بقلم: محمد أبو الهيجاء
أولًا: البنية العامة للرواية
1. الفئة الأدبية
تنتمي الرواية إلى الأدب النفسي – الفلسفي بطابع إنساني عميق، حيث تنشغل بأسئلة الوجود، وبالميكانيزمات الداخلية التي تحرك الإنسان: الذاكرة، الألم، الخوف، الحب، والانتماء. هذا المزج بين العمق النفسي والبعد الإنساني يجعل الرواية تتجاوز السرد التقليدي إلى شكل تأملي يلامس جوهر الروح البشرية.
في هذا السياق النقدي، سآخذ رواية الأديبة “أحلام حسين غانم ” كأنموذج في البناء المتميز في مجال السردية التاريخية والفلسفية على حد سواء. يجدر بالذكر أنها استطاعت أن تكون من بين الدرر التي اختيرت في القائمة القصيرة لجائزة ديوان العرب. فالطريق معبّد لهذا النمط الراقي المتميز من الروايات الفلسفية لأنها لا تعتمد على الحسّ الذاتي فحسب، بل تذهب إلى آفاق بعيدة في التخييل وربط الحاضر بالماضي، أو الآجل بالعاجل، في معالجة فنية بديعة تجعل من الدخول إلى حناياها ماتعًا وشائقًا وملهمًا إلى أبعد الحدود.
2. اللغة
تقوم الرواية على لغة شعرية عالية تتكئ على المجاز، والرمزية، والصور الحسية.
الكاتبة تستخدم لغة مشبعة بالعاطفة، حيث تتحول الجملة إلى مساحة وجدانية تكشف ما لا يُقال مباشرة.
وتؤدي اللغة الشعرية وظيفتين أساسيتين:
1. الإيحاء بالأفكار والمشاعر بدلًا من التصريح بها.
2. تعميق البعد النفسي للشخصيات وجعل التجربة أقرب إلى قصيدة طويلة.
الصور الفنية (كالعطر، الفاكهة، الأشجار، الماء) تُستخدم لإضاءة المشهد الداخلي للشخصيات وليس فقط لتزيين اللغة.
3. السرد
تعتمد البنية السردية للرواية على تشظي الزمن، حيث يتنقل النص بين الماضي والحاضر، مما يعكس هشاشة الحاضر في مواجهة ثقل الذكريات.
يقوم السرد في الرواية على ثلاثة أعمدة:
أ. المونولوغ الداخلي
حيث تتحدث الشخصيات مع ذاتها، خاصة جلنار، بما يكشف صراعها الداخلي وترددها ووعيها المتوتر بالوجود وهنا نجد أنفسنا أمام مقولة “كريتيان” مفادها: “في الرواية يتعرّى القلب الإنساني من خلال المونولوج”.
ب. التأمل والعمق الفلسفي
يُستخدم التأمل كأداة لتحليل المشاعر والأفكار كمرآة عاكسة للعمق الفلسفي حيث ينطوي هذا التأمل الانعكاسي – كما يقول ميرلوبونتي- على قدرة إيجاد معنى لما يعايشه المرء نفسه، أو يعايشه شخص آخر، من خلال تأمل المعنى أو الماهية كما تتجلى في- ومن خلال- الشيء الجزئي أو الحدث.
لا تتعامل الكاتبة مع الحدث بشكل مباشر؛ بل تنظر إليه من زاوية النفس وتأثيره عليها.
حيث يبدو أن هناك أيضا وجه آخر مهم في بناء رواية “حين ينكسر القلب” ألا وهو البعد الفلسفي للشخوص.
لا تكتفي الراوية بالتأملات العميقة والمنطق الكارتيزي في رواية “حين ينكسر القلب” عندما تسرد الأحداث، بل تستخدم بين هذا وذاك وبحنكة فلسفية، الرواية كمنصة للتأمل في قضايانا الملحة، الآنية القابضة على أنفسنا في كل لمحة ونفس.
قضايا تؤرقنا مثل الحرب وأخرى نتوق لها مثل السلام والحب وثالثة نخافها مثل الموت في الترهات الغابرة وتحت قباب المحكمة التكفيرية.
من هذا المنطلق نجد أن تلكم التأملات تضفي بصورة أساسية عمقًا فكريًا على الرواية ومن ثمّ بعدًا اجتماعيًا فتجعل منها، دراسة فلسفية وإنسانية جديرة بأن نقف عندها، لماذا؟
لأننا نرى أنفسنا فيها بصورة أو بأخرى، وقد نجد منتجعات تأمليّة حول معانٍ هي مفاتيح في هذا العصر مثل الظلم الاجتماعي من جهة والنضال من جهة أخرى، وكل هذه العناصر جديرة بأن تضيف إلى الرواية وسرديتها الوجودية، كما في ” حين ينكسر القلب “، بعدًا فلسفيًا واجتماعيًا يجعل منها وثيقة إنسانية تثري مكتباتنا ومن قبل عقولنا التي عشش عليها السهل اللاممتنع.
ج. الانسياب الذهني (تيار الوعي)
الكتابة تتحرك بحرية بين اللحظة والماضي والخيال، مما يعطي القارئ شعورًا بالغوص في ذهن الشخصية لا مجرد متابعة أحداث خارجية.
4. ثنائية الواقع والخيال
هذه الثنائية تشكل محور البناء الفني للرواية.
فالكاتبة تمزج الواقع بالخيال في مشاهد كثيرة، بما يعكس:
أمنيات الشخصيات
هواجسها
أشباح الماضي
مخاوف المستقبل
تأتي في أهمية هذه الثنائية انّها تنقل الفكر من اختبار العالم كما هو الى اختبار النسخة الشخصية التي يصنعها بطل الرواية في المستقبل لهذا العالم، ومعالجة الأمنيات الخام، والالتفات إلى الدوافع المظلمة في الدواخل الإنسانية والبحث في الجنس والدين والانتحار والإدمان والطمع والانتهازية وكيفية تجاوزها عبر قيادة الإرادة.
فينتج من هذه الثنائية عالم يتذبذب بين الحلم والحقيقة، بين الذاكرة والخيال، بين ما حدث فعلاً وما تتمنى الشخصية لو حدث.
هذا التذبذب ليس أسلوبًا جماليًا فقط، بل محور لفهم الصراعات الداخلية الذي يعكس إبداعاً استثنائياً يصعب محاكاته.
5. الرموز الطبيعية
تعتمد الرواية على رموز مركزية تتكرر وتؤدي وظيفة دلالية:
الرمز دلالته
الرمز هو الطاقة الفكرية للمعاني والدلالات ويتميز الشكل الرمزي بأنه يخلق علاقات بين الإشارات الحسية والمعاني، وفي ضوء ذلك تم تناول الرمز في رواية “حين ينكسر القلب ” كجسر للتواصل وسد الفجوة بين القارئ والكاتب:
شجرة النارنج الحب، الجذور، التحول، الصراع الداخلي
العطر الذكريات والحنين وحضور الغائب
الماء التطهر/النقاء/التحول/البداية الجديدة
الرياح الصراع والتغيير والانكسار
الظل الخوف، الماضي، الذات غير المصالحة
هذه الرموز تُستخدم كأدوات نفسية أكثر منها طبيعية.
—
ثانيًا: تحليل الشخصيات
1. جلنار (البؤرة السردية)
تُعد جلنار مركز الرواية، والعدسة التي نرى من خلالها العالم.
تظهر كشخصية محمّلة بصراعات داخلية:
صراع بين الروح والجسد
جرح قديم مرتبط بالهوية والحب والانتماء
وعي وجودي متوتر بين الرغبة والخوف
تجربة فقد أو خذلان تُعيد تشكيلها نفسيًا
تمر جلنار بأربعة مراحل نفسية واضحة:
1. التوق (رغبة في الحب أو الاطمئنان)
2. الانكسار (تجربة مؤلمة أو فقد)
3. المقاومة (إعادة تشكيل الذات بعد الألم)
4. التحول (وعي جديد أكثر قوة ونضجًا)
تُستعمل شخصية جلنار أداةً لتمرير رؤية الكاتبة حول:
الحب
الذاكرة
الاغتراب
الوجود
العلاقة المعقدة بين القلب والعقل
لذا فشخصيتها ليست مجرد شخصية قصصية، بل تمثل جوهر العالم الروائي.
2. ماركوس
ماركوس، رغم حضوره المحدود في الفصل الأول، يظهر كرمز أكثر من كونه شخصية تقليدية.
رمز للرجولة المتعثرة
مرآة للحب المؤلم
نقطة تحوّل في حياة جلنار
حضور غائب يظل يتحكم بمشاعر البطلة حتى في غيابه
يواجه “ماركوس ” والشخصيات اختباراً للوعي الذاتي في عالم مليء بالفوضى والحروب. بينما في القوة المتحركة، يتم ربط القوى الوجودية بالفلسفة لعرض القوى الخفية التي تتحكم في الحياة، مثل المصالح والسلطة والخوف، مما يقيد حرية الحياة ويخلق واقعاً مليئاً بالاحتمالات التي قد تكون أكثر إنسانية أو صدقاً.
ماركوس ليس “شخصًا” فقط بل “حالة” تشكل محور الانكسار العاطفي.
—
ثالثًا: العلاقة بين البنية والشخصيات
البنية الفنية للرواية ليست منفصلة عن الشخصيات، بل تنمو منهما:
اللغة الشعرية → تعبّر عن الروح الشفافة لجلنار
تيار الوعي → يكشف الصراعات داخلها
الرموز الطبيعية → انعكاس لحالتها العاطفية والنفسية
الخيال المتداخل مع الواقع → يمثل اضطرابها الداخلي وذكرياتها المؤلمة
عمق السرد النفسي → يعكس تطور جلنار ومراحل التحول التي تمر بها
حتى شجرة النارنج، رمز مركزي في النص، يمكن قراءتها كتمثيل لعلاقة جلنار بماركوس:
جذور عميقة، ألم خفي، ورائحة لا تزول بسهولة.
وبذلك تصبح الرواية بناءً متكاملاً، حيث الشخصية هي البنية، والبنية تعكس الشخصية.
—
الخلاصة النقدية
رواية “ماركوس: حين ينكسر القلب” عمل أدبي يجمع بين:
عمق نفسي
لغة شعرية
بناء تأملي
رموز دلالية
صراع وجودي
تقدم الرواية رؤية وجودية معقدة للصراع الإنساني، حيث تتجسد التوترات بين الذات والطموح، والأحلام والواقع، والقيم الروحية التي تمنح الحياة معناها والمادية التي تلتهم الروح.
الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات لتحريك الحبكة، بل تمثل انعكاسات للجدليات الكبرى التي تعيد تشكيل علاقتنا بالعالم.
“ماركوس” الذي يعيش على حافة التناقضات الوجودية، يصبح رمزاً لإنسان يعاني من اغتراب داخلي في مواجهة عالمٍ يفتقر إلى المعنى. يعيش صراعات كبرى ،ويحمل تأملات عميقة حول الحياة والموت، الشجاعة والهوان ويسعى للبحث عن القيم المفقودة في حياته المادية.
تتجلى هذه الصراعات في مواقف وقرارات متعارضة، ومشاهد تعكس الشعور بالوحدة والعزلة، والتناقض بين الروح والجسد.
ونتلمس الصراع الداخلي وهو الصراع مع الذات، حيث تتصارع الشخصية المحورية مع أفكارها ومعتقداتها ورغباتها المتناقضة، مثل الصراع بين الحرية والمسؤولية.
وتشكيل شخصيات عبر الداخل أكثر من الخارج ذات تأثير عميق يجمع بين سهولة الوصول إلى القارئ وقوة التأثير، حيث يشعر القارئ بأنه جزء من النص دون أن يضيع في تعقيداته.
في نهاية المطاف، إنها ليست رواية أحداث، بل رواية مشاعر وتحولات داخلية، تجعل القارئ يختبر الألم والحنين والبحث عن الذات كما لو كانت تجربة شخصية.
لا سيَّما ترسخ رواية ” ماركوس “حين ينكسر القلب “نفسها كعمل أدبي وفكري ذي أهمية بالغة في المشهد الثقافي المعاصر، وتؤكد أن الكتابة هي فعل مقاوم حن ينكسر القلب وفي ضوء هذا المشهد، يبقى التساؤل: كيف يمكن لهذه السرديات الوجودية أن تواصل رسم ملامح الوعي الجمعي في مواجهة غزو التواصل العنكبوتي وانقلاب موازين القيم ؟
من الرواية : “إلى حَواسِّي المُنصهِرة في حاسَّةٍ واحِدَة..
إلى سيِّدةٍ في الماء تُحصي رُكامَها ..وتروي – كَما تروي الشموس- مَقامَها..إلى أولئك الذين كانوا هنا لكنّهم أفَلوا – مثلَ الأهلةِ- بعدما اكتملوا..إلى من وهب لي قوّة المَلَكة في السكون والحركة .. إلى من زرع بالقلب ألفَ سُنبُلةٍ، وفجّر ألف نبعٍ كي يضيفَ إلى الأنوثة ألفَ بوصلة وبوصلة .. إلى أنثى يمَّمتْ آهاتها برماد “يا ليتَ”..
إلى هؤلاء الجياع جميعًا الذين يبخرون شفاههم صباح مساء بنور الله (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)”.
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية

