الدكتورة المعربية جواهر أحمد تقرأ نص (هلوسة الشارع)للكاتب الأردني محمد صوالحة

النص: 
*****

هلوسة الشارع
*** محمد صوالحة
حين تمل النوم، وتكره الأحلام المتكررة، تنهض من مرقدك، تركل سريرك، تبعثر ما عليه، وتغادره مسرعا، تقف أمام المرآة، تتعرف على تفاصيلك، وحين تدهشك ملامح جديدة بدت واضحة على وجهك الذي بالكاد تتعرف عليه، تفر إلى حيث البعيد البعيد، تلجأ لحضن معشوقك الأزلي تشكو له ثقل احلام تراودك، وتبث له معاناتك من كلمات لا تسطيع إصلاح ما بتر منها، تلجأ لحضن عشقك،إلى الشارع الذي طالما احتضن خطاك، وأنت تعبره بكل ما تحمل من جنون القلب واللحظة، يناديك الرصيف، كم من الطمأنينة يبعثها في قلبك وأنت تراقب وجوه المارة، على الرصيف تستعيد طفولتك،وكثير من كلام يبوح إليك به،فتشعر بنشوة اللحظة وجمال اللحظة حين تعود طفلا مجنونا أو مشاغبا يسرح جديلة الشارع ويستعيد ذكريات يحفظها،يلهمك قصيدة الأمس ، وإنشودة اليوم وترتيلة الآتي من لحظات، تستل قلمك لتنقش على كفك، على صدرك، وعلى جبين رصيفك المجنون كلمات لا يقراؤها إلا أنت ورصيفك وسيدة العشق أميرة القلوب عمانك، فسلام لعمان وسلام على عمان وشوارعها وكثيرمن أهلها، سلام على رصيف يعيد الي جنوني، ويرشدني لطفلي الذي تاه مني، عماني، حين تناديني شوارعها ألبي بلا تفكير . لأني أعلم هدايا تلك الأرصفة، كيف ترسم لي صورة ، وكيف تحتضن خطاي هي الشوارع التي تعيدني صغيرا ، هي الشوارع التي تمنحني من السعادة لما يكفي لعمر قادم وهي تكتب اسمي بالأبيض على حجارتها التي اتخذت من اللونيين الأصفر والأسود لونا لها ولا أدري سر الارتباط بين الأبيض والأسود ومع هذا يطير بي الفرح إلى فضاءات أخرى، فضاءات جديدة لم أعهدها من قبل، تأخذني النشوة وهو يرسم صورة للونا إبنة الليل الذي أعشق، وأخرى لسما التي طالما أنعشت أحلامي، وثالثة لحسان أخر لم أعرفهن من قبل، يطير بي إلى حيث أنت تقيمين بمحرابك الذي لا يدخله إلا من اغتسل بالندى ، وتوضأ بدمع لا يشبه الدمع، حينها اتكئ على حافة الرصيف وأغرق بحلم جديد.

 

القراءة 
*****

ربما لن نحاول فهم المقروء بالنظر للغة مادام النص يطل علينا من مستوى الطاقة الباطنية والاتصال الكوني التي تمثلها الأزمة الداخلية وانفكاك الوعي الفردي. حيث يتضح من عبارت (تُملّ النوم، وتكره الأحلام المتكررة) رفض الشاعر والكاتب محمد صوالحة لتكرار فعل النمطية والسرديات المغلقة، إنه تمرد وجودي عميق على الخضوع لدورة الروتين واللاوعي المقيد. فهذا الرفض لا يقتصر على كراهية الفعل اليومي للنوم، بل يتجاوزه ليصبح إعلانًا عن انفجار لوعي يرفض النموذج المكرر والذاكرة المغلقة.
فهذه العبارات لا تشير إلى إقرارٍ بضجرٍ نفسي، بل هي تأسيسٌ لحقلٍ دلاليٍ يرفض استبداد التكرار، ويغوص في أعماق اللغة ليُفجّرها. فجوهريا الشاعر محمد صوالحة يرفض فعل الاستكانة المُمَنهج والارتكاس اللاواعي. إلا أن النوم هنا لا يمت بصلة إلى الحالة الفسيولوجية وحاجة الإنسان الطبيعية له، بل هو النموذج الأصلي للوعي المنساق الذي يرتضي الانغلاق في دائرة النمطية القاتلة.
ويكره محمد صوالحة الأحلام المتكررة لأنها تُجسّد فشل الذاكرة في الإبداع، وتحوّلها إلى شريط سردي مُعاد، لا يمنح الذات سوى وهم العزاء. فهو يرفض أن تكون الذات سجينة لإلزامية السرد القديم، مُعلنًا بذلك تمرّدًا واضحًا على قوانين الاستقرار الوجودي.
وقد ترمز الأحلام المتكررة إلى استعادة الماضي دون تجديد والوقوع في فخ السردية الشخصية أو الجماعية غير المتغيرة، بينما يمثل النوم حالة من الاستكانة والسلبية والخضوع للنظام المألوف. وبالتالي، فإن الفعل الذي يرفضه الشاعر هو الاستسلام للروتين الوجودي ولما هو متوقع ومُعاد، سعيًا للانفصال عن الوعي المقيد بزمن وسرد تقليديين.
هذا التمرد هو قفزة وجودية ضرورية تهدف إلى تفكيك الذات ورفض الانخراط في مصفوفة التكرار المادي. و هذه النقطة هي الشرارة التي تدفعها (أي الذات) للهروب إلى الشارع، الذي يتحول بدوره إلى طاقة وجودية خام، حيث يمكنها أن تحقق التحرر إلى حالة الجنون والإبداع الأصيل، و رفض للقيود و كسر حدود السرد المألوف. وهذا الرفض هو شرطٌ للتطهير، و ركلٌ لحجاب الوهم الذي يفصل بين الذات و حقيقتها الكونية. وبذلك، تُصبح العبارة مدخلاً لولادة الذات المُبدِعة، التي لا تجد خلاصها في اللغة المنطقية المُتداوَلة، بل في هلوسة الشارع، أي في الطاقة الخام التي تتجاوز حدود الزمن والفكر، وتكتب وجودها بحبرٍ جديدٍ لا يعرف الرتابة.
يُمثّل نصّ هلوسة الشارع للشاعر محمد صوالحة رحلةً مكثفةً تبدأ بأزمة وجودية عميقة وتنتهي بإعادة خلق الذات، هذه الأزمة لا تُفسَّر كأزمة نفسية فردية، بل كرفضٍ كونيٍّ للنموذج المكرر. حيث يتحول الفضاء المادي إلى مرجع روحي بديل يحل محل اللغة والسرديات التقليدية العاجزة. إذ يبدأ السرد بفعل تفكيكي جذري ورفضٍ للسرد المغلق المتمثل في الأحلام المتكررة. أما السرير الذي يُركل ويُبعثر، فهو يرمز للفضاء النمطي والماضي المُستهلك، بينما تُشير “كلمات لا تستطيع إصلاح ما بتر منها” إلى أزمة اللغة التواصلية التقليدية وعجزها عن احتواء الوجع الداخلي للذات المتشظية التي ترى انعكاسها في المرآة فيتأكد لها هذا التشظي و التمزق، حيث يندهش السارد من ملامحه، معلنًا تشظي الهوية وضرورة الهروب من إلزامية الأنا الثابتة.
فالخلاص الوجودي للشاعر محمد صوالحة لا يتحقق إلا عبر الهروب إلى الشارع، الذي يتسامى عن كونه معبرًا جغرافيًا ليصبح المعشوق الأزلي والحضن المُحتوي. فالشارع، بصفته فضاءً عامًا، يتحول إلى نصّ بديل يمنح الطمأنينة. أما الرصيف فيتحول إلى كائن ناطق يمارس فعل البوح والإرشاد، مُعيدًا للذات حقيقتها الضائعة. وأيضا يتقمص دور المُربّي الذي يعيد السارد إلى طفله المجنون والمشاغب، ليُعلن ميلاد حالة وجودية جديدة تعتمد على الحرية والإبداع، وتتجاوز قيود الذاكرة المقيّدة. وبالتالي فإن الرصيف، “المذبح الروحي الذي يناديه ويبعث الطمأنينة”، يصبح مركز الطقوس حيث يُضحّي السارد بوعيه المادي المنهك (الركون إلى السرير) مقابل الولادة الجديدة كطفل مجنون. وهذه الطفولة هي النموذج الأصلي للبراءة والإبداع غير المحدود.
ومما لا شك فيه، ان فعل الكتابة في هذا النصّ يتحول إلى طقس سري و وشم وجودي، فالقلم لا يكتب على الورق، بل ينقش على الجسد (كفك، صدرك) وعلى جسد المكان المقدس (جبين رصيفك). وفي هذا تجاوزٌ لأداة الكتابة التقليدية وإعلانٌ لسريّة النصّ الخاص الذي “لا يقرأه إلا أنت و رصيفك وعمّانك”، حيث تتحول عمان إلى “أميرة القلوب”، أي رمز للملاذ الروحي والوطن الذي يمنح الأمان.
أما الإشارة إلى التوتر بين اللونين الأبيض والأسود في حجارة الرصيف فتتجاوز كونها وصفًا بصريًا، لتصبح كشفًا ميتافيزيقيًا يتوغل في عمق الصراع الوجودي والتناغم الكوني. هذا التناقض الجدلي يُمثّل قانون الديالكتيك الأبدي، حيث يرمز الأسود إلى قطب الفناء والعدم، زمن الوحل والليل الغامض، وثقل الواقع الذي يقيّد الروح بالسرد النمطي والروتين القاتل. وعلى النقيض منه، يُمثّل الأبيض قطب الولادة والتطهير، والنور الذي يبعث الإشراق، والسرد المُتجدد الذي يُعلن عن الهوية الجديدة. إن جوهر الإلهام والنشوة يكمن في إدراك العلاقة بين هذين القطبين لا كعلاقة إلغاء، بل تضايف، إذ يكتمل وجود أحدهما بالآخر حيث يكمن سر التحليق في فعل الكتابة ذاته على هذا التناقض، وتتحول هذه الأخيرة بالأبيض على الأسود/الأصفر إلى فعل سحري، يولد المعنى من قلب العدم. فالشاعر، بوعيه المتمرد، لا يسعى لتجاوز ثنائية الوجود، بل يسعى لاحتضانها كوحدة واحدة. وفي لحظة هذا الاتحاد بين الأضداد، تنطلق النشوة الروحية التي ترفع الذات من قيود الواقع المادي إلى فضاءات جديدة. فهي نتاج قبول التناغم الكوني، وتأكيد على أن الهوية الأصيلة لا تُكتشف في الصفاء المطلق، بل في الجدل الخلّاق بين النور والظل، مما يجعل الشارع بقوته اللونية الثنائية، هو المذبح الوجودي الذي يُعاد فيه تشكيل الذات.
إن هلوسة الشارع ليست وهما، بل هي حقيقة بديلة مُنتَجة ذاتيا، تُعيد بناء الذات الهاربة عبر الكتابة على المكان. فالشاعر يجد صورته ليس في مرآة غرفته المغلقة، بل في حجارة الرصيف، ليغرق في حلم جديد يختلف عن الأحلام المتكررة الأولى، مؤكدًا أن الذات هي نصٌ متجدد يُكتَب ويُؤوَّل على الدوام.
إن نص “هلوسة الشارع” كعمل أدبي، يعتبر وثيقة عبورٍ وجوديٍ تُشيّد نفسها خارج سلطة المرجع اللغوي والمنطق البشري، لتدخل في مجال الوعي الباطني والاتحاد الصوفي الذي يتجاوز حدود الذات والموضوع. حيث أنّ مفهوم الهلوسة هنا ليس اضطرابًا بقدر ما هو حالة تجلٍّ، تُكسَر فيها الحدود الإبستمولوجية بين الأنا المُدرِكة والمكان المُدرَك.
فذوبان الحدود بين الذات والموضوع يُمثّل إلغاءً للنظام الثنائي الذي يفرض الفصل، حيث يتحوّل الشارع إلى كينونة متحدة مع الذات التائهة. وهذا التحول يجعل فعل الكتابة على الجسد والرصيف أبعد من كونه نقشا ماديا، إنه طقسٌ روحيٌ للتفريغ، يتم فيه حقن الطاقة الفردية المتشظية في قلب الطاقة الجمعية الخام للشارع. وهذه الكتابة تعمل عمل المانترا الصامتة، وهي ذبذبة لا تُفك شفرتها عبر المنطق البشري، بل هي لغة تواصل أعمق بين الكيان السردي وكيان المكان، حيث يفهم الرصيف ما لا يستطيع اللسان قوله. وهذا التفاهم السري بين المتضايفين (الذات والمكان) هو ما يُنتج السردية الأصيلة التي فشلت الأحلام المكررة في إنتاجها.
وفي إطار التعمّق في الرمزية، فإنّ إشارة الشاعر إلى اللونين الأبيض والأسود تذهب إلى ما هو أبعد من التناقض الجدلي العادي، إنهما يرمزان إلى “الين واليانغ”، وهما يُمثّلان اكتمال ثنائية الوجود التي لا يُمكن فصلها (الليل والنهار، الوعي واللاوعي). وحسب المنطق العقلي فإن الفرح والنشوة لا ينبعان من فهم هذه الثنائية بل من قبول التناغم الكوني بين هذه القوى المتعارضة، وإدراك أن الحقيقة تكمن في توازنهما.
لذا، فإنّ هذا النصّ يُعاش كمدخل لحالة من الوعي الكاشف، حيث يجد فيه الفرد حقيقته خارج إطار اللغة وقيود الفكر المألوف. فالشارع، في نهاية المطاف، لا بوصفه مكان تعبره الأقدام، هو مرآة الحقيقية التي تعكس الروح الكونية، والوسيلة التي تعيد تشكيل الذات في فضاء التجلّي، مُحققًا بذلك الخلاص من وهم السردية المغلقة.
د. جواهر

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!