سبايا سنجار اللغة كمرآة للانكسار الإنساني في «سبايا سنجار»، يغوص سليم بركات في عتمةٍ صنعها الإنسان الكردي والعربي والسوري لا ليكشفها فقط بل ليعيد ترتيب موتها في ذاكرة اللغة. الرواية ليست مجرد توثيق لمأساة الإيزيديات اللواتي اختُطفن من سنجاربل اشتقاق وجودي لما بعد الأسر لما بعد الفجيعة، حيث تصبح اللغة نفسها سبية والجسد أرضًا تُستباح في التاريخ والوجدان معًا. بركات لا يروي الأحداث بل يُهذي بمقامات الخسارة. السرد عنده لا يسير خطيًا بل يلتف ويتشابك ويتناسخ كأن النص حيوان أسطوري ذي أنفاس متعددة النساء في الرواية لا يُقدَّمن كضحايا بل كمرايا لانهيار الإنسان في عصر فقد فيه الحياء، لغة الصمت في مواجهة الفجيعة وترنيمة الانكسار في وجه الزمن. سنجار ليست مكانًا هي تجويف في الروح الكردية حيث تتحوّل الجغرافيا إلى استعارة للذاكرة نفسها الطرق المؤدية إلى الجبل والخيام على الحدود ليست تفاصيل مادية هي انحراف دلالي نحو أصل الوجود الكردي، المكان هنا مرثية للمكان في سلسلة انمحاءات متتالية. السبايا في الرواية لسن مجرد أجساد تُساق إلى الأسر بل لغة تتردد، صدى متكسّر، جزء من تراجيديا لاهوتية لم يكتمل فجرها. بركات لا يطالب لهنّ بالعدل بل بالاعتراف لا يحررهن من الألم بل يجعل الألم موضوع الخلاص ذاته. اللغة عنده ليست أداة بل شخصية قائمة بذاتها تنجب وتنزف وتصرخ كأن الكاتب يكتب في ما وراء اللغة حيث تتكسر المفردات كالعظام وتنتصب الجمل كأطلال – يمزج بين الشعر والنثر، الدعاء واللعن، الصمت والتكفير فيتحوّل النص إلى ساحة حرب لغوية، البلاغة أداة جلد والمجاز وسيلة لاستنطاق ما لا يُقال الهوية الممزقة تتجلى هنا ليس كجماعة إثنية بل كفكرة منفية، عبء ورثته البشرية لا امتيازًا كل انتماء قيد جديد وكل محاولة للانفصال عبودية جديدة لتطرح الرواية سؤالًا: هل الإنسان سبى التاريخ أم أن التاريخ سبى الإنسان؟ حتى مع التمسك بالمأساة الواقعية لاختطاف الإيزيديات تتحول الرواية إلى نص كوني عن سقوط الإنسان بركات لا يسمي داعش لأن التسميات تُفسد الطقس الأسطوري للنص بل يجعل من الجريمة حدثًا وجوديًا ومن الألم صلاة لا تنتهي الذاكرة تتحوّل إلى وهم والوهم يصبح الشكل الوحيد للبقاء الزمن لا يسير بل يدور والتكرار ليس عيبًا بل نظام، كل مشهد مرآة لمشهد آخر، كل صوت صدى لصوت غائب، في طقس لغوي أشبه بالإنشاد الصوفي حيث الغاية الدوران حول الحقيقة لا الوصول إليها. الرموز اللغوية في النص نظام كوني أشبه بخيمياء لسانية بين الميثولوجي والديني، المادي والمتعالي. كل كلمة طقس عبور تتجاوز معناها لتصبح كائنًا روحانيًا ينتمي لعالم ثالث بين الإنسان واللاهوت. الأسماء تتحول إلى رموز محملة بأثر صوفي، كردية المذاق وعربية الجذر، غامضة الانثناء. اللغة كخلاص ومحرقة قادرة على التطهر من العار الإنساني تُحرق لتضيء، كلمات مثل الضوء، النور، الرماد، الحبر، الصمت، الدم، تتكرر كمفاتيح لرحلة تطهير لغوي، كل سبية تبحث عن اسمها المفقود والكاتب يبحث عن الاسم المفقود للغة نفسها لاستعادة الاسم الأول الذي فقده الإنسان حين خان كلمته الأولى. المرأة في الرواية رمز ميتافيزيقي ليست جسدًا بل وجه آخر للحقيقة التي لا تُحتمل- كل امرأة تمر بمراحل الخطف والنجاة والذاكرة كالسلوك الروحي نحو الحقيقة، حريتها ليست جسدية بل من الخوف فالشفاء الروحي هو لب الصوفية. الجبل يظهر كمعراج داخلي، الذات العليا التي تصعد إليها الشخصيات كـ«الاسم الأعظم» للمكان الذي يتطهّر فيه الكردي من ظلم التاريخ وحضور الماء والنور والريح يشكل كونًا رمزيًا مغلقًا لا يُقرأ إلا بتأويل صوفي. التكرار في النص ذكر صوفي، الجمل والصور والأسماء تتكرر كأنها وردة تنكشف فيها الرؤيا النص كله حلقة ذكر جماعية لأرواح النساء اللواتي غاب عنهن العدل ولم يغب الصوت، رواية إنشاد لغوي يبحث عن المطلق من خلال الفقد. الأسطورة تقيم في نحوية الجملة ليست حكاية بل طريقة للنظر إلى العالم، لإعادة المعنى إلى الرماد وتحويل الخراب إلى صدى لبداية جديدة. الجملة عند بركات ليست مجرد نثر هي ارتجال موسيقي، نص يُعاش بالصوت قبل الفهم، الالتواء في الجملة كشف للجَرح الإنساني من خلال التناسخ الصوتي، النفَس الطويل يمتد بلا انقطاع، تنوع الأصوات يتجاور كثافة اللغة مقابل فراغ الصوت كل ذلك يخلق موسيقى من الفوضى وصدى اللغة يمتد من الميتافيزيقا إلى الجسد فالكلمة تمتلك جسدًا مؤلمًا ومنتفِسًا يحسّه القارئ في الحنجرة والجلد والنهاية صوتية: – اللغة لا تنطفئ بل تتحول إلى نفَس طويل ممتد والصمت نفسه يقول. في هذا النص اكتملت تجربة بركات في ثلاثية مترابطة: اللغة كجسد ميتافيزيقي، الرمز كطقس صوفي، والصوت كبنية سردية لتتجاوز الرواية حدود السرد الواقعي إلى سيرة الروح الكردية في المنفى الإنساني الأكبر بركات لم يكن مجرد روائي هو موسيقي للغة وشاعر للواقع الممزق حيث تتجاوز الرواية الشعرية التجريبية حدود التقنية لتصبح فلسفة وجودية، تجربة صوتية وميتافيزيقية، تجربة إنسانية كلية، تجربة صوفية، تجربة وجودية، تجربة شعرية في آنٍ واحد، تجربة الإنسان الذي صار سبية لغته واللغة التي أصبحت سبية التاريخ نفسه.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية