بقلم: علاء دياب
تقدّم الكاتبة الأردنية تبارك الياسين في مجموعتها القصصية القصيرة جدًا “هواءٌ مرٌّ في رئتيَّ” الصادرة حديثا عن دار العين للنشر والتوزيع تجربة سردية مغايرة تعتمد على كثافة اللحظة وعمق المعنى، وتؤسس لنمط تعبيري يوازن بين الشعرية والوجدان. تنتمي المجموعة إلى أدب القصة الومضة، لكنها تتجاوزه إلى مساحةٍ تأملية تجعل من الصمت لغة، ومن التكثيف وسيلة للكشف عن هشاشة الإنسان وجرحه الوجودي.
تهدف هذه القراءة إلى استكشاف البنية الجمالية والفكرية للمجموعة من خلال منهج تأويلي جمالي، يركّز على تفاعل اللغة مع التجربة، وتحول المعنى إلى حالة شعورية تتجاوز حدود النص إلى الوعي الإنساني العام.
تقوم القصة القصيرة جدًا في مجموعة الياسين على مبدأ الاقتصاد الحاد في اللغة، والاعتماد على اللمح لا البوح. الجملة الواحدة عندها قادرة على احتواء عالَم كامل من الإيحاء.
لا تميل الكاتبة إلى السرد التقليدي، بل تبني نصوصها على انفعال لغوي يصوغ المشهد الداخلي لا الحدث الخارجي. وهنا تتجلى بلاغتها الخاصة التي يمكن وصفها بـ”بلاغة الصمت”، حيث المعنى ينشأ من المسكوت عنه بقدر ما ينشأ من المنطوق.
كل قصة تشبه “نَفَسًا عميقًا” في صدر مثقل، لكنّه رغم مرارته، يعبّر عن إصرار الإنسان على الحياة. وهذا ما يمنح العنوان نفسه — “هواءٌ مرٌّ في رئتيَّ” — طابعًا رمزيًا جامعًا بين الألم والتشبث بالبقاء.
تتوزع قصص المجموعة على ثيمات إنسانية متشابكة: الحرب، الفقد، الحب، الطفولة، والوطن. غير أن ما يوحّدها هو الإحساس العام بـ”المرارة الجميلة”، أي القدرة على تذوق الألم بوصفه تجربة وعيٍ لا هزيمة.
الحرب تظهر كظلٍّ ثقيل يترك أثره على الروح لا الجسد، لتغدو الجراح رموزًا للإنسانية المنكسرة.
الفقد يحضر كحقيقة كونية لا كحادثة فردية، فكل فناء عند الياسين هو أيضًا ميلادٌ جديد للذاكرة.
الحب يُصاغ كقوة مقاومة، مساحة دافئة وسط العاصفة، لكنه لا يخلو من الشجن.
الطفولة تُستدعى كزمن هشٍّ، ملوّث بالخوف والدهشة، كأنها لحظة الميلاد الأولى للألم.
أما الوطن، فيبدو عندها جرحًا نبيلًا؛ بيتًا لا يُقيم في الخارج بل في الذاكرة.
من خلال هذه الموضوعات، ترسم الياسين صورة للإنسان ككائن هشّ لكنه حيّ، يتنفس رغم امتلاء رئتيه بالوجع، ويجد في الكتابة وسيلته الوحيدة للبقاء.
تقوم القصص على مفارقات دلالية حادّة، غالبًا ما تنقلب في الجملة الأخيرة، لتصنع دهشة مفاجئة تُعيد قراءة النص من بدايته.
الرمز عند الياسين ليس تزيينيًا، بل بنية فكرية تُعبّر عن رؤيتها للوجود. فـ”الهواء” هو رمز للحياة، و”مرارته” دلالة على وعيٍ مؤلم بالواقع.
كما تعتمد الكاتبة على التوتر بين المتناقضات — الحياة/الموت، الضوء/العتمة، الحب/الفقد — لتُحوّل القصص القصيرة جدًا إلى تجارب فلسفية مصغّرة، تتجاوز المباشرة إلى المعنى المتعدد.
هذه الرمزية الهادئة تمنح النصوص عمقًا تأويليًا يجعلها قابلة لإعادة القراءة في كل مرة، من زوايا نفسية أو وجودية أو حتى سياسية ضمنية.
يظهر في هذه المجموعة بوضوح تفرّد صوت تبارك الياسين السردي، فهي لا تنتمي إلى تيار تقليدي، بل تخلق لنفسها هوية لغوية خاصة تمزج بين النبرة الشعرية والدقّة التعبيرية.
تأثرها بالفنون التشكيلية ينعكس في بناء المشهد السردي، حيث الفراغ، الضوء، واللون يؤدّون دورًا دلاليًا موازيًا للكلمة.
نصوصها قصيرة لكنها مشحونة بطاقة جمالية عالية، تعتمد على الإيقاع الداخلي، والانسجام الموسيقي بين المفردات، مما يجعل القارئ يعيش التجربة كما لو كانت لوحة تنبض بالكلمات.
تمتاز المجموعة بقدرتها على خلق أثرٍ طويل المدى من نصوص قصيرة جدًا، إذ تفتح أمام القارئ فضاءً من الأسئلة بدل أن تمنحه إجابات جاهزة.
القارئ في هذا العمل ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في بناء المعنى، وهذا ما يمنح النصوص قوة تفاعلية عالية.
تُحافظ الياسين على وحدة الإحساس رغم تنوع الموضوعات، مما يجعل المجموعة تُقرأ ككلٍّ متكامل أكثر منها نصوصًا متفرقة، إذ يجمعها خيطٌ شعوري واحد هو إرادة التنفّس وسط الغبار.
تأتي “هواءٌ مرٌّ في رئتيَّ” ضمن موجة جديدة من الكتابة القصصية الأردنية التي تميل إلى التكثيف الشعوري واللغة الشعرية، متقاطعة مع تجارب كتّاب معاصرين سعوا إلى تجديد شكل القصة الومضة وتحريرها من التقريرية والمباشرة.
تمثل المجموعة خطوة متقدمة في هذا السياق، إذ تجمع بين البناء الجمالي الرصين والرؤية الإنسانية العميقة، وتُسهم في ترسيخ حضور المرأة الكاتبة في المشهد السردي العربي بصوت واعٍ بذاته ولغته وتجربته.
إن تبارك الياسين، عبر هذا العمل، تؤكد مكانتها كواحدة من الأصوات السردية الشابة التي تمزج بين الحس الجمالي والرؤية الفلسفية، لتضع بصمتها الخاصة في المشهد الأدبي الأردني والعربي الحديث
تُعيد مجموعة “هواءٌ مرٌّ في رئتيَّ” تعريف القصة القصيرة جدًا بوصفها فنًّا للحظة، وللتأمل، وللإنصات إلى الداخل.
إنها ليست مجرد سردٍ للأحداث، بل كتابة عن الإحساس بالحياة في لحظة الوجع.
ومن خلال لغتها المصفّاة وصورها البصرية والرمزية، تضع تبارك الياسين بصمة خاصة في مسار القصة العربية الحديثة، حيث يصبح التنفس ولو كان مرًّا فعلًا من أفعال المقاومة الجمالية.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية