شاهدًا في الأذهان على نخوّة المحبّة الأزلية، وبالمناسبة (قوفين) مقبرة قديمة في بلدة بيت أُمّر تقع شمال الخليل في فلسطين الأبيّة، ومن عِظّمِ الوفاء، وفاء الشاعر محمود أبو عياش قلبًا وقلمًا لأحبائه، كان لهم نصيب من العنوان والإهداء
(إلى قوفين، موئل العظام الصلبة، ومهد أضلع الروح الوثّابة، قوفين… خزنة الأحبّة القابعين أيسر الصدر والمنقوشين في عظام الجمجمة).
إهداء متفرّد سبّاق، يعبر عن الحنين الكبير والإخلاص الأكبر…
صهر الشاعر محمود الواقع في بوتقة تنهيدة من نار، احتسب الآهات على جوانب المعاناة إلى أن فاض الألم ونُبذ الصبر سالخًا الرويّة، ناكرًا الهدوء المفتعل متحولًا إلى عدم الرضا والسخط فقال:
غضبٌ يدي، غضبٌ فمي
ودماءُ أوردتي، عصيرٌ من غضب
يا قارئي! لاترجُ منّي الهمس، لا ترجُ الطرب
هذا عذابي
ضربةٌ في الرملِ طائشةٌ وأخرى في السحب
حسبي بأنّي غاضب والنّار أولها غضب…
والغضب يعيد الدماء المستكينة والقلوب الخانعة جمرًا يحرق الظُلّام
يقول الشاعر محمود أبو عياش عن نفسه، لم أجهد نفسي في البحث عن بحور تلائم النصوص ولا الغوص في مفردات اللغة، تاركًا للمعاني المختزلة أن تختار النمط والأسلوب، أمّا أنا كقارئة نهمة متعمقة في ما وراء الحرف أقول:
لايحتاج الشاعر المبدع محمود إلى البحث ، لامتلاكه محيطات من السحر الجليّ في نصوص قصائده، يزرع حبره بشغف في شرايين القارىء، ومدائنًا من كلمات مضيئة وسلاحًا فتاكًا يفقه عمق المعنى ورفعة القيّمة الفنية للشعر متجانسًا بخفّة مع عمق القضايا الجدّية المطروحة في الديوان.
تستطيع العبور من مداخل شتى إلى ديوان قوقين، فالفضاءات رحبّة والتجليات حقيقية صادقة، فهو إنسان حنون ، صاحب قضية إنسانية قوميّة، مومنٌ بوحدة وطنه، واثقٌ بأنها طريق الكرامة الوحيد.
الشاعر محمود ابن آدم، الإحساس المرهف مع صلابة المواقف ومن سلالة الأنقياء، ربمّا أصابته الخسارة في بعض مواضع الحياة ، لكنّه أنقذ من سطو الغاشم الفاشل ، صرخات قصائد ملهمة عبر تجارب مكتنزة بالأبعاد النفسيّة والاجتماعية والأيدولوجية والجدليّة، عاد منتصرًا مابين المعاندة تارّة والمطاوعة قسرًا تارة أخرى، شكّل تراكيبًا جماليّة وصورًا ذهنية مختلفة، لأنّه شاعر مختلف وخالف العرب في مقولتهم، أعذب الشعر أكذبه، فكان نقش شعره موسومًا، بأعذب الشعر أصدقه.
——————-