بقلم : سعد عبد الله الغريبي
التشكيل الجمالي في شعر عبد العزيز خوجة كتاب للباحثة الأستاذة مستورة العرابي صدر عن نادي جدة الأدبي في طبعته الأولى عام 1435 الموافق 2014 يقع في نحو ثلاثمائة صفحة في ورق صقيل وطباعة أنيقة.
وأول ما يشد انتباهنا – ولا أقول يلفته – هو أن الكتاب جهد علمي وعمل أكاديمي وإن لم تذكر الباحثة ما يشير إلى ذلك عدا شكرها المسؤولين في جامعة الطائف وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور جريدي المنصوري المشرف على البحث.
وقد اعتمدت الباحثة في دراستها هذه على المجموعة الكاملة لشعر عبد العزيز خوجة الذي حوى دواوينه المفردة وطبعتْه دار الأبحاث والنشر والترجمة بالعاصمة الجزائرية سنة 2010 في أربعمائة وأربعين صفحة.
يتألف الكتاب من تمهيد وخمسة فصول فضلا عن المقدمة والخاتمة وثبت المصادر والمراجع.
في المقدمة حددت الباحثة أهدافها من الدراسة ومنهجها والدراسات السابقة، أما في التمهيد فقد عرَّفت الباحثة بالشاعر فتناولت مولده ونسبه وسيرته العملية، وعرّجت على مسيرته الشعرية ومؤلفاته ودواوينه وموضوعات شعره وما كُتب عن شعره من دراسات.
وقد عنونتِ الفصل الأول بـ (عتبات النص) وتحدثت بداية عن اهتمام النقاد المحدثين بالعتبات كما أشارت إلى أن من القدماء من تناول العتبات وإن لم ينص عليها كالصولي. لكن الباحثة اقتصرت على عنوانات القصائد دون غيرها من العتبات.
أما الفصل الثاني فكان بعنوان (جماليات التشكيل الموسيقي) وفيه أحصت البحور الشعرية التي كتب فيها الشاعر قصائده ومقطوعاته مع إشارة إلى جنوح الشاعر إلى التجديد ملامسا في ذلك الموشحات الأندلسية. ووصلت الباحثة إلى أن أكثر شعر الشاعر كان في بحر الكامل والرمل والمتدارك على التوالي، وأقل البحور استعمالا كان المجتث والهزج والطويل.. وكذلك تناولت الحديث عن القوافي المستعملة لدى الشاعر وصممت جدولا إحصائيا بحروف الروي لدى الشاعر واتضح أن حرف الراء والباء والقاف كان أكثر الحروف استخداما وأقلها كان العين والكاف والهاء والحاء.
وتناولت مسألة الزحاف والعلل وكيف جاءت لصالح الجمال الموسيقى عند الشاعر كما تطرقت لظاهرتي التصريع والتدوير في شعره.. واختتمت الفصل بعرض نماذج من هفوات في الإيقاع وملحوظات تتعلق بالوزن و أخرى تتعلق بالقافية.
وفي الفصل الثالث الذي كان بعنوان (جماليات الصورة الشعرية) بدأته بالحديث عن ماهية الصورة الشعرية في النقد العربي القديم ثم في النقد الحديث، وتحدثت عن وسائل تشكيل الصورة لدى الشاعر الخوجة ومصادرها التي اتضح أن من أهمها القرآن الكريم والحديث الشريف بحكم نشأته الأولى، والثقافة الشعرية والطبيعة.
وتناولت الباحثة في الفصل الرابع (المعجم الشعري عند عبد العزيز خوجة) وخلصت إلى ثراء معجمه، وعزت ذلك إلى تنوع مصادر معجمه الشعري التي يأتي في مقدمتها القرآن الكريم والسنة الشريفة، إضافة إلى تنوع المكان حيث عاش فترات طويلة في مناطق من العالم كلها زاخر بالجمال الطبعي مثل تركيا ولبنان والمغرب.
أما الفصل الخامس فقد عنونته بـ (العوارض التركيبية في شعر عبد العزيز خوجة) وتقصد به ما يعرض لركني الجملتين الاسمية والفعلية من عوارض التقديم والتأخير وحذف أحدهما والفصل بينهما مما يبيحه النحاة ويهتم به البلاغيون وكذلك ما يقف بين الركنين من جمل اعتراضية وعلاقة ذلك بتشكيل شعره جماليا.
الكتاب فيه جهد علمي واضح وهو دراسة أكاديمية – كما أسلفت- وكفاه أنه كان تحت نظر أستاذ يشار له بالبنان؛ أعني الأستاذ الدكتور جريدي المنصوري وتمت مناقشته من قبل باحثين أفاضل. لكن بعد أن خرجت الدراسة من أروقة الجامعة وأصبحت في كتاب مطبوع فقد غدت ملكا للقراء ولذا لا أجد حرجا في أن أدلي بملحوظاتي على الكتاب بوصفي قارئا لا باحثا ولا ناقدا، وهي كلها ملحوظات لا تقلل من شأن الكتاب ولا تبخس الجهد المبذول فيه..
في [ص 25] تقول الباحثة: “وحسب مكة والمدينة أنهما أنبتتا شاعرا عرف الأصالة العريقة”. ولا أظن هذه إلا زلة قلم، فلعلها أرادت “حسب الشاعر أصالة أنه نبت في مكة والمدينة”..
في الجدول المنشور [ص 75] الذي يحصي تكرار بحور الشعر التي نظم عليها الشاعر قصائده وفي العمود الأخير منه (نسبة كل بحر بالقياس) جاء الرقم موحدا من أول الجدول إلى آخره (29.04%) مع اختلاف مجموع القصائد في كل بحر. والمفترض أن تختلف النسبة باختلاف العدد. وهناك خطأ مطبعي في السطر الثالث من الجدول في مجموع القصائد إذ كتبتها (3) والصحيح (33).
تحدثت الباحثة عن التدوير وكأنه ظاهرة لدى الشاعر: “والتدوير في شعر خوجة علامة بارزة فيكثر بصورة لافتة للنظر” { ص92 } وللتدليل على ذلك استشهدت ببيتين من بحر الخفيف ثم بأبيات من مجزوء الكامل. والحقيقة أن بحر الخفيف من البحور التي يكثر فيه التدوير في الشعر القديم والحديث وتكاد لا تخلو قصيدة من بحر الخفيف من التدوير قديما وحديثا. ولعل من أشهر القصائد المعروفة المدورِ معظم أبياتها قصيدة أبي العلاء المعري التي مطلعها:
غير مجد في ملتي واعتقادي
وقد أحصيت أبياتها المدورة فوجدتها ستة وأربعين من أصل أربعة وستين أي بنسبة 72%
وما يقال عن كثرة التدوير في بحر الخفيف يقال عنه في المجزوءات وعلى سبيل المثال فإن قصيدة الشاعر عبد الله بن إدريس (في زورقي) التي حمل ديوانه اسمها تصل أبياتها المدورة نحو النصف (سبعة عشر بيتا من أصل خمسة وثلاثين).
فالتدوير ليس خصيصة من خصائص الشاعر كما ذكرت الباحثة.
وتتحدث الباحثة عن التدوير في القصيدة الحرة (وتعني بها قصيدة التفعيلة) فتقول: “أما التدوير في القصيدة الحرة لدى خوجة فيبرز في القصيدة التي قد تطول أبياتها بشكل غير مألوف حتى يصبح البيت وكأنه مجموعة من الأبيات المتصل بعضها ببعض بل إن بعض القصائد الحرة لديه قد أصبحت بيتا واحدا متصلا لا ينتهي عروضيا إلا مع نهاية القصيدة” [ ص93] وتستشهد بمقطع من قصيدة (أوبة العاشق) :
وبحثت فوق ضفاف نيلك
عن هوانا عن أثر
تلك السنون الراحلات
وراء إخفاق العمر
الهائمات بخفقنا
السابحات مع القمر
العابثات بوجدنا
العازفات على الوتر
قد جئت يا مصر الهدى
كحمامة في المغتدى
ويمامة هيمى تلوح
غمامة خلف المدى
ومن يتأمل هذا المقطع من القصيدة يجدها قصيدة عمودية – وليست حرة – من مجزوء الكامل فيها ثلاثة أبيات مدورة فقط لكنها كتبت بما يوحي بأنها قصيدة تفعيلة.
وحين تناولت التصريع في مطالع بعض قصائد خوجة استشهدت [ص95 ] بالبيت التالي:
لهب في كبدي موقده .. أمل بالوصل يبرده
وقالت إنه “التزم العروض المخبونة (فعلن) والضرب المخبون مثلها في كل القصيدة”. ومن يتأمل القصيدة يجد أن الخبن ليس مقصورا على العروض والضرب؛ بل هو في تفعيلات القصيدة كلها، فهي من بحر الخبب القائم على تكرار تفعيلة (فعلن) بتحريك الثاني أو إسكانه.
وفي ختام الفصل الثاني تناولت الهفوات الإيقاعية لدى الشاعر فعدت من ذلك قوله [ص 127]:
كأني طائر ينجو من السجان .. والأغلال والأقفاص والمهوى
إذ لم يزح النون إلى الشطر الثاني. وأكاد أجزم أن هذا من أخطاء الناسخ الذي رقن مسودة الديوان، وهو يحدث كثيرا من النساخ حتى إن من الشعراء من لا يقسم الكلمة في البيت المدور بين الشطرين ويضع بدلا من ذلك حرف (م) بين قوسين للدلالة على أن البيت مدور. وقد وقعت المؤلفة فيما عدته هفوة من الشاعر إذ أوردت أبياتا له مدورة [ص 92] وكتبتها دون مراعاة لنهاية الشطر الأول؛ هكذا:
هذا الفؤاد العاشقُ .. الهيَّام من وَلهٍ يطيرْ
سبق الحشود وفرّ .. بالأشواق من أسْر نكير
ياطيبة المجد الأثيل .. وغرة الشرف النضير
وقد حصل خطأ مطبعي في البيت موضع الاستشهاد [ص 92] المشار إليه آنفا وهذا الخطأ قد أخل بالبيت وبالاستشهاد معا لولا أنه من السهل اكتشافه، فقد كتبت البيت هكذا:
كأني طائر بقا ينجو من السجان…
فكلمة (بقا) واضح أنها من الأخطاء المطبعية..
كما أخذت على الشاعر اختلاف حركة ما قبل الروي الساكن، كما في قصيدة (كفي مجنونك) فتقول [ص128]: “نلاحظ اختلاف حركة الحرف الذي قبل الروي (الباء) المقيد فحركة ما قبله جاءت مختلفة من شطر لآخر… وعدم الالتزام بحركة ما قبل الروي الساكن يؤخذ عليه وهو ما يسميه علماء العروض سناد التوجيه وهو أحد عيوب القافية”.
وهذا العيب مما تجاوز عنه أهل العروض لشيوعه لدى معظم الشعراء قديما وحديثا. يقول الهاشمي في ميزان الذهب [ص127 ] “وهذا السناد قد أجازوه لكثرة وقوعه في أشعار العرب”.
ولعل من أوضح الأمثلة لشيوع هذا العيب قصيدة عمر بن أبي ربيعة الشهيرة (ليت هندا أنجزتنا ما تعد) فالقصيدة تتألف من ثمانية عشر بيتا فَتح ما قبل الروي الساكن في عشرة أبيات وكَسره في سبعة أبيات وجاء به ساكنا مرة واحدة.
وهناك خطأ طباعي لم أكن لألتفت إليه لولا أنه وقع في موضع الشاهد. تقول المؤلفة حين تحدثت عن مدلولات المفردات الصحراوية لدى الشاعر [ص 216]: “وارتبط (الفقر) بدلالة اليأس وقطع الأمل” ولا شك أنها تعني (القفر) كما استشهدت بقوله:
صمت القفر طويلا وبكى .. وعلى كثبانه الظمأى اتكا
وعندما نصل إلى الفصل الخامس – وهو الأخير – المعنون بـ (العوارض التركيبية في شعر عبد العزيز خوجة) نجد الباحثة تقسم هذه العوارض إلى ثلاثة أقسام هي:
أولا: عارض الرتبة أي الخروج على الترتيب المعروف لركني الجملة وما يلحقها من فضلة كتقديم المفعول به في الجملة الفعلية والخبر على المبتدأ إذا كان شبه جملة.
والثاني: عارض الحذف كحذف المسند أو المسند إليه في الجملتين الاسمية والفعلية وحذف أداة النداء.
والثالث: عارض الفصل والاعتراض بين ركني الجملتين الاسمية والفعلية بشبه جملة أو مقول قول ونحو ذلك.
وقد أشارت الباحثة [ ص244] إلى أن السيرافي شارح كتاب سيبويه قد أشار إلى العوارض بهذا الاسم إذ يعرفها بأنها: “ما يعرض في الكلام فيجيء على غير ما ينبغي أن يكون عليه قياسه”.
كما أوردت أقوال بعض المتقدمين من علماء اللغة والبلاغة في أغراض وجود هذه العوارض فأشارت [ ص 247] إلى مقولة ابن جني حين تناول تقديم شبه الجملة من أن القصد منه “التخصيص والاهتمام والعناية بشأن المقدم”.
كما استشهدت [ ص 250] بمقولة ابن يعيش في تقديم المفعول: “وقد تقدم المفعول لضرب من التوسع والاهتمام به والنية به التأخير”.
والمتأمل في كلام البلاغيين عن أغراض التقديم والحذف يجد أنه ينطبق على النثر أكثر ما ينطبق على الشعر لأن الناثر لديه القدرة والحرية على التقديم والتأخير والاعتراض بحسب ما تمليه رغبته في تحبير نصه، لكن الشاعر يجد نفسه مضطرا إلى ذلك بحسب وزن البيت أو التصريع أو البحث عن القافية، فلا يمكن أن نقول إنه اختار التقديم تعبيرا عن حالته النفسية أو اهتماما بالمقدم، وبالتالي لا يمكن أن يكون شيء من هذه العوارض ظاهرة تخص شاعرا بعينه كما تقول الباحثة: “إن ظاهرة التقديم والتأخير تمثل ظاهرة أسلوبية ذائعة الانتشار في شعر عبد العزيز خوجة”. فأين الشاعر الذي يخلو شعره من العوارض فيأتي نظمه وفق الترتيب السائد للجملتين الاسمية والفعلية؟.
ولذلك لا داعي لأن تعجب الباحثة من عدم تسليط الضوء على العوارض التركيبية من قبل في أية دراسة من الدراسات التي تناولت شعر عبد العزيز خوجة. [ ص 245]
إن سماح اللغة العربية بوجود هذه العوارض هي التي تمنح الشاعر القدرة على التحكم في أوزان شعره واختيار قوافيه.
ومراعاة للحيز المتاح لهذه المقالة سأكتفي بإيراد شاهدين مما استشهدت به الباحثة للتدليل على أن الشاعر اختار العوارض لأغراض فنية وأسلوبية.
تقول الباحثة بعد أن أوردت البيت التالي [ص 247]:
أفنيتُ نفسي في ضيائك نشوة .. وإليك يا أملي تركت قيادي
“حيث قدم شبه الجملة (إليك) على قوله (تركت قيادي) وهي جملة فعلية وتقديم الجار والمجرور يجعل منه البؤرة الرئيسة التي يتجه إليها المعنى بدءا من عتبة العنوان فهو نداء خاص من محب لحبيبته وخطابها والتحدث إليها ووصف ما ألم بها في سبيل حبها”.
وأقول: إنه لا ينكر أحد جمال هذه الإضافة التي وهبها تقديم شبه الجملة لكن الشاعر لم يختره فهو مجبر عليه بحكم القافية الدالية.
والشاهد الآخر الذي أختم به هو قوله:
من الأحلام جئت أم الغيوبِ .. ومن ألقى بحسنك في دروبي؟
وقد أحسنت الباحثة إذ أوضحت أن التقديم والتأخير – كما في الشطر الأول من هذا البيت – يقوم بدور إيقاعي حيث يتوسل الشاعر من خلاله إلى إقامة وسائل إيقاعية كالتصريع في مستهل القصيدة [ص 252].
وختام القول: إن هذا الكتاب إضافة قيمة للمكتبة العربية ومحفز للمزيد من الدراسات الأدبية لشعرائنا المميزين..