بين الحضور والغياب: قراءة في بنية الذاكرة والوجود في قصيدة «أنا هنا»للكاتب محمد صوالحة بقلم: الشاعرة اللبنانية الدكتورة زبيدة الفول( زنبقة القصيدة)

انا هنا
****** لــ : محمد صوالحة
أنا هنا
وانا هناك
أداعب خيوط الذكرى
الملم اشلاء امسي
واحصي الذي
ضاع من عمري
لعلي اعيد
قلبي
لدرب الحياة

وانت
هناك
وحيدا
تداعب وجه العتمة

تحلم تحلم
تحلم أن
تحرق صور الأمس
وتحلم أن
تنمو اصابع كفك
لتكتب
قصيدة للفصول ..
للقيض .. وللمطر
للعري … وللرداء المستعار
والنهر مثلك صديقي
راحل
يسري
وحيدا
يبلل التراب
لينبت الزهر في دروبك
وانت
ما تأملت الضفة
حين ناديت المطر
ولا لامست موتنا
حين صرخت
لا تساوم
لا تصالح
ولا تنادي في الدنيا
غيرك

المقدّمة

تمثّل القصيدة الحديثة اليوم مساحةً تتقاطع فيها الذات الإنسانية مع أبعادها الوجوديّة والزمانيّة، حيث يتحوّل الشعر إلى حوارٍ داخليّ مع الذاكرة والزمن والمكان. في هذا الإطار تتجلّى قصيدة «أنا هنا» للكاتب محمد صوالحة بوصفها نصًّا يتشكّل على تخوم الحضور والغياب، ويقيم جدله الشعري بين “الأنا” المتكلّمة و”الآخر” الغائب، في لغةٍ تتجاوز البوح المباشر لتؤسّس عالماً رمزياً تتشابك فيه عناصر الطبيعة والذات والذاكرة.
يبدو النصّ أقرب إلى قصيدة وجدانية تأملية، تتكئ على الحوار الداخلي والمناجاة، وتتحرك ضمن فضاءٍ حرٍّ يتجاوز حدود الوزن والقافية، ليعبّر عن تجربة إنسانية مشبعة بالحنين والانكسار والأمل في الانبعاث.

التحليل الفني

أولاً: البنية الدلاليّة

تنطلق القصيدة من فعل الوجود ذاته: «أنا هنا / وأنا هناك»، وهو مفتاح دلالي يُقيم ثنائية أساسية بين المكانين: “الهنا” الواقعيّ و”الهناك” الرمزيّ، في ما يشبه تداخل الحضورين الجسديّ والروحيّ.
يتّخذ النصّ شكل رحلةٍ داخل الذاكرة، حيث تتوالى أفعال الحركة: أداعب، ألمّ، أحصي، أعيد، وهي أفعال توحي بمحاولة ترميم الذات المبعثرة واستعادة ما تبقّى من الزمن الضائع.
ثمّ يتقابل هذا الحضور الأنثويّ أو الإنسانيّ المتكلم مع حضورٍ آخر هو “أنتَ”، الذي يُقدَّم بوصفه صورةً للغائب، الساكن في العتمة، الغارق في أحلام الاحتراق والتجدّد.
يتحوّل “النهر” في النص إلى رمزٍ مراوغٍ يجسّد المسار الزمنيّ للحياة؛ فهو “راحل” كما الإنسان، غير أنّ رحيله يترك أثرًا خصبًا حين “يبلل التراب لينبت الزهر”، في مفارقة تجمع الموت بالحياة، والغياب بالولادة.

ثانيًا: البنية اللغويّة والأسلوبيّة

تقوم اللغة في القصيدة على الاقتصاد والتكثيف، إذ تتجنّب الاستطراد وتلجأ إلى الصورة الموحية.
تتكرّر بنية الفعل المضارع، ما يمنح النصّ حيويةً واستمراريةً زمنية، ويُبرز حركة الشعور المتحوّل بين الحنين والمقاومة.
أما الضمائر فتؤدي دورًا جوهريًا في تشكيل المعنى؛ فضمير المتكلم يرسّخ حضور الذات الباحثة، وضمير المخاطب يستدعي الآخر الغائب ضمن حوارٍ داخليّ تتناوب فيه الأصوات.
القصيدة تعتمد أيضًا على التوازي التركيبي في قول الشاعر:
«تحلم تحلم / تحلم أن تحرق صور الأمس / وتحلم أن تنمو أصابع كفك…»
هذا التكرار البنائيّ يُحدث إيقاعًا داخليًا متناميًا، يعكس اضطراب الذات وتوقها إلى الفعل، كما يشكّل إحالةً رمزية إلى عبث الحلم في مواجهة الواقع.

تتجلّى الاستعارة بشكلٍ كثيف في النصّ، مثل:
«تداعب خيوط الذكرى» و«تلمّ أشلاء الأمس»، وهما صورتان تُجسّدان العلاقة المعقّدة بين الذاكرة والوجع، وتحوّلان المعنوي إلى ملموس عبر حسّ اللمس، وهو ما يخلق بعدًا تجسيديًا واضحًا في الخطاب الشعري.

ثالثًا: الإيقاع والموسيقى الداخلية

القصيدة تُكتب بلغة الشعر الحرّ، لكنها لا تتخلّى عن الموسيقى. الإيقاع فيها يتولّد من تكرار المفردات ومن التوازن بين الجمل، كما في:
«ولا تساوم / لا تصالح / ولا تنادي في الدنيا غيرك»
هذه الجمل القصيرة المتتابعة تشكّل ما يشبه الإيقاع التصاعدي الذي يوازي الصرخة الوجودية الأخيرة، وتحوّل النداء إلى فعلٍ شعريّ نابض بالحركة والرفض.
الموسيقى هنا ليست خارجية بل داخلية نابعة من التكرار الصوتي والتنغيم، وهو ما يمنح النصّ طاقةً وجدانية هادئة ولكن مستمرة.

رابعًا: الصورة الشعرية والرمز

يحتلّ الرمز الطبيعيّ مكانًا محوريًا في النصّ: المطر، النهر، الزهر، التراب، الضوء، العتمة…
كلّها عناصر تُستخدم لا بوصفها مشاهد وصفية، بل كمفاتيح دلالية تعبّر عن التحوّل والخصب والانبعاث.
العتمة هنا ليست مجرد ظلمة حسّية، بل رمز للعجز أو العزلة، بينما المطر هو صوت النداء الداخلي للحياة.
النهر يشكّل المحور الدلالي الأهم، إذ يتماهى مع الإنسان في رحيله وسعيه إلى الخصب، في تكرارٍ لثيمةٍ وجودية معروفة في الشعر الحديث: وحدة المصير بين الإنسان والطبيعة.

خامسًا: البنية العاطفية والفكرية

النصّ يقوم على انفعالٍ مزدوج: حنين إلى الماضي ورفض للجمود.
«لعلي أعيد قلبي لدرب الحياة» جملة تحمل نزعة خلاص، فهي ليست مجرد رغبة في الحبّ، بل في العودة إلى الفعل الوجوديّ ذاته، أي إلى النبض والحركة.
تتجاوز القصيدة التجربة الذاتية إلى تأملٍ فلسفيّ في معنى البقاء والرحيل، وتحاول عبر رموزها أن تمنح الألم معنى خلّاقًا.
بهذا المعنى، تتجاوز القصيدة خطاب العاطفة الفردية إلى خطابٍ إنسانيّ عام يُسائل العلاقة بين الحياة والموت، والذاكرة والنسيان.

الخاتمة

تقدّم قصيدة «أنا هنا» تجربةً شعريّة ناضجة في رؤيتها ومتماسكة في بنائها، تنفتح على أفقٍ رمزيّ وفكريّ متعدّد الطبقات. إنها نصّ يتحرّك بين التأمل والبوح، ويستثمر اللغة في كشف الباطن الإنساني، حيث يصبح المطر والنهر والذاكرة وجوهًا متعدّدة للذات الواحدة الباحثة عن خلاصها.
يُبرز هذا العمل قدرة الكاتب محمد صوالحة على توظيف الصورة والرمز في بناء نسيجٍ شعريّ يُوازن بين الحسّ الإنسانيّ والتأمل الفلسفيّ، وبين البنية اللغوية المكثفة والموسيقى الهادئة المتدفّقة، ليُنتج قصيدةً تستحقّ الوقوف عندها بوصفها نصًّا إنسانيًّا يتجاوز حدود التجربة الشخصية نحو أفقٍ أكثر شمولاً وعمقًا.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!