عندما يقترب المساء وتتوارى خيوط الشمس الذهبية خلف الشفق الأحمر، تحل نسمات الهدوء ضيفًا شهيًا، تصحب معها طيف مَن نحب، أتى بطيفه لأنه عَلِمَ صعوبة الوصول إليه، الكل في المساء يهجع لفراشه والمساء يهمس في آذانهم هيّا استيقظوا استيقظوا انهضوا لتتلذذوا بهدوء المساء وتنفس هوائه العليل، انهضوا قبل أن يعود النهار لمهاجمتكم، هيّا… هيّا…، ولكنهم لم ينهضوا، إلا العشاق منهم فهم أصدقاء المساء الأوفياء، لأنهم عرفوا أن المساء نافذة يطلون بها على من يتعرشون قلوبهم؟! وعلى ما يكتنف المساء من ظلمةٍ إلا أني أحبه، لا لشيء إلاَّ لأنه يحترف محو آثار الحزن بعد ضجيج النهار، فتعانق قطرات الندى تلك الأزهار التي تُزين حواف شرفة منزلنا، هذا هو الجمال السرمدي، وزقزقة العصافير التي تعزف سنفونية عشق، والأضواء الخافتة من البيوت المجاورة تخجل من ضوء القمر الذي يتألق كل مساء بعد أن طوى قسوة النهار، أدهشتني الشمس التي غابت عند حضور القمر مُعلنة بذلك هزيمتها أمام بهائه كل مساء. إنَّ طبيعة الإنسان ميّال إلى الأحكام الانطباعية التي يأخذها من العنوان، ولم يغفل سامر المعاني عن ذلك فقد صقل بمهارته إلى انتقاء عنوان ينم عن رؤية عميقة بما يكتب، فكان للعنوان (ستائر المساء) القدرة على استقطاب أنظار القراء، ولا ننسى في ذلك أيضًا العناوين الفرعية لكل قصة. خرج سامر المعاني عن القوالب المعهودة في حياكة قصة قصيرة، فنجده قد نأى بنفسه عن الممرات الضيقة التي يستوطنها القاصون، احترف القصة القصيرة الومضة، هذا النمط الإبداعي الجديد كان له الحظوة في الأواسط الثقافية. لقد كان حظك وافرًا في ستائر المساء، فأنت يا سامر برؤيتك هناك أفسدت الاستسلام لدرس الامتثال للقصص القصيرة السابقة، الذي يلهج به القاصون. ليس من الحكمة عدم العناية باللغة خاصة عندما يتعلق الأمر بالنصوص الأدبية، فالموضوعات والمضامين متقاربة أو تكاد متماثلة بين القاصين، ولعلَّ ما يميز نص عن آخر هو اللغة المستخدمة التي على الأديب السهر على انتقائها، فاللغة تستدعي الاحتفاء والاهتمام والعشق كي تمتزج بالروح الداخلية للقاص المنبثقة عن تجربته الحياتية، فتجربة الأنسان تتمثل في نصوصه فلا يمكن أن يكتب بمعزل عن تجاربه الحياتية، وإن كتب وقرأ لنفسه بموضوعية سيصاب بالخذلان مما كتبت أنامله، التجربة الحياتية كالنبض في القلب أمر داخلي باطني ينعكس على سير الحياة بأكملها. استطاع المعاني في مجموعته القصصية هذه، أن يبرهن على اندماج تجاربه الحياتية في نصوصه التي صاغها بلغة رفيعة الانتقاء، اللغة عنصر مهم من عناصر الكتابة الأدبية إن لم يكن أهمها على الإطلاق، لغة المعاني الروح الخاص لذلك الجسد (النص) التي هي من صميم تجاربه الحيّة. لغة المعاني هي ثروته الشخصية له كل الحرية في التصرف بها في نصوصه، فهو لا يقف إزاءها موقف العبد، بل موقف الملك يصوغها كما يشاء. عبقرية العربية تأتي ببلاغتها، والمجاز جزء لا يتجزأ من البلاغة العربية، ومن هنا لم يكن لستائر المساء أن يتألق دون المجاز، فالمجاز هو الأجنحة التي تُجبر القارئ على التحليق في فضاء النص، بل مع كل حرف من النص الأدبي. وقد سلك المعاني مسلك المجاز، فلم يتحصن بالتردد بالوهم، أو يتذرع بالوضوح مفرطًا بالغموض الذي يأسر عقلية القارئ ويجعله يتمحص النص الأدبي غير مرة. وغير المجاز فقد عمد المعاني إلى استخدام الخيال القصصي ببراعة، لأنه لا يغفل أنَّ الخيال من الاستراتيجيات المهمة التي تحقق عددًا من الفوائد كالمساعدة في الخوض في التفاصيل البسيطة وكذلك التركيز على التفاصيل الأكثر أهمية وإبرازها على أفضل وجه، كما يساعد الخيال على ربط التفاصيل الثانوية بالأكثر أهمية في سياق واحد، مما يجعل للتفاصيل الثانوية أهمية التفاصيل الرئيسية. والآن أشعر بلذة غامضة أقرب إلى ما تكون لذة روحانية وأنا أقرأ سامر المعاني في ستائره المسائية .
إضاءة بقلم: الدكتورة حنين ابداح.