الناقد /محمد رمضان الجبور
في المشهد الثقافي الأردني، حيث تتشابك الأصوات وتتعدد التجارب، تبرز الكاتبة مريم خليفة بوصفها صوتًا أنثويًا يحمل عزيمة لا تهدأ وإصرارًا يضيء الطريق رغم العتمة. اختارت أن تشق دربها بثقةٍ وهدوء، مؤمنة بأن الكتابة ليست ترفًا، بل فعلُ وجودٍ ومقاومةٍ وجمال. تمضي بخطاها نحو الضوء، متسلحة بالإصرار والرؤية والقدرة على تحويل الوجع إلى نصٍّ، والعزلة إلى لغةٍ تنبض بالحياة.
لم تكن مريم خليفة ممن ينتظرون أن يُفسح لهم المكان، بل صنعته بنفسها، كلمةً بعد كلمة، وصفحةً بعد أخرى، حتى غدت تجربتها الأدبية ناضجة الحضور، صادقة البوح، نابضة بالصدق الإنساني. ويأتي كتابها الثاني «وحدي وظلي» شاهدًا جديدًا على هذا الإصرار الجميل، وامتدادًا لمسيرتها الأدبية التي تتجذر في عمق الوعي والوجدان. في هذا العمل، تؤكد الكاتبة أنها لا تكتب من هامش العزلة، بل من قلب الحياة، ومن صميم التجربة التي تصهر الذات لتولد من جديد على هيئة نصٍّ مفعمٍ بالمعنى والإحساس.
إنها كاتبةٌ تؤمن بأن الكتابة موقفٌ من العالم، وأن الكلمة لا تنبت إلا في أرضٍ روَتها المعاناة والأمل معًا. بهذا الإيمان، استطاعت أن تحجز لنفسها مكانًا لائقًا بين الأصوات الأدبية الأردنية والعربية، لتغدو حضورًا ثقافيًا يُحسب له أثره وبصمته الخاصة.
مريم خليفة، كاتبةٌ من طين العزيمة، تكتب لتبقى، وتبقى لأنها تكتب. وها هي، في «وحدي وظلي»، تعلن مجددًا أن الإصرار حين يتحد مع الموهبة، يصنع أدبًا يليق بالروح وبالإنسان.
في “وحدي وظلي”، تقف مريم خليفة خليفة على تخوم الذات، تكتب بحبرٍ من وجعٍ ممزوجٍ باليقين، وتغزل من الوحدة نسيجًا من حنينٍ وعنادٍ واحتراقٍ نبيل. نصوصها النثرية ليست بوحًا عابرًا، بل مسافة بين روحٍ تبحث عن مأوى وظلٍ يحاول أن يكون لها وطنًا. إنّها كتابة الذات حين تتخذ من اللغة مرآة، ومن الحزن رفيقًا، ومن الحبّ خلاصًا مؤجّلًا. يتبدّى في هذا العمل أنثى تكتب لتشفى، وتستعيد عبر الكلمة توازنها في عالمٍ مائلٍ على حافة الغياب.
فالكتاب لا يُقرأ بعين العقل فحسب، بل بوجدانٍ يصغي لارتجاف الكلمات وهي تتلمّس طريقها نحو النور.
العنوان “وحدي وظلي” يقوم على تضادٍّ إيحائيٍّ يشي بجدلية الحضور والغياب، الذات والقرين، النور والعتمة.
في كتاب “وحدي وظلي؟”، تتجلى الذات في حوارها السرمدي مع انعكاسها، حيث لا يكون الظل مجرد امتداد جسدي، بل مرآة روحية تسائل وتعاتب وتواسي. العنوان نفسه سؤالٌ وجودي، يحمل نبرة التردد والدهشة، كأن الكاتب يكتشف ذاته للمرة الأولى في مرآة الصمت.
كلمة “وحدي” تحمل شحنة الوحدة والانفصال والانعزال الوجودي، بينما “ظلي” تستدعي فكرة المرافق الخفي، أو الأنا الثانية التي لا تفارق صاحبها، حتى في العزلة.
إنّها ثنائية وجودية بامتياز، تضع الكاتبة أمام ذاتها كأنّها تناظر ظلّها لتتحقق من ملامحها في مرآة الغياب. الظل هنا ليس مجرد أثرٍ للضوء، بل قرينٌ يرمز إلى الذاكرة، إلى الوطن، إلى الحب الغائب، إلى كل ما تبقّى من الإنسان حين يتآكل من الداخل.
العنوان إذن مفتاح رمزيٌّ للكتاب بأكمله، حيث تتقاطع فيه العزلة الوجدانية مع الحضور الشعري للذات الكاتبة.
اللغة في هذا العمل تنساب كجدولٍ من الحنين، تتخللها ومضات تمرد على العزلة، وعلى صمت الظل الذي لا يجيب إلا حين يُستفز. الجمل تتراقص بين الإيقاع الداخلي والتكثيف الشعري، فتغدو كل فقرة كأنها بيتٌ من قصيدة نثر، يقطر وجعًا أو رجاءً.
عيوني ترحل إليك /لترسل لك باقةً /من الحب والاشواق /قلبي فتحت أبوابه لك /لعلي غداً ألقاك
هنا، تتجلى البلاغة في المفارقة: الظل شريك الغياب لكنه لا يملك دموعًا، مما يضفي على الوحدة طابعًا مأساويًا لا يخلو من السخرية الوجودية.
لغة مريم خليفة خليفة تفيض بالعاطفة والنبض الداخلي، فهي تكتب كما لو كانت تنزف من قلبها مباشرة.
تستعير من الشعر لغته الكثيفة، ومن النثر رهافة انسيابه. فتغدو جملها أشبه بوشوشاتٍ على حافة البكاء:
“أنت معي كظلي، لا تتركني أبدًا، هم لا يشعرون بسعادتي حين أكون معك…”
هذه الصورة البسيطة في ظاهرها تحمل عمقًا عاطفيًّا كثيفًا، إذ يتحول الظلّ إلى معادلٍ رمزي للحبيب، للحضور الغائب، للثبات في زمنٍ متحوّل.
كما نجد في نصوصها صورًا تستقي مادتها من الطبيعة لتمنح المعنى روحًا حية:
“أكتب على أوراقٍ بيضاء كالثلج، بحروفٍ من ذهب تشبه سنابل القمح عند ضوء الشمس…”
الصورة هنا ليست تزيينية، بل كاشفة، تربط بين الكتابة والخصب والنقاء، بين الحرف والحياة.
أما في مقاطعها الوطنية، كحديثها عن فلسطين، فإن الصورة تتشح بالغضب والحلم في آن:
ففي نص بعنوان أنا بنت فلسطين تقول :
لاجئة أحلم بالعودة كغيري /من أبناء وطني فلسطين /الى متى سنظل صامتين /نكمم أفواهنا كي لا يتم جرنا /كشاة ضعيفة تساق الى حتفها الأخير
الكتاب لا يسير على خط سردي تقليدي، بل يتشكل من شذرات، كأنها نُثار مرآة تحطمت، وكل قطعة تعكس وجهًا مختلفًا للكاتب. هذا التفكك البنيوي يعكس تفكك الذات، ويمنح القارئ فرصة للغوص في أعماق غير مرتبة، لكنها صادقة.
“وحدي وظلي” ليس مجرد مجموعة خواطر، بل عمل نثري وجداني يزاوج بين الشاعرية والاعتراف.
يستند الكتاب إلى أسلوب النثر الفنيّ الذي يقف عند تخوم الشعر الحرّ، إذ تتخلله التكرارات الموسيقية، والجمل الموزونة عاطفيًا لا عروضياً، ما يمنحه موسيقى داخلية تنبع من حرارة الإحساس لا من إيقاع الوزن، على الرغم من غياب الوزن الشعري، إلا أنّ الإيقاع يتجلّى في:
• التكرار الوجداني: كأن تقول “آه لو تعلم كم أشتاق لك”، فتتردد الجملة كأنها موجة.
• التنغيم الصوتي: عبر استخدام السجع الخفيف (“روحي تغدرني… عيوني تؤلمني”).
• النَفَس الطويل للجملة الذي يعكس تيار الوعي الداخلي.
إنّنا أمام أسلوبٍ يعتمد الإيقاع الداخلي أكثر من الخارجي، أي أن الموسيقى هنا نابعة من توتر العاطفة لا من تناغم الأوزان.
وتبرز أهمية العمل في أنه:
• يوثّق صوت أنثوي صادق يتكلّم من عمق التجربة الإنسانية لا من هامشها.
• يحتفي بالذات المقاومة التي تكتب كي لا تنكسر.
• يمزج بين الخاص والعام: بين الحنين الشخصي والهمّ الوطني، بين الحبّ والفقد، بين الجرح والكتابة.
إنه كتاب يقدّم النثر لا كفنّ ترفيهيّ، بل كفعل بقاءٍ في وجه الزوال.
في النهاية، يمكن القول إن مريم خليفة خليفة في “وحدي وظلي” قد أنجزت نصًّا أنثويًّا بامتياز، لا لأنه يتحدث بلسان امرأة فحسب، بل لأنه ينطلق من حسٍّ وجوديٍّ شفيف يرى العالم من عتمة الداخل إلى ضوء الحرف.
كتاباتها ليست تنظيرًا أدبيًّا، بل اعترافٌ شعريّ بلغةٍ تكتب ما لا يُقال.
لقد استطاعت الكاتبة أن تحوّل الوحدة إلى قصيدة، والظل إلى رفيقٍ دائمٍ في ليل الغياب، لتُثبت أن الأدب الحقيقي يولد من الألم لا من الرفاه، ومن البوح لا من الزخرفة.
“وحدي وظلي” عمل نثري يقطر من قلبه الصدق، وتنبض فيه روحُ امرأةٍ تصالح الحبر مع الجرح، لتكتب وجودها بحروفٍ من ضوءٍ وحزنٍ جميل.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية

