حياة
جلستُ أمام سريره على الأريكة التي طالما جلست عليها. بدا شاحب الوجنتين، متهدّل الجلد، ناتئ العظام، بينما سكون مهيب يقبض على فضاء الغرفة.
استند جالسًا متكئًا على وسادته، نظر إليّ بعينين لامعتين على غير عادته، أخذ نفسًا عميقًا، بثّ عبره وهن أنفاسه، حدّثني عن طفولته المبكّرة قبل ثمانين عامًا، وعن الشجرة التي غرستها له أمّه في ساحة المدرسة، والتي كانت تحمل الماء كلّ مساء على رأسها لتسقيها. استفاض بذكرياته وكأنها تنبعث من جديد. عند منتصف الليل توقّف عن الحديث ليكمله لي في الليلة القادمة.
ولم يكن يعلم، ولم أكن أعلم أنّه لن تكون ليلة قادمة.
***
وصيّة
أخبرني والدي في أثناء مرضه، أنه ترك لي وصيّة وضعها تحت وسادته.
بعد إجراءات الدفن، عدت إلى وصيته، خشية أن تضيع، وضعتها في جيب سترتي الداخلي. في آخر الليل، استطعت أن أخلو بنفسي. بيد مرتجفة، فتحت المغلف.. أخرجت الوصيّة، قلبتها على وجهيها، كانت صفحة بيضاء خالية من أيّة كلمة…
***
لقاء
ضمّ الحفل عددًا كبيرًا من المدعوّين.
عرفت بعضهم ولم أعرف أكثرهم، في أثناء ذلك التقيت وجهًا لوجه بوالدي المتوفى منذ عشرين عامًا، حدّق بي، وحدّقت به، تجاهلنا بعضنا، ومضينا نتابع فقرات الحفل، بين الفينة والأخرى أسترق النظر إليه، فأجده يسترق إليّ النظر أيضًا..
قلبي يحدثني بأنّ أمرًا ما سيحدث لي الليلة…
***
ماء
أشار لي أبي أن أقبل عليه.
اندفعت نحو النهر، قطعته عومًا، حتى وصلت إلى الضفة الأخرى لاهثًا، بحثت عن أبي فلم أجد له أثرًا، لاحت منّي نظرة إلى الضفة التي تركتها خلفي، كان هناك حيث كنت أقف، لوّحت له بيدي، نظر نحوي هنيهة، ثمّ أدار لي ظهره وراح يتوارى خلف الأشجار الكثيفة…
***
أبي
انتهى اليوم الدراسي، فرافقت الأطفال في الحافلة لإيصالهم إلى منازلهم.
عندما توقّفت الحافلة على الإشارة الضوئية كنت أحاول تخمين ما غداؤنا اليوم. التفتّ من النافذة إلى السيارة المجاورة، فإذا أبي ينظر إليّ مبتسمًا، ملئت بالخوف، فصرفت نظري عنه فورًا، لكنّ دافعًا ما جعلني أنظر إليه ثانية فوجدته ما زال ينظر إليّ، تشجعت هذه المرة وابتسمت له..
لوّحت له بيدي، فلوّح لي بيد مبتورة…
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية